حكايات| «حديقة الأسماك» تروي قصة عشق خديوي مصر لملكة فرنسا

حديقة الاسماك
حديقة الاسماك

«حديقة الأسماك» دليل المحبة الذي قدمه خديوي مصر لإمبراطورة فرنسا وأصبحت رمزًا للعشاق

 

تُعد «حديقة الأسماك أو حديقة الُعشاق» إحدى العلامات التاريخية الجميلة الواقعة في حي الزمالك بالقاهرة، وتم تسجيلها من قبل وزارة الآثار ضمن الآثار الإسلامية والقبطية، ورغم روعة تصميمها وشدة جمالها وتناسقها المعماري الغريب، إلا أن هذا الجمال أصبح من الماضي بسبب إهمال صيانتها وتجديدها.

وربما يظن البعض أنها مثل غيرها من الحدائق أو المتنزهات، أما المفاجأة التي قد لا يعلمها الكثيرون، أن هذه الحديقة لم يتم بنائها في الأساس لتكون متنزهًا للمواطنين، وإنما كان بنائها شاهدًا على واحدة من أكبر قصص الحب في التاريخ الحديث، وبمعنى أدق كان إنشاء هذه الحديقة بمثابة هدية الحبيب لحبيبته، هذا الحبيب كان الخديوي إسماعيل«خديوي مصر آنذاك» أما حبيبته التي كان يهيم بها حبًا ومن أجلها بنى لها خصيصًا أجمل حديقة على النيل فكانت الإمبراطورة الفرنسية «أوجيني» ملكة فرنسا آنذاك، لكن كيف جمع الحب بين قلبيهما لهذه الدرجة الكبيرة؟.

الخديوي إسماعيل

قبل أن نخوض في كيفية بناء «حديقة الأسماك» والسبب وراء اختيار موقعها، يجب أولًا الإشارة إلى صاحب الفكرة ومؤسسها وهو الخديوي إسماعيل خامس حكام مصر من الأسرة العلوية خلال الفترة من 18 يناير 1863 إلى أن خلعه عن العرش السلطان العثماني تحت ضغط كل من إنجلترا وفرنسا في 26 يونيو 1879، والخديوي إسماعيل هو بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، ولد في 31 ديسمبر 1830م في قصر المسافر خانه بالجمالية، وهو الابن الأوسط بين ثلاثة أبناء لإبراهيم باشا غير أشقاء وهم الأميرين أحمد رفعت ومصطفى فاضل.

قصة حب لم تكتمل

اهتم والده إبراهيم باشا بتعليمه، فتعلم مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية، بالإضافة إلى القليل من الرياضيات والطبيعة وأرسله والده وهو في سن الرابعة عشر إلى فيينا عاصمة النمسا، لكي يعالج بها من إصابته برمد صديدي، وأيضاً لاستكمال تعليمه، وقد بقي في فيينا لمدة عامين، ثم التحق بالبعثة المصرية الخامسة المسافرة إلى باريس لينتظم في دراسته بفرنسا ومن هنا كانت البداية.

الجمال الفرنسي

شاهد الخديوي إسماعيل وكان وقتها لا يزال شابًا يدرس في باريس، فتاه فرنسيه ارستقراطيه جميلة تُدعى «أوجيني»، التي ولدت في إقليم غرناطة بأسبانيا، وتميزت بذكائها الحاد وجمالها الأخاذ الذي كان يأسر القلوب والعيون، سافرت أوجيني إلى مقاطعة باريس بفرنسا لاستكمال تعليمها، وكانت تجيد اللغات الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، وفي باريس شاهدت إسماعيل لأول مرة، تعلق بشدة قلب الشاب إسماعيل بالفتاة الجميلة «أوجيني» ويبدو أنها بادلته نفس الشعور كما سنوضح لاحقًا، لكن حال بينهما الظروف السياسية والاجتماعية غير المُستقرة وقتها بالإضافة إلى انتهاء فترة الخديوي إسماعيل في باريس وضرورة عودته مع باقي البعثة التعليمة إلى مصر، مرت سنوات عديدة على هذا اللقاء وسارت سفينة الحياة بكل من «إسماعيل وأوجيني» في طريقها الطبيعي لكن بقيت مكانة كل منهما في قلب الأخر ساكنه في العقل والروح.

عاد الطالب إسماعيل إلى مصر وتزوج من مصر، وظل يتقلد العديد من المناصب ويخطو خطوات ثابتة نحو عالم السياسة حتى وصل إلى سُدة الحكم في مصر 18 يناير 1863، وأصبح لقبه الخديوي إسماعيل «خديوي مصر»، وعمل في فترة حكمه على تطوير الملامح العمرانية والاقتصادية والإدارية في مصر بشكل كبير واستحق لقب المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد إنجازات جده محمد علي باشا الكبير.

قناة السويس

على الجانب الأخر كما أوضحنا فإن «أوجيني» كانت تتمتع بوجه شديد الجمال والجاذبية، ما دفع الإمبراطور الفرنسي آنذاك «نابليون الثالث» للإعجاب بها ومن ثم تزوجها في شهر يناير عام 1853، لكنه كان زواجًا تقليديًا ويخلو من المشاعر الفياضة، وبعد الزواج أقامت أوجيني في قصر «التويلري»، وهكذا سارت الحياة بشكل سينمائي شديد الحبكة الدرامية، الفتاة الارستقراطية «أوجيني» أصبحت إمبراطورة فرنسا، والطالب إسماعيل بن إبراهيم باشا أصبح خديوي مصر، كان الخديوي إسماعيل شديد الشبه بجده محمد علي من ناحية الطموح الدولي، كان يسعى جاهدًا لأن يضع مصر في مصاف الدول الكبرى وفي سبيل ذلك كان يرتكز بشكل كبير على التنمية الاقتصادية، سعى بقوة أن تكون واحده من أجمل بلاد العالم وفي عهده تم الانتهاء من حفر قناة السويس «17 نوفمبر 1869» وبدأت مراسم الاستعداد لإقامة حفل عالمي ليس له مثيل يتكلم عنه العالم أجمع.

تميمة السعادة

سافر الخديوي إسماعيل إلى أوروبا في 17 مايو 1869 لدعوة الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات ورجال السياسة والعلم والأدب والفن لحضور حفل افتتاح «قناة السويس» الذي عزم أن يقيمه في 17 نوفمبر 1869، لكن وسط كل هذه الدعوات الاحتفالية لم ينسى الخديوي إسماعيل دعوة أهم شخصيه في تاريخه والتي كان حضورها يمثل تميمة السعادة بالنسبة له، حبيبته السابقة الإمبراطورة الفرنسية آنذاك «أوجيني»، حيث وجه لها الدعوة لتكون ضيف شرف الحفل، تهللت أسارير الإمبراطورة الفرنسية وقابلت الدعوة بالترحاب الشديد ووعدت بتنفيذها وأعلنت زيارتها لمصر لحضور حفل الافتتاح بل أكدت أنها ستأتي إلى مصر قبل حفل الافتتاح بوقت كافي للاستمتاع بالزيارة.

أهم ضيف شرف

ترك الخديوي إسماعيل لمساعديه وعلى رأسهم وزير الخارجية وقتها نوبار باشا متابعة الاستعدادات النهائية لحفل افتتاح قناة السويس، أما هو فانشغل بالتفكير في هدية مناسبة تليق بحب العمر «الإمبراطورة أوجيني» وبعد تفكير عميق هداه تفكيره إلى شراء جزيرة كاملة تقع على النيل، وبدأت ترتيبات غير مسبوقة لإنشاء قصر كامل شديد الفخامة والأناقة، وربما قصر لم يسبق له مثيل من ناحية الفن المعماري آنذاك، وفي سبيل تحقيق ذلك استدعى إسماعيل خبراء الجمال المعماريين من أوروبا لبناء «قصر الجزيرة الذي عُرف فيما بعد باسم  قصر عمر الخيام الذي أصبح حاليًا فندق الماريوت بالزمالك المُطل على النيل»، وصنع لها داخل القصر غرفة نوم كاملة من الذهب الخالص، تتصدرها ياقوتة حمراء نقشت حولها بالفرنسية عبارة تقول «ستظل عيني معجبة بك إلى الأبد».

جاءت مفروشات القصر من فرنسا وإيطاليا، وبُنيت نافورة في وسطه من أجمل نافورات المياه في مصر، وأمر إسماعيل بوضع تمثالين يمتازان بالضخامة لأسدين من الرخام الأبيض على مدخله وعكف الخديوي إسماعيل، على التفكير في إنشاء حديقة لا مثيل لها في العالم، ولتحقيق حلمه طلب من مدير متنزهات باريس إحضار أفضل الخبراء لتصميم الحديقة لتكون على شكل جبلاية واستخدم الخبراء الطين الأسواني والرمل الأحمر في بنائها، بالإضافة للطوب المصنوع من خليط من الطين الأسواني والمواد الداعمة الصلبة لإنشاء تكوينات معمارية على هيئة خياشيم الأسماك.

حديقة ليس لها مثيل

 شملت الحديقة 49 حوضاً للأسماك المتنوعة والنادرة، التي تنعكس عليها أشعة الشمس خلال فتحات علوية، تتكون الحديقة من مدخل ينقسم إلى فتحتين تشبه فتحة خياشيم السمك وخلفها منطقة البهو، وفى جانب الفتحتين يوجد زعنفتان جانبيتان خلفهما ممرات الحديقة الأربعة، فأصبح تصميم الجبلاية يشبه السمكة، أما الجبلاية من الداخل فقد روعي عند تصميها أن تكون على شكل ممرات أو تجاويف داخل شعاب مرجانية تقبع في باطن البحر، وتضم العديد من الأسماك النيلية والبحرية ونجم البحر، وإذا نظرت إلى سقف أحد الممرات ستجده وكأنه واحد من بين تجاويف أخرى صنعتها الأمواج وهى تصاميم تعزف ألحاناً عند مرور الهواء بها، وبمرور الهواء داخل هذه التكوينات يصدر منها صوت كموج البحر، وأصبح المنظر العام للجبلاية في منتهى الروعة والجمال ولذلك أطلق على هذه الحديقة وقتها «حديقة الجبلاية»، وعرُفت فيما بعد باسم «حديقة الأسماك» التي بلغت مساحتها مضافاً إليها مجموعة الحدائق النباتية المجاورة لها حوالي تسعة أفدنة ونصف الفدان وتقع الآن بحي الزمالك في القاهرة، وأطلق عليها البعض فيما بعد أيضًا «حديقة العشاق» لأنها من أهم أماكن لقاء العشاق.

21 يوما في الجنة

جاءت «أوجيني» إلى مصر وحدها دون الإمبراطور الفرنسي الذي كان مشغولًا بالظروف السياسية التي تمر بها فرنسا بسبب الصراعات والحرب مع روسيا آنذاك، كان مجيء الإمبراطورة أوجيني كما وعدت الخديوي إسماعيل قبل ثلاثة أسابيع من حفل افتتاح قناة السويس، وبالغ الخديوي إسماعيل في الاحتفاء بها، كانت هي في الثالثة والأربعين من عمرها، لكنها بالغة الأنوثة والتألق والجمال والشياكة والجاذبية، زارت خلالها الآثار المصرية في الأقصر، وعبرت الإمبراطورة نفسها عن البذخ والترف في احتفالات افتتاح قناة السويس بقولها، «لم أر في حياتي أجمل ولا أروع من هذا الحفل الشرفي العظيم»، أشعر أنني في الجنة، قضت «أوجيني» في مصر 21 يومًا كانت مثل قصص ألف ليله وليله.

جبلاية الذكريات

كان من المستحيل أن تتطور العلاقة بين الخديوي إسماعيل والإمبراطورة أوجيني أكثر من ذلك رغم الحب الكبير الذي جمع بين قلبيهما، مرت السنوات وترك الخديوي إسماعيل الحكم وقضى المتبقي من حياته في الأستانة بعيدًا عن  مصر حتى وفاته، وسقطت الإمبراطورية الفرنسية، إلا أن «أوجيني» لم تنسى حبها في مصر حتى بعد وفاة الخديوي إسماعيل، ظلت على ذكراها القديمة وزارت مصر أكثر من مرة بداية من عام 1905 واستمرت زياراتها السنوية إلى مصر، حتى كانت أخر زيارة للإمبراطورة العجوز إلى مصر حيث جاءت متنكرة في زى بسيط وأقامت لعدة أيام في فندق «سافوي» في بورسعيد، ورغم كبر سنها تركت بورسعيد وتوجهت في زيارة إلى محافظة القاهرة حيث ذكرياتها الجميلة، وعندما شاهدها الشاعر الكبير وقتها حافظ إبراهيم قال فيها كلمات من الشعر قائلًا، «ولقد زانك المشيبُ بتاجٍ لا يُدانيهِ فى الجلال مُدانٍ»، توجهت أوجيني إلى «قصر الجزيرة أو قصر الذكريات» «الماريوت حاليًا» وشاهدها المصريين وهى تمشي حول قصر الجزيرة وحديقة الجبلاية والدموع تتلاعب في عينيها وكأنها تستعيد جزء من ذكريات حياتها الحلوة في مشهد سينمائي، كانت تحدث نفسها بحديث الذكريات وهي تبكي بشدة وكأن لسان حالها يقول، «في يوم من الأيام كل هذا الجمال تم بنائه من أجلي، في يوم من الأيام قضيت هنا أجمل قصص الحب، داخل هذا القصر وحول هذه الحديقة عشت أجمل 21 يوم في حياتي»، كانت هذه الزيارة هي أخر مرة وطأت فيها قدميها أرض مصر، وفي عام 1920 اشتد عليها المرض بعدما بلغت الرابعة والتسعين من عمرها، تركت مصر وتوجهت إلى مسقط رأسها بأسبانيا، كانت تربطها بملكة أسبانيا صداقة قديمة، إلا أنها فارقت الحياة في 11 يوليو من نفس العام بمجرد أن وطأت قدميها مقاطعة مدريد، ماتت أوجيني كما مات إسماعيل الرجل الذي أحبها وبنى من أجلها أجمل وأغرب قصر وحديقة في العالم في هذا العصر، رما مات أبطال القصة الحقيقيون لكن بقيت حديقة الأسماك في مكانها شامخة وشاهدة على واحدة من أفضل قصص الحب خلال العصر الحديث.