..أما النموذج الأكثر فُحشاً وفُجوراً لفساد نظام مبارك الذي لم يسقط بعد، فقد مارسه رجال الأعمال فيما عُرفَ بالخصخصة

منذ بضع سنوات، سألني صحفي شاب يراسل صحيفة يومية بارزة من البحر الأحمر «لماذا لا تأتي يا أستاذنا لزيارتنا والسلام علي المحافظ والحصول علي توقيعه بمنحك قطعة أرض علي البحر تتراوح مساحتها بين 1500 و2000 متر كما فعل بعض كبار الصحفيين»؟.. صدمني السؤال ولكني تماسكتُ مستدعياً كل طاقتي المحدودة علي الصبر لمعرفة الحكاية.. فسألتُ محدثي «وهل تعتقد أني مليونير يمكنه دفع ثمن هذه الأرض المتميزة»؟.. فأجابني من فوره وكأنه توقع سؤالي « لا.. حضرتك هتاخدها بسعر رمزي.. وممكن ما تدفعشي ولا مليم وتستلمها علي الورق في مكتب السكرتير العام ثم تبيعها وأنت واقف بآلاف مؤلفة»!!.. كظمتُ غيظي بصعوبة - إذ كنتُ مدفوعاً بفضول قاتل لمعرفة أسرار منظومة الفساد في «المحروسة»- فتساءلت «وهل مِن حق المحافظ التصرف بهذا السفه والتجاوز؟ّ!!.. وجاءتني الإجابة الصاعقة»هذه محاولة لجذب عِلية القوم والاستثمارات للمحافظة.. وتلك تسهيلات يحصل عليها ليس فقط الصحفيون والإعلاميون ولكن أيضاً رجال الأعمال والنيابة والشرطة»!!.. وذكر لي، في محاولة لإغوائي، أسماء صحفيين صاروا الآن نجوماً ولا يتوقفون عن ترديد مواعظ رنانة عن الوطنية والأخلاق الحميدة علي صفحات الجرائد صباحاً وشاشات الفضائيات في المساء.. لم يخالجني الشك في أن الصحفي الشاب يريد أن «يخدمني» بطريقته ، وربما يكون هو نفسه قد تورط في هذا الفساد بحسن نية - ولذلك حرصتُ علي الرد عليه بالحُسني واكتفيتُ بسؤال لم أنتظر له جواباً «وهل ترضي لي أن أكون واحداً مِن هؤلاء الفاسدين»؟!!.. هذا نموذج للثراء الحرام والفساد الفاجر و«المُقَنَن» الذي أبدعه ورعاه نظام «أبو الفساد» اللص الأكبر حسني مبارك وحاشيته.. وحدث مثل ذلك مع مشروعات سكنية وزراعية وسياحية أُقيمت من أموال الشعب.. فعند إنشاء منتجع «مارينا» مثلاً تم إقطاع كبار الصحفيين والإعلاميين وآخرين من أصحاب النفوذ «فيلات وشاليهات» مقابل مبالغ زهيدة تسدد بالتقسيط المُريح «ويمكن بيعها أيضاً علي الورق فوراً وبمئات الآلاف»..
أما النموذج الأكثر فُحشاً وفجوراً لفساد نظام مبارك الذي لم يسقط بعد، فقد مارسه رجال الأعمال فيما عُرفَ «بالخصخصة» والتي تعني ببساطة بيع الممتلكات والمشروعات العامة للقطاع الخاص.. وفي الدول الرأسمالية المتقدمة التي صدّرت لنا هذه السياسات تتم عمليات البيع طبقاً لقواعد صارمة وشفافة تضمن تعويم المشروعات (التي غالباً ما تكون متعثرة أو خاسرة) وتوسيع ملكيتها لجذب الاستثمارات والعملة الصعبة مع خلق فرص عمل جديدة.. ولكننا حولنا «الخصخصة» إلي أكبر عملية نهب منظم لأصول دولة وشعب في التاريخ!!.. ومَن يرد معرفة الجريمة بكل تفاصيلها وأركانها فعليه قراءة حيثيات حكم مجلس الدولة الذي قضي بإلغاء بيع شركة «عمر أفندي» إذ أثبت أن عمليات الخصخصة تتم بتعليمات وشروط منصوص عليها في اتفاقيات المعونة الأمريكية المترتبة علي كارثة كامب ديفيد.
وكم مِن مليونير فاسد أثري بالحرام من «مغارة الخصخصة».. إذ ليس مطلوباً مِمَن يطمع في امتلاك شركة عامة إلا أن يكون له «ضهر» أو «شريك من الباطن» في الحكومة لتُقدَم له الصفقة فضلاً عن تمويلها بقروض ميسرة تؤمنها البنوك الحكومية بأوامر مباشرة.
هكذا بيعت مصر وأصولها إلي لصوص مبارك وغيرهم «بأموال المصريين».. بل بلغ فُجْر وبلطجة بعض رجال الأعمال حد ابتزاز الحكومة علناً والتهديد بتحويل استثماراتهم للخارج ما لم تُيَسِر لهم اغتصاب الشركات والممتلكات العامة بهذه الطريقة «الحرام».. ويبدو أن هؤلاء لم ينتبهوا إلي أنهم يتعاملون مع الدولة بأسلوب البلطجي مع الراقصة.. إذ لا يكتفي بمضاجعتها غصباً آخر الليل بل يستولي علي «نقوطها» ثم يهددها بهجرها إلي راقصات أخريات يفتحن له أحضانهن، ما لم ترضخ لكل نزواته الشاذة.