تاريخ جديد للجبانة المقدسة

الكشف الأثرى الأكبر فى 2020

كشف أثرى ضخم؛ مائة تابوت خشبى مغلق
كشف أثرى ضخم؛ مائة تابوت خشبى مغلق

شهاب طارق

اكتشافات تطرح الكثير من الأسئلة حول المنطقة التى بدت وكأنها منطقة بكر لم تمس من قبل، رغم عشرات البعثات التى عملت فيها منذ عشرات السنين، كما أن كل كشف جديد لا يقدم فقط تاريخا جديدا للمنطقة لكن يفسر الكثير من الألغاز التى لم تحل من قبل، ويقدم أخرى فى الوقت نفسه!

 

الأسبوع الماضى أعلنت وزارة السياحة والآثار عن كشف أثرى ضخم؛ مائة تابوت خشبى مغلق، و٤٠ تمثالًا للإله بتاح سوكر منها تماثيل بأجزاء مذهبة و٢٠ صندوقًا خشبيًا للإله حورس، وتمثالان لشخص يدعى «بنومس»، هذا إلى جانب الكشف عن عدد من تماثيل الأوشابتى والتمائم، وعدد ٤ أقنعة من الكارتوناچ المذهب، سبقه إعلان آخر قبل أشهر لا يقل أهمية، الوزارة قالت أيضا إنه خلال هذا العام أو مطلع العام الجديد سيكون هناك كشف أثرى آخر سيعلن عنه بسقارة كما أعلن الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، عن أمله بالعثور على الورش التى استخدمها قدماء المصريين فى صناعة التوابيت.

ما الذى يمكن أن تقوله الاكتشافات الجديدة؟ فى إجابته قال عالم المصريات ومدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية الدكتور حسين عبد البصير، إن هذه المنطقة هى الجبانة المقدسة لعاصمة مصر العظمى «منف»، حيث تقع عند أبو رواش من الشمال وحتى منطقة ميدوم فى الجنوب ببنى سويف، فخلال القرن الـ١٩ كانت لمحاولات لصوص المقابر الفضل الأكبر فى كشف هذه المنطقة الأثرية، حيث تم استكشافها من خلال اللصوص وتجار الآثار، وقد ساعدت خريطة المنطقة التى رسمها عالم المصريات البروسى كارل ليبسيوس بالقرن الـ١٩ فى إعادة اكتشاف جبانة الدولة الحديثة عام ١٩٧٥ من قبل البعثة الإنجليزية الهولندية، لكن سقارة يمكن تسميتها بمدينة الموتى المنطقة المكتشفة حاليًا هى منطقة خاصة بالعصر المتأخر مثلا، فسقارة حملت ميزة هامة ربما لم يكن لها مثيل وهى أن الدفن قد بدأ فيها، منذ فترة ما قبل التاريخ مرورًا بالدولة القديمة والحديثة وصولًا إلى العصر اليونانى الرومانى حيث ظلت تستخدم كمكان للدفن طوال هذه الحقب التاريخية، وقد توقف الدفن فى جبانة سقارة المقدسة نتيجة تغير العقائد بمصر، الاكتشافات الحديثة تعود للعصر المتأخر، وهو عصر لم نكن أبدًا نعلم عنه الكثير، حيث ما أن خففت قبضة الآشوريين على مصر، بدأ الملك بسامتيك الأول (٦١٠-٦٦٤ق.م) فى ترسيخ سلطته على كافة أنحاء البلاد. وحينها بدأت الأسرة السادسة والعشرون وبدأ العصر المتأخر، وصعدت مصر بدورها مرة أخرى كقوة عالمية كبرى بعد سنوات من التفتت الداخلى، وازدهرت حركة التجارة، والفنون، ومع نمو الاقتصاد، استأنفت مشاريع البناء الضخمة على طول وادى النيل، وازدهرت الفنون مرة أخرى، حيث كان ملوك الأسرة السادسة والعشرين يتطلعون إلى ماض مصر القديم، وماض الدولة القديمة تحديدًا كنوع من استلهام النهضة، وكانت النتيجة هى ظهور عناصر فى الفن واللغة والأدب تأثرت بالتقاليد القديمة، مع وضع البصمة الخاصة بهم، فازدهر فن التحنيط هناك والذى كان متقدمًا للغاية، وأصبحت عملية الدفن تقام بشكل آخر، وأصبح الصندوق الخشبى الملون هو عبارة عن مقبرة خاصة للمتوفى فتمت رسم وكتابة التعاويذ عليه عكس ما كان يحدث فى الدولة القديمة، كما تحتوى جبانة سقارة والتى كانت جزء من جبانة منف القديمة، على مقابر من جميع فترات التاريخ حيث تقع جبانة «الدولة الحديثة»، جنوبى الطريق الصاعد للملك أوناس حيث تم دفن العديد من كبار رجال الأسرة الثامنة عشرة إلى العشرين.

يقول أيضا، إن الكشف قد يجيب أيضا على بعض الاستفسارات التى طرحت خلال عقود مضت: أود أن أرجع للوراء قليلًا كى أوضح شيئًا، وهو أننا عندما قمنا بدراسة المومياوات الواقعة بالكيلو ٦ قرب الواحات البحرية وهى ما يطلق عليها اسم «المومياوات الذهبية» وجدنا بعد دراستها أن معظم أعمار هذه المومياوات تقترب من الـ٣٥ عامًا، هذا الأمر أثار فضولنا، لذلك رغبنا فى معرفة السبب فى هذا الأمر، وكانت النتيجة أننا وجدنا نسبة الحديد فى الجسم مرتفعة، ويعود هذا لسبب وحيد وهو أن المياه الموجودة كانت مشبعة بنسبة عالية من الحديد، والذى أدى لانخفاض أعمارهم، لكن هذه الاكتشافات الحديثة التى أعلن عنها فى سقارة ستساعدنا على اكتشاف هذه الفترة التى لا نملك عنها الكثير من المعلومات، والتى ستقودنا لأشياء كنا نجهلها من خلال تحليل هذه المومياوات.

 

وحول وضعية الدفن فى هذه المنطقة قال عبد البصير: «يسمى الدفن هناك باسم «الدفن المتراكم»، حيث تتكون جبانة «الدولة الحديثة» من جزءين: جزء مغلق تحت الأرض يضم حجرة الدفن، والمقصورة التى يمكن الوصول إليها فوق سطح الأرض، ومن خلالها يتم تقديم القرابين لروح المتوفى. لكن ما يميز مقابر هذه الجبانة هو أنها ليست مصاطب ولا مقابر منحوتة فى الصخر، ولكنها مقاصير قائمة بذاتها تعرف باسم المقبرة المعبد».

 

أما المقابر الأكبر حجمًا، فكان يتم دخولها عبر صرح حجرى يؤدى إلى فناء مفتوح يتقدم مقصورة المقبرة.

 

وفى بعض الأحيان كانت المقصورة عبارة عن هريم صغير يرمز إلى إعادة الولادة والبعث ويضم الفناء المفتوح بئر دفن يوصل إلى حجرة الدفن تحت الأرض، لكن من الممكن أن يكون الكشف الأثرى هذا هو خبيئة أثرية أيضا، نظرًا لطريقة الدفن ولشواهد كثيرة حدثت من قبل، مثل ما حدث مع خبيئة الدير البحرى، وخبيئة العساسيف!


من جانبه قال وزير الآثار الأسبق الدكتور زاهى حواس، إن منطقة سقارة كانت أكبر جبانة للدفن، حيث إن آلاف الأشخاص دفنوا بها، وكانت هناك ورش لصنع التوابيت، وصمم بعضها للفقراء والبعض الآخر للأغنياء وكل تابوت كان له سعر خاص به، حيث بمجرد شراء الشخص للتابوت يتم كتابة اسمه عليه، وأيضًا ضمت المنطقة ورشا للتحنيط، وتفاوت سعر التحنيط آنذاك، فهناك التحنيط الجيد والمتوسط والردىء حسب سعره، وهذا الأمر يعطينا بعدا جديدا للتفكير عن الموت، وهو الذى اعتمد على البعد الاقتصادى داخل الدولة القديمة.

 

الدكتور محمد يوسف عويان، مدير منطقة آثار سقارة، يؤكد أنه لا يعتقد أن هذه المقابر هى خبيئة دفن ويفسر قائلا : لدينا نوعان من الآبار، الأول لدفن شخص واحد والثانى لدفن أكثر من شخص، والذى كان يحدث فى جبانة سقارة أنه كان يحدث تكدس بالمنطقة نظرًا لأنها كانت مكانا مقدسا والجميع كان يسارع للدفن بداخلها، لذلك حدثت عمليات توسعة للآبار من الداخل وبشكل أعمق، وذلك ليتمكنوا من إضافة توابيت أخرى، أى أنها أشبه بمقابر جماعية، وكان للكهنة دور فى ذلك حيث أشاعوا بضرورة الدفن فى هذا الموضع المقدس، وهذا هو سبب وجود هذا الكم الهائل من التوابيت، وبخصوص ورشة صناعة التوابيت أجاب أنها من وجهة نظره غير موجودة بهذه المنطقة لأن هذه المنطقة كانت تستخدم للدفن فقط، فلو كانت هناك ورش لصنع التوابيت أعتقد أنها فى الجهة الشرقية من سقارة.


من جهته يرجح الخبير الأثرى مجدى شاكر، أن يكون الكشف الأثرى الأخير خبيئة دفن وليس مقابر للدفن، ففى الكشف الأول أعلنت الوزارة عن ٢٩ تابوتا وتلاها كشف آخر عبارة عن ٥٩ تابوتا، ثم الكشف الأخير الذى بلغ ١٠٠ تابوت، فشكل الآبار هو عكس ما كان متعارفا عليه عند القدماء المصريين، لذلك أرى أن المصريين القدماء خلال هذه الفترة عملوا على إخفاء الأشياء المهمة خوفًا من عودة الاحتلال، وذلك لحفظ الأجسام والأسماء، ولذلك اختاروا سقارة لأنها صحراء بعيدة عن الماء، فأنا أرى أن وزارة الآثار باتت تتسرع فى الكشوفات الأثرية والتى كان يجب عليها أن تقوم بعمل دراسة مفصلة عن الأمر حتى يعرفها الجميع.