«قطط» السكاكيني باشا الجائعة تنقذ مشروع حفر قناة السويس

 قصر السكاكينى بالظاهر
قصر السكاكينى بالظاهر

لولا هذا الرجل ما كان من الممكن أن يستكمل "ديليسيبس" مشروع حفر قناة السويس، وكان من الممكن أن يتوقف المشروع لفترة طويلة بعد أن استفحل أذى الفئران أثناء حفر القناة التى التهمت طعام نحو 20 ألف عامل، وقد تناسلت أسراب الفئران وتوحشت، فأفسدت المعدات التى كانت مصنعة من الحديد والخشب مما أضطر "ديليسيبس" إلى إيقاف العمل فى حفر القناة لحين العثور على حل ناجح وحاسم بعد فشل عدة محاولات لم تنجح فى القضاء على أسراب الفئران المتوحشة.
تقدم لديليسيبس بفكرة القضاء على الفئران المتوحشة رجل الأعمال السورى "جابرييل حبيبى السكاكينى" الذى جاء من دمشق وعمره 17 سنة ليعمل فى منطقة قناة السويس، بعد أن قرأ عن طلب للوظائف أعلنه ديليسيبس لحل بعض المشاكل العالقة فى عمليات الحفر، ومنها مشكلة الحرارة المرتفعة التى كانت تؤدى إلى قلة إنتاجية العمال، ومشكلة انتشار الفئران وتوحشها، وفكرة السكاكينى قامت على إحضار "القطط" التى تم اصطيادها بأعداد غفيرة وتم نقلها بعد تجويعها لمنطقة حفر القنال، وتم إطلاقها على أماكن تجمع الفئران، لتقضي عليها، وبعد أيام "راحت جميع الفئران فى خبر كان".
أبلغ "ديليسيبس" الخديوى بالذكاء الحاد الذى يتمتع به "السكاكينى" فأسند إليه الخديوى وظيفة رئيس ورش تجفيف عموم البرك والمستنقعات، وكان بالقاهرة وقتها عدة برك منها "بركة الأزبكية، وبركة الفيل، وبركة الرطلي، والبركة الناصرية، وبركة الفوالة، وبركة قرموط، وبركة الشُقاف، وبركة قمر"، حيث المياه تصل إلى هذه البرك من الخليج الناصري ومن خليج أمير المؤمنين بقنوات وأنفاق تحت الأرض، وكان الهدف منها توفير المياه للري والاستخدام البشري، وجميع تلك البرك كانت نعمة فى معظم أيامها إلا أنها كانت عند انحسار المياه عنها بعد الفيضان تتحول إلى مستنقعات ومناطق آسنة تزكم الأنوف.
وما أن تولى "حبيب سكاكينى" منصبه الجديد حتى شمَّرَ عن ساعد الجد للبدء فى الردم واضعاً نصب عينه فرمان الباب العالي الذي ينص على أنه يجوز إعطاء البرك والمستنقعات المملوكة للدولة إلى من يتعهد بردمها، وعليه فقد قام "حبيب سكاكينى" بردم "بركة الشيخ قمر"، وسمى الشارع الواصل بين ميدان الظاهر بيبرس إلى الشارع المؤدى إلى غمرة باسم "سكاكينى" الذى يتوسطه ميدان السكاكينى، ويتوسطه أيضا قصر "السكاكينى" الذى بدأ البناء فيه عام 1892 على الطراز الإيطالي، واستغرق البناء 5 سنوات، ليخرج تحفة فنية على طراز الباروك والروكوكو.

 ووصلت نجاحات "حبيب سكاكينى" فى ردم البرك وإقامة البساتين وأعمال المقاولات إلى الخديو إسماعيل فقام بتكليفه بالمشاركة كمقاول فى إنشاء دار الأوبرا المصرية فشارك السكاكيني فى إنجاز المشروع الثقافى الكبير الأول من نوعه فى الشرق، حيث لم يتجاوز العمل ثلاثة أشهر لتفتتح الأوبرا مساء 29 نوفمبر 1866 بتقديم أوبرا "ريجوليتو" أمام الأمبراطورة أوجينى، وكان الخديو إسماعيل قد عهد للموسيقار الإيطالى "فردى" بوضع أوبرا مصرية كتب موضوعها "مارييت باشا" رئيس هيئة الآثار وهى أوبرا "عايدة" التى عرضت للمرة الأولى على مسرح الأوبرا فى 24 ديسمبر 1871، وقد أغدق الخديو إسماعيل على السكاكيني بالأموال وخلع عليه لقب "بك" ثم منحه لقب "باشا"، وكان يرسل إليه عربته الخاصة بياوره الخاص لحضور ولائمه وحفلاته، وقد استدعاه السلطان عبد الحميد إلى الاستانة للاصطياف مع أسرته على ضفاف البوسفور ويقيم فى بقصر الدولما باشا.

دعاه الخديو عباس حلمي الثاني لحضور الاحتفال بعيد الجلوس قبل استهلال عام 1900 بأيام، وحصل "حبيب سكاكينى" من بابا الفاتيكان على لقب "كونت" تقديراً للأعمال الخيرية التى قام بها، ومنها: "بناء ملجأ لعدة آلاف من الأيتام، وشراؤه قصر "لينو دى بيفور" بشارع الفجالة وإهداؤه لجمعية الروم الكاثوليك، وتشييده مقبرة للروم الكاثوليك فى مصر القديمة".
تزوج حبيب سكاكينى من سيدة سورية تدعى "هنريت" وأنجبا ولداً واحداً اسمه هنري عام 1890 الذى حصل على الماجيستير فى تاريخ مصر عام 1911 ثم حصل على الدكتوراه فى الحقوق من جامعة باريس سنة 1915، وكانت والدته "هنريت" قد رحلت عن الدنيا عام 1902، ورحل والده "حبيب سكاكينى باشا" عام 1923 ودفن بجوار زوجته فى مقبرة الكاثوليك التى قام بإنشائها ويتصدر مقبرته تمثال له كان قد صنع فى فرنسا.

أهدى أحد أحفاد السكاكيني قصر السكاكينى باشا بالظاهر لوزارة الصحة المصرية، وفى عام 1961 تم نقل متحف التثقيف الصحي من عابدين إلى قصر السكاكيني بأمر من محافظ القاهرة، ثم صدر قرار من وزير الصحة فى عام 1963 بنقل متحف التثقيف الصحي إلى المعهد الفني بإمبابة، وتم نقل بعض المعروضات إلى إمبابة والبقية تم تخزينها فى بدروم أسفل القصر الذى تم تسجيله فى عداد الآثار الإسلامية والقبطية بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1691 لسنة 1987، ليتم وضعه تحت رعاية المجلس الأعلى للآثار، والقصر تم ترميمه وتجديده بعد أن تم إهماله لسنوات وهو يعد تحفة معمارية لا نظير لها وقت تشييده.