ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: في ذمة التاريخ

ياسر رزق
ياسر رزق

«لست بصدد التأريخ لمبارك، ولست في موقف تقييم رئيس أمضى في الحكم ثلاثين عاما، فهذا أوان التذكر في لحظة رحيل.. والحسنات يذهبن السيئات»


تلك كانت واحدة من أروع اللحظات التي عشتها في مشواري الصحفي، بل في حياتي كلها.

الموسيقات العسكرية تصدح في المكان، تبدد السكون، وتملأ الأجواء، في وادي طابا، عند سفح المرتفعات التي تطل منها علامة الحدود رقم (91)، وعلى امتداد البصر يلوح شاطئ رأس خليج العقبة الذي يجمع مع طابا مدينتي إيلات الإسرائيلية والعقبة الأردنية.

يتقدم حرس الشرف حاملين علم مصر مطوياً ويسلمونه إلى الرئيس حسني مبارك، الذي يتقدم نحو الصاري، ويضع العلم الغالي عليه ويرفعه خفاقاً عالياً شامخاً، يرفرف فوق الرءوس بينما تداعب المسامع نغمات «سلام العلم»، تسرى إلى الفؤاد، وتستدعى إلى الذاكرة أيام حرب أكتوبر وعبيرها الأخاذ.

وجدت نفسي بين الوقوف الحاضرين من رجال صحافة وإعلام وسياسيين  وفنانين وشخصيات عامة، نهتف جميعا بصوت واحد دونما ترتيب: «تحيا مصر».

كان ذلك يوم التاسع عشر من مارس عام 1989.

وبدأت قبل ذلك اليوم بعام واحد عملي مندوباً لجريدتي «الأخبار» لدى رئاسة الجمهورية، وظللت أتابع نشاط الرئيس داخل وخارج الجمهورية حتى عام 2008.

عشرون عاماً كاملة أمضيتها في ذلك التكليف الصحفي. وسمعت الرئيس الراحل حسني مبارك مرات عديدة يجيب حين يُسأل عن أغلى يوم قضاه في منصبه: بأنه يوم تحرير طابا..!

فقد تحررت في ذلك اليوم آخر حبة رمل مصرية من الأراضي التي اغتصبها العدو الإسرائيلي في عدوان يونيو 1967، بعد ماراثون تفاوضي قرابة سبع سنوات، انتهى بصدور حكم هيئة التحكيم الدولية بمصرية طابا ونقاط أخرى على طول خط الحدود بين مصر وإسرائيل في سبتمبر عام 1988، ثم تسليم منطقة طابا ومساحتها لا تزيد على كيلومتر مربع إلى السيادة المصرية، في ذلك الاحتفال المشهود.

< < <

حينما تسلم مبارك المسئولية، بعد اغتيال الرئيس أنور السادات بطل الحرب والسلام في حادث المنصة على أيدي الجماعات الإسلامية وريثة جماعة الإخوان في يوم السادس من أكتوبر عام 1981، كان المتبقي ستة أشهر على موعد الانسحاب الإسرائيلي من باقي سيناء في المسافة الممتدة شرق خط العريش -رأس محمد إلى الحدود الدولية وذلك في 25 إبريل 1982.

حاول الإسرائيليون كعادتهم التملص من التزاماتهم بإتمام الانسحاب في موعده، بذريعة أن هناك رئيساً جديداً تسلم منصبه في مصر، وأنهم لا يعرفون مدى التزامه بمعاهدة السلام، وطلبوا أن يعيد هو التوقيع عليها، واستمالوا إدارة ريجان إلى جانبهم، غير أن الرئيس الجديد مبارك رفض تماما الرضوخ لمطلبهم، مهدداً بأن مصر لن تلتزم بمعاهدة السلام، ما لم يكتمل الانسحاب الإسرائيلي.

وحين أرادت إسرائيل، وضع «مسمار جحا» لها في سيناء بادعاء أن طابا تقع داخل حدودها، تشبث مبارك بمصرية طابا، وانسحبت إسرائيل منها ولم تدخلها القوات المصرية، حتى انتهت المفاوضات باتفاق مشارطة التحكيم، الذي أحال القضية إلى هيئة تحكيم دولية قضت بأن طابا مصرية.

< < <

رأيت رأي العين في يوم تحرير طابا، دموع الإسرائيليين وشاهدت نحيبهم  الوقح على أرض ليست لهم اغتصبوها وحان وقت جلائهم عنها.

واليوم أجد نفسي لا أكاد أتذكر رجلاً أكثر من مبارك أبكى الإسرائيليين، في نضاله على مدار الحروب العربية الإسرائيلية في عام 1948، وعام 1956، وعام 1967، وحرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر عام 1973 التي قاد فيها سلاح الجو المصري المظفر واستطاع تدمير الأهداف المعادية في قلب سيناء وغيرها، في ضربة جوية واحدة لم نكن لدقتها، بحاجة إلى تكرارها.

لذا أضحك ساخرا من القادة الإسرائيليين، الذين يحاولون الانتقام من الرجل الذي كان أحد الأسباب الرئيسية لهزيمتهم في حرب رمضان، والذي حرر باقي التراب المصري في سيناء حتى آخر حبة رمل، بالادعاء بأنه كان «كنزا استراتيجيا» لإسرائيل، لكي يتلقف خصوم مبارك ذلك الافتراء ويسيئوا للرجل، بعد أن فارقته السلطة..!

< < <

أستطيع أنا وكثيرون، أن نروي عشرات من القصص عن مبارك ترسم له صورة وضاءة لامعة، وأن نسرد أيضا بعض مواقف ترسم له صورة مغايرة.

.. لكن

لست بصدد التأريخ لمبارك.

ولست بصدد تقييم رئيس أمضى في الحكم ثلاثين عاما.

هذا ليس أوان التأريخ ولا التقييم.

هذا وقت التذكر في لحظة رحيل شخصية صارت في ذمة التاريخ.

تذكر ثوابت لا يغيرها زمن ولا ينال منها جدل.

فلسوف يبقى مبارك مصرياً وطنياً ضحى من أجل بلاده وقاتل في سبيل أرضها وناضل لتحرير ترابها.

وسوف يظل قائداً مصرياً دافع عن القضايا العربية، لاسيما قضية فلسطين، وكان موقفه من الغزو العراقي للكويت عام 1990 متسقاً مع مبادئ مصر التي حفظت لها مكانتها في أمتها.

وسوف يظل مبارك رئيساً سمح بهامش ليس ضيقاً لحرية الرأي والتعبير والصحافة، وكان إلى حد ما واسع الصدر متسامحاً تجاه الانتقاد، برغم محاولات صغار كبار المسئولين استعداءه على الإعلام.

وربما لولا هذا الهامش ما بقى مبارك ثلاثين عاماً في الحكم..!

< < <

أما....

- لماذا قامت ثورة 25 يناير عام 2011؟

- لماذا سمح مبارك بتزوير الانتخابات لاسيما انتخابات مجلس الشعب عام 2010؟

- لماذا ترك الإخوان يرعون وسط الجماهير ويقفزون إلى المشهد السياسي والبرلماني، ويتآمرون على الدولة؟

- لماذا لم يمنع زواج المال بالسلطة في الحكومة والبرلمان؟

- ثم.. إذا كان يرفض توريث الحكم لماذا سمح بملف التوريث يتحول إلى واقع يروج له السدنة والمستفيدون ويوغرون صدر أبناء الشعب على الرئيس غضباً لكرامتهم..؟!

تلك وغيرها أسئلة، ليس هذا أوان الإجابة عليها، إنما سوف يجيب عليها المستقبل القريب حينما ينأى التأريخ عن لهيب العواطف، وعن نيران الغضب.

< < <

السيئات لا يذهبن الحسنات.

بل الحسنات هن اللائي يذهبن السيئات.

رحم الله مبارك المقاتل والقائد والرئيس، جزاء ما قدمه لبلاده، وغفر له فيما قصر وتهاون وأخطأ.

ولعل ذروة الذروة في تضحياته وعطائه من أجل وطنه -التي رأيتها رأى العين- وهو يرفع علم مصر خفاقاً عالياً فوق طابا، إيذانا بتحرير آخر حبة رمل مصرية من دنس الاحتلال الإسرائيلي، تغفر ما تأخر من ذنب لمبارك الرئيس.

 


- أعرف الصديق والأخ أسامة هيكل وزير الإعلام قبل 40 عاماً مضت أو أكثر، منذ أيام الدراسة بالإسماعيلية.

أعلم مدى جلده ومثابرته في العمل، وأدرك قدر غيرته على مهنته كصحفي وإعلامي ورغبته في السمو بها والنهوض بالصحافة والإعلام في مصر.

وأحسب أن مهمة الوزير هيكل هى الأكثر صعوبة بين زملائه الوزراء، فالمطلوب منه، أن يعيد بناء الوزارة بعد أن صارت ركاماً وتناثرت أشلاؤها بين مقابر شتى، ثم عليه أن يهيئ المجال والأجواء لترميم الإعلام المصري بعد أن تقوضت دعائمه وانكسرت أجنحته.. مأساة الإعلام المصري أن له مائة أب حين تتسلط الأضواء، وأنه يتيم الأبوين إذا أصابته الانتكاسات!

وأظن الوزير أسامة هيكل يحتاج إلى دعم كل زملائه الإعلاميين لكي ينجح في مهمته العسيرة الصعبة.

ويحتاج في المقام الأول إلى مساندة دائمة من القيادة السياسية لينجح في تحقيق المهام المكلف بها.

 

- لدينا في ماسبيرو قنوات تليفزيونية عديدة، بعضها متشابه وبعضها لا لزوم له. لكن ليس لدينا قناة وثائقية متخصصة في التاريخ والحضارة.. وأعتقد أن لدينا في مصر الإمكانات البشرية والفنية، ومواقع التصوير، بل لدينا أفلام جاهزة للعرض، كلها تكفل إنشاء قناة للحضارات، فمصر كانت مهداً ومنطلقاً للحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والعربية الإسلامية وتزخر أرضها بالآثار والمعابد والصروح التي تتحدث بلسان تلك الحضارات.

وأعتقد أن الأثاري كبير الدكتور زاهي حواس الذي يعرفه العالم من اليابان إلى أمريكا بأفلامه الوثائقية عن الحضارة المصرية القديمة، هو أفضل من يسند إليه إنشاء هذه القناة والأقدر على الإشراف عليها.. ولست أظن أن تكلفة الإنشاء والتشغيل ستصل إلى ربع تكلفة واحدة من قنوات التسلية التي لم تضف جديداً إلى غيرها ولم ترفع من شأن الثقافة المصرية.

- أحرص على متابعة البرامج الثقافية على القنوات العربية والأجنبية كلما سمح الوقت لكنى أجد شحاً في المكون الثقافي بالفضائيات المصرية، باستثناء برنامج واحد لمست جديته، واجتذبتني فقراته هو برنامج «المساء مع قصواء» على قناة «تن» الفضائية التي يشرف عليها الصديقان نشأت الديهي وعمرو عبدالحميد.

تابعت البرنامج في الفترة الأخيرة، في موعده في الثامنة مساء على مدى ساعتين يومي الجمعة والسبت، وأعجبني تنوع فقراته بين عرض الكتب المترجمة والعربية والموسيقى والطرب القديم، واستضافة الشخصيات الثقافية والفنية «غير المحروقة» في حوارات ثرية حول قضايا تثير شهية المشاهد متوسط الثقافة.

والحقيقة أن جانباً من نجاح هذا البرنامج يعود إلى تمكن مقدمة البرنامج الإعلامية قصواء الخلالي وهى أيضا رئيسة تحريره، من أدواتها وأهمها الثقافة متنوعة الروافد والحضور وحسن الطلة وسرعة البديهة.

ولم أستغرب عندما علمت من الإعلامية الشابة المثقفة أنها من أبناء ماسبيرو، لكنى استغربت أنه لم تتم الاستفادة بها في الإشراف على قناة النيل الثقافية التي تعانى من عزوف عن المشاهدة، دونما أن نخسر حضورها ببرنامجها على قناة «تن».

وأظن مثل ذلك البرنامج، والقناة الثقافية بعد تطويرها، هى نوافذ واسعة لإطلالة القوة الناعمة المصرية على ملايين المصريين والعرب.


- لا أعرف سر انشغال البعض ممن ينتسبون إلى تيار الإسلام السياسي ويتبوأون منصات الإعلام الديني، بمصير هذا الشخص أو ذاك في الحياة الآخرة، وهل سيدخل الجنة، أم سيكون مثواه جهنم وبئس المصير! والحق أن ما يجمع هؤلاء بجانب الجهل وسوء الطوية هو غضب الله المرسوم على وجوههم وكأنهم من كفار قريش!

والغريب أننا نسمع من هؤلاء مديحاً وتقريظاً فى شأن قتلة وسفاكي دماء أمثال طيب أردوغان وروحاني والمقبور سليماني والقطري تميم، ونجدهم يجزمون بأن مأوى د.مجدي يعقوب ملاك القلوب هو جهنم لأنه مسيحي، ومثوى نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين خلاصة عقل مصر والعرب هو النار لأنهم تجرأوا على التفكير! أقول إن ذلك ليس غريبا عليهم، أليسوا هم الذين أفتوا بقتل السادات، الزعيم الوحيد الذي انتصر على إسرائيل؟!

أعرف جهود د.مختار جمعة وزير الأوقاف في تتبع هؤلاء الخوارج وحرمانهم من الخطابة.. لكن المطلوب جهد أكبر في تطهير الأوقاف والأزهر من أمثال هؤلاء ومنعهم من الظهور على شاشات التليفزيون.