سلمى قاسم جودة تكتب :حديقة الشاى.. وغواية النوستالجيا

سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة

الصباحات الخريفية.. الشمس تخفت.. الشمس تقدح بزخارفها المذهبة.. تنثر الأوشحة المهولة فتتضرج السماء تارة بحمرة بنفسجية وتارة بلون الشهد والمرمر.. حديقة الشاى بنادى الجزيرة أو كما يسمونها ∩تى جاردن∪ المطلة على الممشى ∩التراك∪.. هى المكان الحافل بالحكايات، الذكريات، الوجوه والأجساد العابرة كالنسائم.. كل صباح حكاية قديمة.. جديدة، يمتزج الواقع مع الخيال فى تعشيقة بديعة تتناغم مع تعشيقة الأشجار المدغلة بخضرتها اليانعة.. وبينما أمشى أتأمل كيف يتلون ويتجمل الوجود بالعشق والإبداع.

الأدب يعيد تدوير الحياة، لايحاكى الواقع ولكن يستعين، يستعمل الأحداث والشخصيات ومرجعيتها الواقعية تكسبها الجاذبية الاستثنائية حدث هذا التواصل والتأثير السحرى فى ∩كارمن∪ لميريميه، و∩مدام بوفاري∪ لفلوبير ∩ذهب مع الريح∪ لمارجريت ميتشيل، ∩جين إير∪ و∩مرتفعات وزرينج∪ للاختين برونتى و∩أنف و٣ عيون∪ لإحسان عبدالقدوس وأذكر ماسطره شاتوباريان (القطيعة مع الأمور الواقعية أمر سهل ولكن مع الذكريات فالقلب يتقطع لهجر الأوهام، لقلة مافى الإنسان من حقيقة).

نحن الآن فى حديقة الشاى أواخر الثمانينيات، الزحام غير المسبوق فى تاريخ نادى الجزيرة، هى الانتخابات الأهم فى تاريخه، يدلف د.هاشم فؤاد إلى الحديقة هو العميد الأشهر والأعظم فى قصر العينى لن أنسى هذا المشهد المدهش ماحييت، لا أحد لايصفق للدكتور الذى سوف يكتسح، أسمع الأصوات النسائية تصدح أصبح ∩فى بيتنا رجل∪ فى نادينا رجل وكيف لا وهو الأستاذ العميد الذى أعاد لقصر العينى هيبته، انضباطه، ففى عهده الداخل محظوظ والخارج مولود، لا كما كان الشائع أن الداخل مفقود والخارج مولود.. هو أيضا الرجل الذى حارب التطرف والتعصب بكل جسارة فكان يقول دوما افعل الصواب ولا تخش توابعه ربنا بيستر مادمنا نفعل الصح، حتى عندما حاولوا اغتياله ٣ مرات لم يتراجع، وكان يكرر بسخريته المعهودة أن الشيء الوحيد الذى يكدره هو أنه تعود أن يكون دائما رقم ١ ولكن هذه المرة هو الرقم ٢ فى قائمة الاغتيالات فهو يأتى بعد فيفى عبده! لقد رفض تولى الوزارة مرات ثلاثا فهو لايرضى إلا بالانتخاب ويؤكد أحب أن يختارنى الناس وأن أرحل بإرادتهم أيضا، هذا الاحتفاء والتصفيق المزلزل فى الحديقة، بينما تدبر الحقبة الثمانينية يحيلنى إلى مكان آخر وزمن آخر.

قلب القاهرة.. وسط البلد الأجواء الغائمة والنوافذ والشرفات المضببة بفعل حبات المطر تضفى غشاوة خريفية على البنايات العريقة آنذاك.. رائحة القهوة والفانيليا، التبغ، العطر والذكريات تختلط بهواء العصر تنبعث من مقهى الأمريكين المجاورة لعيادة د.هاشم فؤاد حيث المبنى المهيب لدار القضاء وسينما ريفولي، يدلف الأديب الرائع إحسان عبدالقدوس الذى جمل حياتنا وصاغ وجداننا بإبداعاته الفذة وعناوينه العبقرية التى صارت كالقرين الأبدى لوجودنا إلى عيادة د.هاشم وقد كان اللقاء الذى أسفر عن الرواية الاستثنائية ∩أنف و٣عيون∪ فبنظرة عين نافذة وألق الموهبة الفريدة لإحسان المهشمة بكل جسارة وتمرد على كل التابوهات والمألوف شعر الأستاذ أنه وجد ضالته، البطل الأنف أو الإطار الذى تدور حوله الرواية العاصفة، نظر إلى د.هاشم صاحب العينين الخضراوين المنتفختين وكأنه يتثاءب فى ضجر ونوع من الكسل الذكى بالرغم من طاقته الجامحة، الديناميكية وحيويته التى تفوق وتتجاوز ساعات النهار، الزمان والمكان، قال إحسان سوف تكون تحت وطأة قلمى وروايتى أشهر طبيب فى مصر وبطبيعة الحال يقصد الشهرة الأدبية والاجتماعية لا الشهرة العلمية فهاشم فؤاد هو طبيب الأنف والأذن الفذ علميا وأيضا إداريا.

أخذ إحسان اسم هاشم، مهنته، ملامحه الجسدية وطقوسه حتى التشابه بينه وبين النجم روبرت ميتشوم والذى كان د.هاشم يمقته نظرا لاقترانه بأدوار الشر، ولكن الثلاث عيون النسائية لم تكن التجارب الخاصة لهاشم ولكنها ثمرة نبوغ إحسان عبدالقدوس الذى يتقن التقاط الشخصيات الملهمة من الواقع ليصبحن البطلات الخالدات لقصصه، العين الأولى أمينة أو ميتو لها مرجعية حقيقية هى فتاة ذات جمال أخاذ مشهورة فى المجتمع، كابدت حياة أسرية مضطربة، لها أيضا شقيقتها كانت صارخة الجمال، أنف وثلاث عيون هى رواية ضد الضياع على عكس ما يظن البعض، ليس المطلوب من الأدب أن يعظ بشكل مباشر ولكن تكمن الرؤية أو المضمون المغلف بجاذبية ما.. أما العين الثانية نجوى أو نوجا فمرجعيتها الابنة المتبناة لفنانة شهيرة هام بها، أدباء عصرها واشتهرت فيما بعد بأداء أدوار الأم، وأيضا بدون ذكر أسماء العين الثالثة رحاب هى فتاة لبنانية قال لى ذات يوم عنها أديب شهير إنه من فرط نحافتها الملفتة وجب وضع طوق فى رقبتها كى لا تتلاشى ويبتلعها التيه.. ∩أنف وثلاث عيون∪ رواية ضد الخضوع للغريزة وتابعها السقوط.. ∩الأهلى والجزيرة∪ قصة قصيرة بديعة لإحسان عبدالقدوس تحكى عن فتاة من النادى الأهلى تحظى بعضوية نادى الجزيرة الذى طالما راود مخيلتها، الشياكة، الجميلات، الأميرات، الطبقة المخملية أو الصفوة، فتتأهب وتتهيأ ذات صباح أمام المرآة، فتفرط فى التبرج، الثوب المبالغ فيه، الكعب العالي، المجوهرات، الشعر المصفف فى بهرجة والكورسيه، ليصبح الخصر مختصرا من وهم الخيال، وعندما تصل إلى الليدو فى الجزيرة تداهمها الأناقة البسيطة للعضوات وحتى الأميرات، وترغب فى طلب ساندويتش جبن رومى ولكنها تخجل فهو لا يليق بالأجواء الراقية، فتطلب من الجرسون جلاس فى قلب الشتاء القارس فكلمة جلاس تبدو شيك ومناسبة لهيبة الليدو، وعندما تلتقى بعضو يأتى أيضا من النادى الأهلى مثلها تبدأ فى التطبيع مع الأجواء الجديدة لهذا النادى الذى لا يخلو أحيانا من (القنزحة) لتتعود، تخلع الكعب العالى وتزيل التبرج وتطلب أخيرا ساندويتش جبنة رومي.

أعود لحديقة الشاي، أرض الملعب أسترجع الزمن المفقود والوجوه الحاضرة، الغائبة النجم الرائع العزيز محمود مرسى وأحاديثنا لا تنتهى بينما نمشي.. عزت العلايلى وصلاح منتصر.. د. ياسر عبدالقادر أستاذ الأورام الشهير ينعش الأصابيح بثقافته الهائلة، ولعه بالفن حتى كنت أقول له أنت تحاكى (الانسكلوبيديا) مرهف الحس، غزير العلم، ترى الزمن يتحرك ونحن نركض وراء تدفقه الجامح الفادح، أم ترى هو الثابت، الجامد ونحن نلهث نحلق ونسقط نغفو وننتبه، نعشق ونزهد، نقبل وندبر، نشتهى ونعزف، نتحقق ونتلاشى نلهو ونضجر وكله فى قلب حلبة المكتوب مسبقا وكأن الزمن هو الأزل وكل شيء محفور ومنقوش فى هول جداريته الأبدية.