صراعات أردوغان المستمرة مع «المركزي التركي» تدفع اقتصاد بلاده للهاوية

أردوغان
أردوغان

صراعات رجب طيب أردوغان الرئيس التركي يبدو أنها ليست سياسية فقط سواء داخليا أو خارجيا، بل نظرا لطبيعته الاستبداية والتي باعدت بين غالبية دول العالم وبلاده جعلت استبداده يطال السياسات النقدية التي يفترض أن تكون مستقلة في بلاده، وذلك من خلال الصراع العلني والمستمر منذ سنوات مع البنك المركزي التركي والذي دفعه إلى إقالة محافظين للبنك في أقل من عامين.


أدى ذلك إلى جعل الاقتصاد التركي على حافة الهاوية، ورجب طيب أردوغان لا يكل ولا يمل من التدخل في سياسات البنك المركزي التركي، ضاربا عرض الحائط التحذيرات من محاولة نزع المصداقية عن أكبر الكيانات الاقتصادية في البلاد، ليتخذ الصراع القائم بين الحاكم والمركزي التركي تسلسلا مهينا لاستقلالية أكبر سلطة نقدية في البلاد ومدمرا للاقتصاد الوطني، الذي لا يزال ينزف تحت وطأة سياسات حاكمه الاستبدادية وإصراره على بسط نفوذه لتسخير سياسات البنك في خدمة أهدافه.


والصراع ليس خفيا على أحد، بل على مرأى ومسمع الجميع، حيث أقال الرئيس التركي في أقل من عامين محافظين للبنك المركزي التركي أخرهم قبل أسابيع، ولم يكن هذا إيذانا بانتهاء الصراع بين مؤسستي الرئاسة التركية والنقد، بل استمرت مع محافظ البنك المركزي الجديد، حيث انتقد أردوغان علنا سياسة الفائدة المرتفعة في بلاده، وذلك قبل يومين فقط من اجتماع المركزي التركي لاقرار سعر الفائدة الجديد وفي تلميح منه بطلب خفض الفائدة، لكن جاء قرار المركزي التركي مفاجئا لرأي أردوغان بل جاء أشبه بضربة للرئيس التركي، بعد رفع المركزي الفائدة بقرابة 5 في المائة دفعة واحدة لتسجل 15% ضاربا برأي أردوغان عرض الحائط.


صراعات أردوغان المستمرة مع البنك المركزي التركي تبلورت بشكل كبير في السنوات الأخيرة بعد تكرار انتقاده للسياسات النقدية في بلاده أعقبها قراره المفاجئ في شهر يوليو من عام 2019 بإقالة محافظ البنك المركزي آنذاك مراد جتينقايا، قبل نهاية ولايته المحددة بنحو 4 سنوات، حيث أصدر أردوغان مرسوما رئاسيا بعزله وتعيين نائبه مراد أويسال بدلا عنه، ومنذ ذلك الحين لم تتحسن الأوضاع بل سائت وفقدت الليرة أكثر من 60 في المائة من قيمتها.


ورغم التحذيرات من التداعيات السلبية لخطوة كهذه على مصداقية البنك، لم يعبأ الرئيس التركي ومضى قدما في محاولة تحويل النظام السياسي والاقتصادي للدولة إلى أداة تنفيذية في يد الحاكم، عبر جملة من المراسيم الرئاسية الصادرة بموجب القوانين الجديدة التي تم تدشينها في يوليو من عام 2018، والتي تتضمن تغييرا يخوله تسمية محافظ البنك المركزي- وهو القرار الذي كان يشترط في السابق موافقة مجلس الوزراء.


وشكل نبأ الإطاحة بمحافظ المركزي التركي في ذلك الوقت صدمة للأسواق، فاعتبرت وكالة "بلومبرج" الأمريكية أن إطاحة أردوغان بمحافظ البنك المركزي مراد جتينقايا، ستعمق مخاوف المستثمرين بشأن استقلالية البنك، كما ستعرقل مسار تعافي العملة المحلية، و تهدد بإشعال فتيل رد فعل عنيف من قبل الأسواق.


وهو ما أكدته صحيفة "نيويورك تايمز"، التي رأت أن عزل مراد جتينقايا يعكس استعداد زعيم تركيا للتضحية، بأى شيء، حتى وإن كانت استقلالية كيان مثل البنك المركزى ومصداقية البلاد بوجه عام، من أجل تنفيذ خططه الاقتصادية التوسعية.


ورأت الصحيفة أن هزيمة الحزب الحاكم في انتخابات إسطنبول التي جرت منتصف العام الماضي، إنما تعكس فقدان الثقة المتزايد في الرئيس الحالي وتطلع دوائر صنع القرار الاقتصادي لإمكانية تولي حزب آخر زمام الأمور"..


وانتقدت الصحيفة الأمريكية اعتماد نظام أردوغان على استيراد السلع و الاقتراض بالعملات الأجنبية الذي تسبب في إضفاء مزيد من الأعباء على المواطنين ودخول الاقتصاد التركي دوامة الركود منذ النصف الأخير من عام 2018، منهيا أي آمال بشأن أداء أفضل في المستقبل القريب. 


وتحذر مجموعة"أشمور" العالمية لإدارة الاستثمارات " من أن تركيا تحت حكم رجب طيب أردوغان، تتجه صوب انهيار اقتصادي على غرار ما شهدته دول أمريكا اللاتينية تحت مظلة أنظمة شعبوية".


وأضافت أن تركيا تسير في مسار خاطئ بفعل سياسات أردوغان التي تنذر بالدفع بالبلاد صوب انهيار محقق"، وتوقع جان ديهن، رئيس الأبحاث في مجموعة أشمور أن يكون "التأميم والتحكم في رؤوس الأموال وغيرهما من السياسات الرامية إلى منع القطاع الخاص من حماية ممتلكاته، هي الخطوات التالية المنطقية لأردوغان في ظل بيئة اقتصادية متهالكة، حتى وإن نفى المسؤولون الأتراك ذلك.


ولم يكد الاقتصاد التركي يلتقط أنفاسه من أزمة انهيار العملة المحلية على مدار العام الماضي، حتى سقط فريسة تداعيات فيروس كورونا التي كشفت مدى هشاشة الاقتصاد، وتفاقمت أزمة تراجع قيمة عملة البلاد المحلية "الليرة" التي تواجه أسوأ ضغوط منذ عقود، وسط سوء إدارة نظام أردوغان ونظامه الاقتصادي والمصرفي للأزمة.


وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أن الصدمة الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة "كورونا " جاءت في وقت عصيب على النظام التركي، الذي ظل يكافح على مدار أشهر قبل بدء الأزمة، لدرء مخاطر تهاوي قيمة "الليرة" عبر الاستعانة بمليارات الدولارات من مخزون البلاد من الاحتياطي الأجنبي لدعم العملة المحلية.


وتوقع خبراء اقتصاديون انكماش الاقتصاد التركي بنسبة 5% خلال الربعين" الثاني والثالث" من العام الجاري "2020 "، إلى جانب حدوث قفزة في معدلات البطالة ؛ على الأخص بين فئة الشباب قد تصل إلى نسبة 18% بعد أن بلغت مستوى مرتفعا قياسيا خلال شهر يناير الماضي بنسبة 14%.
ويحذر الخبراء من أن توجه أردوغان إلى الاقتراض الخارجي حاليا من أجل مساعدته في مواجهة أزمة "كورونا " سيلحق مزيدا من الأضرار بالاقتصاد التركي بعد ترحيل آجال الديون المحلية ، عوضا عن إعادة هيكلتها في سبيل تجنب سلسلة من حالات الإفلاس.


وتشير بيانات البنك المركزي التركي إلى أن حجم الديون أو الالتزمات "قصيرة الأجل" المقومة بالعملة الأجنية على الشركات والمصارف التركية بلغ أكثر من 155 مليار دولار، اعتبارا من شهر فبراير الماضي.


كما عمد البنك المركزي في تركيا إلى سحب 19 مليار دولار من احتياطه الأجنبي من أجل دعم "الليرة " أمام جائحة "كورونا" ، بما تسبب في خفض ما تبقى من إجمالي المخزون الأجنبي لتركيا إلى 56 مليار دولار فقط .


ويرى محللون أن البنك المركزي التركي سقط خلال الأعوام الماضية في قبضة الرئيس أردوغان ، مما ولد حالة من العزوف لدى المستثمرين وقوض الثقة في سياسات البلاد المالية.


وتوقع المحللون استمرار تهاوي "الليرة " التركية إلى حد قد يصل بها إلى مستويات غير معهودة ، في ظل استمرار شكوك المستثمرين حول مدى مصداقية قرارات البنك المركزي التركي ، واستقلاليتها عن رغبة النظام الحاكم وقدرتها في الدفاع عن العملة المحلية.


من جانبها، خفضت وكالة (فيتش) العالمية توقعاتها للتصنيف الائتماني السيادي لتركيا إلى "سلبية" بدلا من "مستقرة"، نتيجة ضعف مصداقية السياسات النقدية المتبعة في البلاد، واستنزاف احتياطي النقد الأجنبي، بما قد يتسبب في مفاقمة مخاطر التمويل الخارجي.


وأشارت "فيتش" إلى أن البنك المركزي التركي لجأ إلى استنزاف احتياطي البلاد من النقد الأجنبي في سبيل دعم الليرة، مطلقا العنان في الوقت ذاته للعديد من القرارات التي أغرقت الأسواق في بحر الائتمان والقروض، كما إنه ترك أسعار الفائدة عند مستويات أقل من معدل التضخم، وعمد عوضا عن ذلك إلى تشديد الخناق على توافر السيولة النقدية عبر الاعتماد على قنوات أقل اعتيادية من أجل رفع قيمة الاقتراض.


يشار إلى أن احتياطي تركيا من النقد الأجنبي تراجع إلى 45.4 مليار دولار حتى منتصف أغسطس الجاري، مقارنة ب81.2 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من العام الماضي.


وعلقت وكالة "بلومبرج" الأمريكية قائلة إن" تركيا أصبحت غارقة في بحر من الأزمات الاقتصادية، لتزداد يوما تلو الأخر عزلة عن غيرها من اقتصادات الأسواق الناشئة، في ظل استمرار تهاوي قيمة العملة المحلية وتراجع ثقة المستثمرين"..


ونقلت عن محللين لدى مجموعة "سيتي جروب" قولهم:" أن الاقتصاد الكلي لتركيا ينجرف حاليا بشكل لافت عن غيره من كبريات الأسواق الناشئة على صعيد جبهتين رئيسيتين وهما: ميزان الحساب الجاري ومعدلات التضخم". 


وفي إخفاق جديد، سجلت الليرة التركية أدنى مستوى لها أمام الدولار الأمريكي، في أواخر أكتوبر الماضي، مسجلة ثماني ليرات مقابل العملة الأمريكية، وذلك للمرة الأولى على الإطلاق، لتواصل موجة الخسائر التي منيت بها على مدار الأشهر الأخيرة، والتي تعد الأطول منذ عام 1999.


"وذكرت وكالة "بلومبرج" الأمريكية أن استمرار تهاوي الليرة التركية أمام الدولار يغذي الشكوك حول أداء البنك المركزي التركي ومساعيه الرامية لدعم العملة المحلية في وقت تتصاعد التوترات الجيوسياسية.


وهو ما عكسه قرار الرئيس التركي الصادم يوم 7 من نوفمبر الجاري بإقالة مراد أويسال من منصبه، على خلفية التدهور الكبير في قيمة العملة المحلية "الليرة" أمام العملات الأجنبية الأخرى، وكأن أردوغان لم يعد يجيد شيئا سوى الإطاحة والتعيين دون معالجة المشكلات من جذورها أو السماح للبنك بأن يتمتع بالقدر المطلوب من الاستقلالية.


لم يكتف أردوغان بالإطاحة للمرة الثانية برئيس أكبر الكيانات الاقتصادية، لكنه سرعان ما هاجم أيضا الرئيس التركي محافظه الجديد حسبما نقلت وسائل الإعلام، منددا بأسعار الفائدة المرتفعة، وممتوقعا من المحافظ الجديد أن يعيد "النظام المالي لمساره" على حد وصفه.