إنها مصر

الزعماء ليسوا ملكاً للأحزاب !

كرم جبر
كرم جبر

19 أبريل 1992 أتذكر هذا اليوم جيداً.
كنت فى فندق المسيرة بليبيا عائداً براً إلى القاهرة بسبب الحصار الجوى، وفى نفس اليوم صدر حكم مفاجئ للمحكمة الإدارية العليا بقيام الحزب الناصري.
الخبر كالصاعقة، وتفاءل الجميع بمولد حزب عملاق يكتسح الشارع السياسي، ويتصدر الحكم.. إلا أن لم أكن متفائلاً.
كان معى فى الفندق عبد العظيم مناف والفريق أول محمد فوزى وسامى شرف وأحمد حمروش وضياء الدين داود وحمدين صباحى وعبد الله إمام وغيرهم من السياسيين العائدين إلى القاهرة، بعد تظاهرة لتأييد العقيد القذافى ضد الحصار.
أجريت حوارات مع القيادات الناصرية التاريخية، وكتبت تحقيقاً فى روزاليوسف أغضب الناصريين بعنوان «حرب استنزاف فى الحزب الناصري»، لأنه كشف بوادر الصراع بين ما أطلقت عليه الجيل الجديد والحرس القديم، بالإضافة إلى عزوف الشخصيات الناصرية المرموقة عن دخول الحزب مثل محمد حسنين هيكل.
انتصر الحرس القديم وأمسك بالسلطة المطلقة، ولم تجد الأجيال الجديدة فرصتها، فخرجوا يبحثون عن متنفس جديد ومنهم مصطفى بكرى وحمدين صباحي.
وأدت فرصة تاريخية لم تأت مرة ثانية، لأن الصراع على السلطة كان له الأولوية عن تآلف السلطة، جيل تغرب عنه الشمس ويرى أنه الخالد، وجيل يتطلع للمستقبل ويؤكد أنه الأحق، وفى النهاية لا هذا ولا ذاك.
أما عن سبب عدم تفاؤلى فيرجع لقناعتى بأن الزعماء لا يمكن اختزالهم فى تجربة حزبية، أو الزج بتاريخهم فى مزادات التزلف والهجوم.. هم أكبر من ذلك بكثير.
عبد الناصر - مثلاً - ملك لكل المصريين، حتى لو اختلف البعض مع سياسته، والثورة لا يمكن تأميمها فى حزب لصالح فصيل سياسى يرفع اسم عبد الناصر، وربما تحمل ممارساته إساءة لسيرة الرجل وإنجازاته.
ورغم السلبيات التى شابت التجربة الناصرية فى الحريات والممارسة السياسية، إلا أن شمعة ثورة يوليو لا يمكن أن تنطفئ، بشعاراتها النبيلة وأهدافها السامية، ما تحقق منها وما لم يتحقق.
عبد الناصر رفع شعارات إعلاء الكرامة الوطنية «ارفع رأسك يا أخي»، ورفع قيمة المواطن المصرى أينما ذهب «من بلد ناصر»، ورفض التدخلات الأجنبية بكافة صورها وأشكالها، وكان جاداً وعنيفاً فى مواجهة الإخوان المسلمين، الذين تآمروا عليه.
الزعماء ملك لشعوبهم، وسوف يأتى وقت ينالون حقهم المشروع فى التقييم والتحليل، بعيداً عن الميول الشخصية، فالتاريخ لا يخطئ كثيراً، وإن كان ليس بمنأى عن الظلم.
الخلاصة: مصر باقية والأشخاص زائلون، وتنتعش عزتها وكرامتها للأوفياء الذين يؤمنون بعظمتها وخلودها، فيبنون ويعمرون، وينشرون الخير والحب والعدل.
مصر فوق الأحزاب، وزعماؤها وطنيون مخلصون، أصابوا أو أخطأوا، لأنهم فى النهاية بشر، وإذا أردنا أن نحكم عليهم، فليكن ذلك بميزان التجرد.