خالد محمود يكتب: وحيد حامد.. وطن 

خالد محمود
خالد محمود

يبقى وحيد حامد أحد ملهمى العصر، وأكثرهم إيمانا بواقعه، وبشره، فى مزيج من الآهات والبهجة، صادم نعم، لكنه متفائل كبير، بل بداخله أمل يكفى كل المواطنين للخلاص من مأزقهم فى الحياة وهو ما تعكسه أعماله سواء على شاشة السينما أو التليفزيون.. حواراته صادمة فى كثير من الأحيان، لكنها تنبع دائما من إحساسه بمسئولية كاتب مغرم بهذا الوطن.. ومفكر يبصر ما لا يراه كثيرون، ومن ثم علينا أن نقرأها بتمعن ونتعامل معها كعلامات استفهام نبحث لها معه عن إجابات فور المشاهدة.


وحيد حامد، الذى يكرمه مهرجان القاهرة السينمائى هذا العام بمنحة جائزة الهرم الذهبى،  أحد أهم كتاب السيناريو فى السينما والدراما المصرية والعربية، قدم على مدار أكثر من 40 عاما، أعمالا اجتماعية ذات بعد سياسي تتمتع بقدر كبير من الموضوعية والجرأة والرؤية المستنيرة للحاضر والكاشفة للمستقبل، يختلط فيها الأمل مع الحزن، الغروب مع الإشراق.


هو كما يقول ويلخص مفهومه للحياة: «أعايش الناس يوما بيوم.. وعلاقتى بالشارع المصرى لم تنقطع لحظة، ولن أوقف بحثى الدائم عن الحقيقة»، هذه العبارة البسيطة تؤكد أن «حامد» العاشق للوطن لا يبحث إلا عن الوطن.


وبداية التألق كانت مسلسل "أحلام الفتى الطائر" مع النجم عادل إمام، ليكوّنا فى مرحلة لاحقة شراكة سينمائية كبيرة، فقدما سويا "الإنسان يعيش مرة واحدة"، الفيلم الرائع الذى ظلمه التاريخ، وجسد به الخوف لكى نتعلم كيف نعيش، وقدم به نموذج آخر رائع لشخصية بكرى الصعيدى غفير المدرسة، فى حواره المدهش بينه وبين هانى: "الدنيا كده فيه اللى تخاف منه وفيها اللى يخاف منك".


هانى يسأل: الواحد يعمل إيه فى البلد دى؟.


بكرى: تنام وتحلم.


هانى: إحنا مكناش بنتولد علشان نموت فى بلاد غريبة.


بكري: الحياة اللى كلها خوف ملهاش لزوم.


هاني يسأل إنت شايف الدنيا إزاي؟


بكري: الدنيا لها وشين أبيض وأسود لما تبقى بيضا قدامك أفتكر الأسود عشان تسلم، ولما تبقى سودا أفتكر الأبيض عشان تقدر تعيش لبكرة.


واستمرت التوأمة بين عادل إمام ووحيد حامد في "الغول"، الذى أنتج قبل أكثر من ربع قرن، وفيه ظهر عادل إمام ممثلا كبيرا بهرنى بأدائه الهادئ والمعبر فى شخصية عادل الصحفى، ذلك الأداء الذى لم أعهده فى كثير من أدواره، بفضل روح وحيد حامد.


وجدته يمسك بشخصية قد تبدو بسيطة بحكم كيانها الاجتماعى صحفى يكتب عن أخبار النجوم والفنانين، ويجعل منها شخصية ناضجة وطازجة وواعية فى فكرها الاجتماعى، وعلاقته كفرد بالمجتمع باصراره على ملاحقة «الغول» رجل الأعمال فريد شوقى الذى ينهش فى جسد المجتمع، ويستغل كل ثغراته الاقتصادية وفجواته الاجتماعية، التى نشأت فى سنوات الانفتاح، وشعرت معه أننا جميعا يجب أن نلاحقه ونثأر منه مثلما فعل، حتى لو كانت النهاية قاسية مثلما فعل الصحفى وقطع رأس الفاسد بالساطور.


وشاركهما المخرج شريف عرفة فى أفلام مهمة زادت من جراح متلقيها، التى وضعتهم فى حيرة رغم إبداعها، "النوم فى العسل" و"المنسي"، و"الإرهاب والكباب" و" طيور الظلام"، الذى دق ناقوس الخطر راصدا واقعًا بكل تناقضاته واتجاهاته، وعرض عام ١٩٩٥  ليكون شاهد على زمن.. بل أرمنة متلاحقة.


و"اللعب مع الكبار"، تلك الأعمال التى أدهشتنا بأفكارها ونهاياتها التى كانت بمثابة لكمات للتطهر من خطايا أوضاع اجتماعية وسياسية، لم يجرؤ أحد من الاقتراب منها، أو التعامل فنيا معها مثل مُبدعنا وحيد حامد، الذى خلق روحا مغايرة للسينما المصرية، وواقعيتها الجديدة التى تنبش فى الفكر محفزة للعقل وملهمة للوجدان.


وفى منظور آخر، تعاون وحيد حامد مع المخرج عاطف الطيب فى أفلام "التخشيبة والبرئ والدنيا على جناح يمامة وكشف المستور"، وذلك الأخير شكل بحق ضربة موجعة لأطراف عدة، ويبقى واحد من أهم الأفلام السينمائية المشبعة فنيا لمن جسدها من النجوم، وشكل نقطة تحول كبيرة فى مسيرتهم.


غير وحيد حامد كثيرا فى منهج وعقيدة المخرجين، عندما شاهدت فيلم "احكى يا شهرزاد" تساءلت هل أصاب وحيد حامد عندما منح يسرى نصرالله سيناريو الفيلم وهو يدرك تماما أن فكر ومنهج ورؤى نصر الله تختلف فى عالمها عن عالمه؟.


نعم أصاب، ونجح فى استثارته وتحفيزه لتقديم عمل سينمائى مغاير، عما قدمه من قبل وله مذاقه الخاص من حيث الطرح ولغة السرد السينمائى التى امتزجت فيها واقعية النص بشفافية الصورة ورمزها.. فوصلت الرسالة، ورسالة شهرزاد معقدة ومركبة وموجعة مثل عصا المعلم تنزل عليك لتنبهك وتوقظك من الغفوة عن الدرس.


ودرس شهرزاد عن الحياة وأناسها وغلافها الضبابى الذى كساها بناء على رغبة مشتركه بين الوطن والمواطن، بيننا وبين الأيام.. وعن مدى الألم الذى تشعر به عندما تستسلم لقسوة الظروف وتسقط وتنهار، وهو ألم أقل وطأة من ألم الانتفاضة والتمرد والاعتراف بالخطيئة والبوح بها لتطهر نفسك من العبء الثقيل الذى قد يوأد بمشاعرك والإحساس بوجودك أصلا فى الحياة، وتلك هى النقطة الفارقة والخيط الرفيع الذى مشى عليه فيلم «احكى يا شهرزاد" دون أن يفرض عليك أى خيار.. قدم الحكايات الإنسانية لعل إحداها يمسك أو تعيد حساباتك فى علاقتك بنفسك وبالآخرين، وإن كان هناك خروج غير مبرر لبعض الشعارات واللافتات من ناحية والتطويل فى السرد من ناحية أخرى.


فى الفيلم تجد شهرزاد التى جسدتها منى زكى مذيعة التليفزيون الشهيرة هبة يونس وهى تستيقظ من كابوس مفزع على أحلام زوجها كريم «حسن الرداد» نائب رئيس تحرير إحدى الصحف القومية والذى يحلم بكرسى رئاسة التحرير ويمارس عليها ضغوطا كثيرة لتتوقف عن نقد الحكومة فى برنامجها نهاية المساء وبداية الصباح، وقد أوهمة الكبار بأن حملات زوجته التليفزيونية وراء عدم تحقيق حلمه، وهنا تغير المذيعة منهجها وتقرر البحث عن قصص إنسانية لنماذج من السيدات اللاتى عشن ظروفا قاسية، لكنها مع الوقت تكتشف أن هذه الظروف بكل مآسيها ما هى إلا انعكاس لأوضاع سياسية أيضا.


وعلى طريقة سرد وحيد حامد ونهج يسرى نصرالله الذكى تخترق شهرزاد المحظور وتأتى بنماذج من السيدات يعترفن بخطاياهن وطرق انتقامهن من المجتمع الذى ظلمهن، فنجد «أمانى» العانس المتباهية بعذريتها والتى تسكن المصحة النفسية، والتى لم تجد رجلا يحبها لذاتها.


و«صفاء» التى قضت عقوبة طويلة فى السجن لقتلها شاب يعمل فى محل تركه والدها لبناته الثلاث بعد أن ارتكبت خطيئة معهن وقضى على حلمهن فى الاستقرار، و«ناهد» طبيبة الأسنان التى أجهضت نفسها بعد أن خدعها أحد الرجال المرموقين الذى أصبح وزيرا فيما بعد وحيث تزوجها وتركها وساومها ولم يعترف بالحمل.


هذه القصص التى نجحت شهرزاد بجعل أصحابها يكشفن المستور فيها تتوحد مع شهرزاد نفسها أو هبة يونس لتجد نفسها هى الأخرى فريسة أطماع زوجها الذى تصور أن برنامجها وراء ضياع المنصب منه، لتنقلب مشاعر الحب إلى عنف وأمراض نفسية وليأتى مشهد النهاية لتفاجئ هبة الجميع على الهواء بأنها ستحكى قصتها هى، وهو مشهد صادم وجرىء وقوى أدته ببراعة منى زكى ليكون بمثابة ضربة موجعة للمشاهد الذى عليه أن يعيد حساباته مع نفسه وما يدور من حوله عن طريق البوح.. لكن هذه الضربة الموجعة جعلتنى كمشاهد لا أستسلم بكل جوارحى لما أراد ان يبثه وحيد حامد ونصر الله فيما يسمى بقهر المرأة وأنانية الرجل فالمرأة فى الفيلم كان لها دور فى مآسيها وقرارات القتل والهجر والانطواء كانت بكامل رغبتهن، كما أن نماذج الرجال فى الفيلم أتت مشوهة أحيانا ومريضة أحيانا أخرى.. وإن كانت هى نتاج مجتمع يعانى مرض مزمن وهو تشابك الحلم بالكابوس.. فنحن لم نعد نستطيع أن نفرق بين الحلم والكابوس، بين الحب والرغبة فى الامتلاك، بين صدق العواطف وخداع المشاعر.. بين زيف الحياة وصدقها.. ويتساوى فى ذلك الرجل والمرأة والرجل الذى هو أيضا فى حاجة إلى أن يحكى ويعترف بخطاياه التى قادته اليها الضغوط أيا كانت دوافعها.

اللوحة السينمائية جاءت مختلفة حتى ولو كانت ألوانها شديدة القتامة، لكنها لوحة لم تذرف الدماء، ولم تغرقنى فى مجتمع قمىء يدعى العفة والكفاح.. إنه فيلم يعزف على وتر يشجيك فى موسم النشاز.

مابين البدايات وحتى اليوم قدم وحيد حامد مجموعة اخرى من الاعمال المتميزة التى توجت بعدد كبير من الجوائز وابدع وحيد حامد فى الدراما بالعائلة والجماعة ومازال ابداع وحيد حامد