وحينما يعشش الفقر في حنايا الأمكنة الجغرافية يتعاظم ظهور مشكلات بعينها: تفكك أسري، عمالة أطفال، إدمان، شيوع الجريمة، عزوف عن التعليم

أين الفقراء لماذا لا أراهم؟ عنوان كاريكاتيري جمع بين الضدين الأكثر فجاجة علي الأرض، بين رجل فاحش الثراء والسيجار في ركن من شفتيه والنظارة المعظمة لخبايا المكان من فوق حذائه التوستيني (ماركة) وقد أخفت بطنه الممتدة من تحتها ذاك الرجل شديد العوز الراكع علي قدميه ويده اليسري في العراء ليشهر وعاءه الفارغة وسط بقعة جرداء وعظيمات متناثرة، لا أدري أهي من موت قهري أم من فقر مدقع؟، وهي لوحة بعين جغرافية ساخرة لظاهرة بشرية مستمرة. ولما رفعته علي الفيس بوك لاقي تفاعلاً واسعاً لكونه أيقونة افتراضية في تبسيط أحد مفاهيم الفقر.
فلو كان الفقر اختياراً في هذه الحياة لتوارت أنماط الفقراء في دهاليز متحف التاريخ ولا يشعر بهم أحد، ولكن الغني ضد الفقر ظاهرة اقتصادية اجتماعية، وهي لازمة تاريخية عالمية لا تخلو منطقة مأهولة بالسكان منها علي مر العصور، وتحكمها نوعية السياسيات الحكومية لإدارة وتعظيم الموارد الاقتصادية والبيئية المتاحة لإحداث التنمية الشاملة في البلاد وغرس التوازن بين العدالة المكانية في العمران والعدالة الاجتماعية بين السكان، أي العدالة في توزيع الثروة بين مناطق الحيز المكاني للدولة. ويعد الفقر العامل الأكثر تأثيراً في مقياس التنمية مع الجهل والمرض، وهو رمانة ميزان الحراك الاجتماعي.
ولا تخلو حلقات تاريخ البشرية من الثقوب السوداء بقدر اتساع الفجوة بين الحجم السكاني للفقراء في الدول المتقدمة والأخري المتخلفة، ورغم أن الفقر هو السائد بين السكان في الثانية إلا أنه لا يعد دليلاً علي اختفاء عوامل وقوي التقدم الكامنة في تلك الدول، وإنما علي سقوط قدرة السياسات في إحداث نمو متوازن بين هذين الضدين، وقد استقرت الأمم المتحدة علي تصنيف البلدان إلي غنية وفقيرة وطورت مقاييس ومؤشرات للفقر علي مستوي الدول والأفراد ولكنها نسبية في اختلافها من دولة لأخري باختلاف وضعها الاقتصادي والاجتماعي، فالفقير في الصومال لا يقاس بقرينه في سلطنة بروناي مثلاً.
وحينما يعشش الفقر في حنايا الأمكنة الجغرافية يتعاظم ظهور مشكلات بعينها: تفكك أسري، عمالة أطفال، إدمان، شيوع الجريمة، عزوف عن التعليم، وعدوانية تجاه الآخر ـ عوز مزري وتدني في مستويات الدخل ـ انتشار البطالة ـ غياب المهارة وظهور الأمية والتطرف الديني والفكري ـ تفشي أمراض نقص وسوء التغذية وارتفاع معدلات الوفيات لانخفاض مستوي الرعاية الصحية ـ تدهور الإسكان وتزايد العشوئيات وسكني المقابر ـ وهكذا حتي يتصدع جدار الأمن المجتمعي وتشتعل فوضي مدمرة قد تؤدي للانهيار الشامل، أي أن القضاء علي الفقر هو مفاعل الأمان العمراني وسعادة المجتمع ومحور التنمية المستديمة.
وتلمس من مراجعة معدلات الفقر في مصر خلال نحو سبعة عقود مضت تزايدا مخيفاً فيها، ولا تنس تأثيرالتضخم الاقتصادي وتوابعه ونوازل الدولار اللص المستمرة، وانهيار السياسيات الحكوميةعلي صخرة مثلث التنمية (الفقر والجهل والمرض)،وزوال الطبقة الوسطي وتقهقر الحراك المطلوب لتحقيق العدالة المكانية الشاملة، وعليه فلابد من التفكير والابتكار بمعايير مصرية لوضع الموارد والجهود في إطارها الصحيح، ويمكن للأغنياء ورجال الأعمال تخصيص نسبة من الواحد في المائة ـ طواعية ـ من دخولهم وأرباحهم السنوية في حصالة خيرية للفقراء أو بنك يمتلكون أسهمه ويقومون عليها بطريقتهم العملية الناجحة في مشروعات تتناسب مع الاستثمار في فئة السكان من الفقراء بعد إعادة تأهيلهم وتدريبهم النوعي والقطاعي والبدء بالمحافظات الأكثر فقراً، ودمج نتائج ذلك لتوفير الشرائح السكانية في مشروع الانتشار السكاني خارج نطاق الوادي والدلتا في الصحروات والسواحل المصرية، وحبذا أن يكون هناك وزيراً للفقراء في مصر.