دراسة تكشف: حدود الاشتباك بين واشنطن وطهران

نعش سليماني تحمله سيارة صناعة أمريكية
نعش سليماني تحمله سيارة صناعة أمريكية

دراسة - د. محمد الزيات


من المرتقب أن تلقى عملية اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى الجنرال قاسم سليمانى ومعه أبو مهدى المهندس نائب قائد الحشد الشعبى العراقى وأربعة من كبار ضباط فيلق القدس فى بغداد بالعديد من التداعيات التى ستنعكس تباعاً وسريعاً على العلاقات الإيرانية - الأمريكية، باعتبارها تمثل خطوات تصعيدية خطيرة وغير مسبوقة، بل يمكن القول انها لم تكن مدرجة كأحد السيناريوهات المحتملة لدى الطرفين وفقا لخبرة وطبيعة مسار العلاقات فيما بينهما على مدار العقود الأربعة الماضية منذ الثورة الإيرانية عام 1979 والتى غلب عليها طابع التوتر . 


 كذلك يعكس هذا التطور العديد من الدلالات فى المقدمة منها متغير قواعد الاشتباك التقليدية التى أرساها الطرفان طيلة تلك الفترة، لاسيما مرحلة تواجدهما معا على الساحة العراقية منذ سقوط النظام العراقى السابق عام 2003، حيث سيعتمد الطرفان عملية «شد الأطراف» إلى أقصى درجة ممكنة، وذلك بالنظر الى المكانة التى كان يتمتع بها سليمانى فى موقعه القريب جدا من رأس الهرم فى النظام الإيراني، والتى تعد مكانة استثنائية، كما أن غياب شخصية محورية مثل سليمانى سيكون له انعكاساته على مشروع ايران الاقليمى والتى ستحارب من أجل استكماله، بما سينعكس بالتبعية على مستوى الاستقرار والأمن داخل العراق وعلى المنطقة بصفة عامة. 


وفى هذا السياق من المتصور أن هناك عدداً من الملاحظات الرئيسية يجب وضعها فى الاعتبار أولاً لتحليل المشهد الحالى ومنها على سبيل المثال:- 


سليمانى: غياب الجنرال المؤسس لذراع طهران الطويلة فى الخارج 


حيث يعتبر الجنرال قاسم سليمانى هو المؤسس والقائد الفعلى لفيلق القدس «ذراع العمليات الخارجية للحرس الثورى الإيرانى» قد أصبح خاصة خلال العام الأخير شخصية سياسية تجاوزت المنصب العسكرى الأمنى، بحيث أصبح المسئول الأول سياسيًا وعسكريًا عن الملفات السورية والعراقية واليمنية واللبنانية والذى يتولى الاستراتيجية الإيرانية فى تلك الدول ويعتبر بذلك مهندسًا للأذرع الإيرانية الخارجية، وتتولى قيادات أخرى العمل التنفيذى فى تلك الملفات، وقد زادت مهامه فى الفترة الأخيرة، حيث تولى فيلق القدس مهام داخلية فى مواجهة التظاهرات التى شهدتها إيران مؤخرًا وذلك بتكليف من خامنئى شخصيًا متجاوزًا كل القيادات العسكرية فى الجيش والحرس الثورى الإيراني.


خليفة سليمانى: تركة ثقيلة ومستقبل حافل بالتحديات


الجنرال «إسماعيل قآني» كان بمثابة رئيس أركان حرب فيلق القدس وكان نائبًا لقاسم سليمانى منذ انشاء الفيلق وتولى المهام التنفيذية للانتشار العسكرى الإيرانى المباشر أو من خلال الفصائل العسكرية العراقية والمجموعات الباكستانية والافغانية فى سوريا، ومع تصعيد سليمانى للمهام السياسية زادت مسئولية إسماعيل قآنى فى تنفيذ المهام العسكرية فى سوريا واليمن. وبالتالى سيحاول تعويض غياب سليمانى بلعب الأدوار التى كان يلعبها لكنه سيمنح أولوية للجانب العسكري. 


أبو مهدى المهندس: غياب « نائب الظل» ورجل طهران القوى فى العراق 


أبو المهدى المهندس الذى تم اغتياله أيضاً كان عنصرًا أساسيًا فى الكتيبة العراقية التى أنشأتها المخابرات الإيرانية فى فترة الصراع مع النظام العراقى السابق، وكان أحد كوادر حزب الدعوة العراقى الذى قام بمحاولة فاشلة لاغتيال أمير الكويت 1985، وشارك مع مجموعاتٍ عسكريةٍ فى الحرب العراقية الإيرانية مع الجانب الإيرانى وأسس فيلق بدر التنظيم العسكرى الأول الذى انشأته إيران فى العراق بعد سقوط النظام، ثم تركه لقيادة الهادى العامرى أحد الكوادر المرتبطة بفيلق القدس، وأسس كذلك حزب الله العراقي، وبعد تكوينه تركه ليتفرغ لمنصب نائب قاسم سليمانى فى العراق والذى يٌشرف فعليًا على كل ما يتعلق بفصائل الحشد الشعبى وخارطة انتشاره سواء فى العراق أو سوريا، وساعده سليمانى فى إرغام الحكومة العراقية على تمويل وتسليح تلك الفصائل. ومن المتوقع أن هناك العديد من الشخصيات التى ستتنافس على ملء الفراغ الذى تركه المهندس وهى الشخصيات التى كانت تدور فى فلكه مثل هادى العامرى رفيق دربه وقيس الخزعلى زعيم مليشيا عصائب أهل الحق الذى كان من أبرز المقربين له فى الفترة الأخيرة وآخرين. 


أما على صعيد الدلالات ذات الصلة بتلك التطورات فهناك أربع دلالات رئيسية وهى: 


ضربة استباقية نوعية: من المتصور أن الوفد الذى رأسه سليمانى وتعرض للضربة الأمريكية كان عائداً- حسب مصادر إسرائيلية وامريكية- من زيارة ميدانية لدمشق ولم يلتقِ خلالها بأى من كبار المسئولين السوريين، ولكنه التقى بقادة الفصائل الميدانية التابعة لإيران فى سوريا وذلك لإقرار إعادة هيكلة وانتشار لتلك التنظيمات فى مناطق أكثر تحصينًا والاتفاق على خطة عمليات خلال المرحلة القادمة. ويُرجح أن معلومات استخباراتية إسرائيلية تم تسريبها للولايات المتحدة، قرأت هذه اللقاءات على انها استعدادً لعمليات عسكرية ضد مصالح أمريكية فى المنطقة وهو ما استند إليه الرئيس الأمريكى فى تبرير ضربته. 


عرقلة خطة طهران المستقبلية لإعادة هيكلة أذرعها الخارجية مؤقتاً: حيث تزامن ذلك كله مع توجه جديد تبناه سليمانى ومعه أبومهدى المهندس لإعادة هيكلة وانتشار الفصائل العسكرية العراقية وفى المناطق المحيطة بالانتشار الأمريكى العسكرى والسياسى فى العراق، فضلًا عن اتخاذ إجراءات وترتيبات لإنشاء فصيلين عسكريين جديدين من مجموعات عراقية خارج التنظيمات الموجودة حاليًا وتم تدريبها فى إيران وبإشراف مباشر من قيادات فى فيلق القدس وأبو مهدى المهندس شخصيًا، حتى تكون غير مرصودة لدى الولايات المتحدة الأمريكية وتتولى مهام لا يُحاسب عليها الحشد الشعبى بصورة مباشرة.


توظيف إيران للحدث بإعادة اصطفاف الكتل الشيعية:


على الرغم من خسارة إيران لقائد كبير بحجم سليمانى، لكن من المؤكد أنها ستوظف غيابه من خلال استثمار إعادة ترتيب البيت الشيعى الذى شهد تصدعات عديدة خلال الفترة السابقة، حيث ستعيد تلك الفصائل اصطفافها مجدداً وستتكاتف على هدف واحد وهو مواجهة التواجد الأمريكى فى العراق، كذلك فموقف المرجعية العليا فى العراق - آية الله على السيستاني- من العملية الأمريكية جاء واضحًا وفى غير صالح الموقف الأمريكى وهو ما سوف تستثمره إيران والقوى المعادية لأمريكا فى العراق، وسيمثل ذلك فتوى يضغط بها الحشد الشعبى على الكتل السياسية الشيعية لاتخاذ موقف سياسى ضد الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق.


أولويات الردع: سبقت هذه الضربة تبادل لعمليات عسكرية بين كل من إيران والولايات المتحدة على الساحة العراقية تصاعدت بشكل واضح فى الشهرين الأخيرين، حيث تعرضت المنشآت العسكرية الأمريكية فى العراق لـــ (11) هجمة صاروخية بصواريخ كاتيوشا وصواريخ عيار 200 ملى بكثافة، وجاءت العملية الأخيرة للتأكيد على استعادة الردع الأمريكى فى المواجهة مع ايران، وفى المقابل ستعمل ايران من جانبها بعد امتصاص الضربات السابقة إلى توجيه ضربة أيضا فى إطار الردع المضاد كأولوية بالدرجة الأولى. 


على صعيد التداعيات المرتقبة للعملية فمن المتوقع أنها ستكون فى إطار عدد من المسارات ومنها على سبيل المثال :- 


1- زيادة حدة التوتر فى الأزمة النووية الإيرانية والعلاقات الأمريكية - الإيرانية بصفة عامة، بحيث لا يتصور معها أن يتجه أى مسئول إيرانى لقبول التفاوض على عناصر تلك الأزمة فى التوقيت الحالي، وهو ما يضع صعوبات أمام ما كانت تقوم به بعض الدول الأوروبية خصوصًا فرنسا على هذا المستوى.


2- أعادت العملية طرح قضية الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق والإطار الاتفاقى الذى يحكمها وسوف تُزايد القوى الشيعية السياسية على ذلك خلال المرحلة الحالية، ومن المُرجح أن تُطرح قوانين لاتخاذ قرار بطرد هذه القوات من العراق، إلا أنه لا يتصور أن يتوصل البرلمان لقرار بهذا الخصوص بسهولة، حيث تمثل الكتلة الكردية عنصر ترجيح، وسوف ترفض مثل هذا القرار، لكنه سيكون مجالًا للتجاذب السياسى لعناصر الأزمة القائمة فى العراق. 


3- من المرجح أن تؤدى هذه العملية إلى إعادة تماسك الكتل السياسية الشيعية الرئيسية وتعيد القوى التى حاولت اتخاذ مواقف أكثر استقلالية فيما يتعلق بالتبعية لإيران - مقتدى الصدر/ الحكيم - وهو ما يمكن أن يدفع إلى تشكيل حكومة عراقية وفقًا للضوابط السابقة، تحتفظ إيران داخلها بمستوى النفوذ السابق على حساب دعاوى تغيير هيكل النظام العراقي.


4- من المرجح أن تترك العملية بتفاعلاتها المختلفة تداعيات سلبية على الحراك السياسى الجارى فى العراق، بحيث تكون المواجهة بين قوى الشارع المطالبة بالتغيير الجذرى فى هيكل النظام والقوى المرتبطة بإيران أكثر حدة وعنفًا، وهو ما يطرح سقفًا لهذا الحراك لا يشمل التغيير المطلوب ولكنه سيستجيب لبعض المطالب فيما يتعلق بمواجهة الفساد وأبعاد الشخصيات المحسوبة على التنظيمات الحالية من المشهد السياسى فى العراق، كنوع من الترضية لا تنسحب على تغيير هيكل النظام الحالي.


5- من الطبيعى أن يكون هناك رد إيرانى على العملية العسكرية للمحافظة على الهيبة الإيرانية فى مناطق الأذرع بما يُرجح معه التعرض لبعض مناطق الوجود الأمريكى العسكرى والسياسى فى تلك الدول أو بعض الدول الخليجية سواء بصورة مباشرة من إيران أو من الأذرع المرتبطة بها.


6- رغم استراتيجية الرئيس الأمريكى لتخفيف الوجود العسكرى فى الخارج، إلا أن هذه التطورات سوف تدفعه لزيادة الانتشار العسكرى فى العراق والخليج والدوائر التى ينتشر فيها الحضور الأمريكي، بما لا يتوافق مع ما أعلنه فى حملته الانتخابية ويزيد من مناطق التعرض الأمريكى للعمليات الإيرانية، وهو ما يمكن أن يُمثل عاملًا على الإدارة الأمريكية فى المواجهة الجارية مع إيران.


7- من المُرجح كذلك أن تؤدى مجمل هذه التطورات إلى تداعيات داخلية فى إيران، حيث ترتفع أسهم المتشددين فى مواجهة الأقل تشددًا  «الإصلاحيين» وكذلك على الحراك الداخلى فى إيران، حيث سيركز النظام على تصاعد الخطر الخارجى والتأكيد على أنه يهدد الدولة الإيرانية وليس النظام.


فى المحصلة الأخيرة، يمكن القول إن الإدارة الأمريكية باتخاذها هذا القرار استهدفت مكاسب داخلية للرئيس الأمريكى الذى يواجه موقفًا داخليًا صعبًا، ليبدو حريصًا على الأرواح الأمريكية ليجذب الانتباه الشعبى إليه، ولعل تأكيد كل القيادات العسكرية والسياسية الأمريكية فى تعليقها على العملية على أنه قرار مباشر للرئيس للحفاظ على أرواح الأمريكيين. كما يكشف ذلك عن توجه للرئيس الأمريكى بأنه أقر سياسة استباقية فى مواجهة القوى التى يعتبرها مهددة للمصالح الأمريكية وذلك لمواجهة الاتهامات التى يوجها الديمقراطيون إليه بالضعف وعدم الرؤية الصائبة فى مواجهة التهديدات الأمريكية.


إن ذلك كله لن يؤثر على الاستراتيجية الإيرانية فى دول الأزمات التى تمثل الأذرع الإيرانية وسوف تحرص إيران على تقديم أية تنازلات أو تفاهمات خلال المرحلة القادمة للتأكيد على امتلاكها أوراق الضغط، والقدرة على تهديد الاستقرار والأمن فى مناطق المصالح الأمريكية والغربية.


وتجرى هذه الأحداث والتطورات فى شكل ومستوى المواجهات بين أمريكا وإيران وميدانها الرئيسى هو الدول العربية التى تشتبك مع عناصر هذه المواجهة فى ظل غياب موقف عربى جامع لتحديد مدى تأثيرها على المصالح العربية والأمن القومى العربى واتخاذ ترتيبات أو مواقف تحد من سلبياتها عليه.