حديث الأسبوع

حينما ينجح أثرياء كورونا فى استثمار المآسى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

تتواتر المعطيات والحقائق التى تؤشر على أن العالم ما بعد وباء كورونا سيكون مختلفا عما كان عليه من قبل، وإن عالما آخر مختلفا سيخرج من تداعيات انتشار هذا الوباء الخبيث. ومن المحقق إلى اليوم أن هذا التغيير سيطال بصفة رئيسية النظام الاقتصادى العالمى فى منظومات الإنتاج والتسويق والاستهلاك، وسيفرض إعادة ترتيب الأولويات لتحتل السياسات العمومية المتعلقة بالتعليم والتربية والتكوين والصحة والبحث العلمى وإدارة السلطة المراتب المتقدمة فى هذه الأولويات، وأيضا تفريغ كل هذه الهواجس والانشغالات فى نماذج تنمية جديدة، بعدما أنهى وباء كورونا صلاحيات نماذج التنمية التقليدية التى أنتجت أوضاعا كانت موضع انتقاد.
ومهم أن نذكر بأن إحداث هذا التغيير أو فرضه على النظام الاقتصادى والاجتماعى العالمى لن يكون عملية سهلة ومريحة، بل المؤكد لحد الآن أن العالم بأسره سيعيش مرحلة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية فى غاية الصعوبة، سيتعرض خلالها إلى هزات عنيفة ستكون لها ما بعدها، وستفرز أنماط قيم اجتماعية جديدة، ونماذج سلوك مغايرة.
هذه أضحت حقائق مسلم بها تجمع عليها الأوساط المتخصصة فى قضايا التنمية والاقتصاد والسوسيولوجيا. ولنا أن نتوقف قليلا عند مضمون الخروج الإعلامى الأخير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى، حيث تضمن بيان صدر قبل أيام عن هذه المنظمة الدولية تحذيرا من أن «معدلات التنمية البشرية على الصعيد الدولى، والتى تقاس من خلال مؤشر تجميعى لمستويات التعليم والصحة ومستوى العيش لكل بلدان العالم، فى طريقها إلى التراجع هذا العام لأول مرة منذ تبنى مفهوم التنمية البشرية فى عام 1990». وصرح مدير البرنامج الإنمائى السيد آخيم شتاينر قائلا «شهد العالم العديد من الأزمات خلال السنوات الثلاثين الماضية، بما فى ذلك الأزمة المالية العالمية ما بين عامى 2007 و2009، أثرت كل منها على معدلات التنمية البشرية سلبا، ولكن ظلت تلك المعدلات تحقق المكاسب عاما تلو الآخر على صعيد المتوسط العالمى، لكن التأثير السلبى لجائحة كوفيدـ19 على ثلاثية الصحة والتعليم ومستويات الدخل، قد يغير هذا الإتجاه المتواصل من المكاسب، بل إنه قد يعاكسه، إذ تشهد البلدان، الغنية والفقيرة على حد سواء، فى كل أنحاء العالم تراجعا ملموسا فى مجالات التنمية البشرية الأساسية».
وفى التفاصيل يكشف تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، أن تقديراته تشير إلى أن 60 بالمائة من الأطفال على المستوى العالمى لا يحصلون على تعليم، وهو مستوى لم يشهده العالم منذ ثمانينات القرن الماضى، وتوقع انخفاض نصيب الفرد من الدخل هذا العام بنسبة أربعة بالمائة. ونبه إلى أن «التأثير المجمع لهذه الصدمات من شأنه أن يولد أكبر تراجع فى التنمية البشرية تم تسجيله على الإطلاق، وهذا وحده دون احتساب الآثار القوية الأخرى. وأضاف أنه مقارنة بالبلدان الغنية، من المتوقع أن تكون معدلات الانخفاض فى التنمية البشرية أعلى بكثير فى البلدان النامية التى تقل قدراتها على التعامل مع التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن الوباء، بمعنى أن الفاتورة المكلفة لما بعد كورونا ستسددها الدول ذات القدرات الاقتصادية المحدودة، وهى التى كانت، ولاتزال، تعانى من مستويات متفاوتة من العجز فى الخدمات الاجتماعية وفى تدنى معدلات الدخل الفردى.
والواضح أن تنامى مظاهر الخوف والقلق من الزمن القادم بعد اختفاء كورونا له ما يبرره وما يفسره، إذ أن التصدى للأوضاع المتردية التى سيجلبها زمان ما بعد كورونا سيعتمد أساسا على الجهود الذاتية لكل دولة على حدة، وفى أحسن الحالات قد يتم هذا التصدى عبر التعاون الإقليمى أو الجهوى الذى يستند إلى الانتماء الجغرافى. ومعنى هذا أن الدول ذات الاقتصاديات القوية، والمجموعات الاقتصادية الجهوية، ستكون أكثر قدرة على مواجهة المتاعب والصعوبات القادمة، بما يخفف من آثارها، بينما ستجد الدول النامية وذات الإمكانيات الاقتصادية والمالية المحدودة، صعوبات كبيرة جدا فى هذا التصدى بما ينذر بعواقب أكثر وخامة على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، والتى ستمتد لا محالة إلى الأوضاع السياسية العامة فى كثير من مناطق العالم. لأنه حسب الخبراء المتخصصين، فإن مواجهة القادم من الأوضاع يقتضى اعتماد سياسات عمومية تسعى إلى تحقيق المساواة والإنصاف بين البشر وبين المجموعات، وأيضا المساواة والعدالة المجالية والترابية بين الجهات، لأن التركيز على الفرد دون الاهتمام بتنمية مصادر الدخل والرخاء فى المناطق التى يعيش فيها هذا الفرد، لن يحقق النتائج المرجوة، وستقتصر نتائجه على أمد زمنى قصير جدا. وبذلك فإنه لا مجال للتصدى إلى ما سيحمله الزمن القادم ما بعد كورونا، إلا من خلال اتفاق المجتمع الدولى على مقاربة واحدة وموحدة تحمى البشرية جمعاء، وليس مجموعة دون أخرى، وهذا ما يبدو بعيد المنال، إن لم يكن مستبعدا جدا ويقترب من المستحيل، لأن الأقوياء سيبحثون عن سبل وصيغ استثمار مآسى الضعفاء لمراكمة المصالح والأرباح. كما يحدث فى الحروب الضارية حينما ينجح أثرياؤها فى تحويل المآسى إلى منافع شخصية نذر الأموال والنعم.