إنها مصر

قتلة جمال عبد الناصر!

كرم جبر
كرم جبر

مات جمال عبد الناصر فى الساعة السادسة والربع مساء يوم 28 سبتمبر 1970، وكان عمره 52 سنة و8 شهور و13 يوماً، ولم يكن يعانى من أمراض مستعصية يمكن أن تؤدى إلى الموت فى هذه السن المبكرة، سوى السكر الذى أصيب به بعد هزيمة يونيو، ونجح الأطباء فى السيطرة عليه، بجانب تصلب الشرايين، وهى أمراض يتعايش معها من هم فى السبعين والثمانين.. ولكن الحقيقة هى أن مشاكل العروبة هى التى قتلت عبد الناصر.
قبل وفاته بشهرين كان يعمل 16 ساعة فى اليوم، سافر إلى الرباط لحضور القمة العربية، ثم مر على الجزائر وزار طرابلس وبنغازى والخرطوم، ثم طار إلى موسكو وزار الخرطوم وليبيا مرة ثانية، وفى أثناء ذلك كان يتنقل بين القاهرة والإسكندرية وأسوان وجبهة القتال، ويقود حرب الاستنزاف.. ورغم ذلك فقد اتهمته دول الصمود «العراق وسوريا والفلسطينيين» بخيانة القضايا القومية، عندما قبل مبادرة روجرز قبل وفاته بقرابة شهر، وزادت آلامه وأوجاعه وأحزانه من المظاهرات التى خرجت فى عواصم تلك الدول تنادى بسقوطه، فكيف يُتهم الزعيم الذى وهب حياته للعروبة وضحى من أجلها بأرواح ودماء شهدائه، بأنه يخون قضايا العروبة ولم يعد يصلح زعيماً لها؟، ولم يفقد إيمانه أبداً وظل مدافعاً عنها حتى النفس الأخير.
أيلول الأسود التى تسببت فى موت عبد الناصر حزناً على الفلسطينيين، هى محطة سوداء فى تاريخ مرتكبيها.. الفلسطينيون طمعوا فى الأردن واستباحوا سيادته وأراضيه، ولم يراعوا حق الضيافة وأنشأوا دولة داخل الدولة تمنح التأشيرات وتفرض الجمارك وتفتش المدن والمطارات، واستهزأوا بالجيش الأردنى، وقتلوا أحد الجنود وقطعوا رأسه ولعبوا بها الكرة أمام أهله، وحاولوا خلع الملك حسين ودبروا مؤامرات لاغتياله مرتين، وحولوا شوارع عمان إلى ميادين للحرب الأهلية.
تم إنقاذ ياسر عرفات من القتل بمعجزة، وخرج من السفارة المصرية مع البعثة الدبلوماسية مرتدياً زى امرأة بدينة عليها عباءة سوداء، وكان فى وسع الملك حسين أن يقتله عندما ارتاب فيه جهاز المخابرات الأردنى، ولكنه أمر بأن يتركوه يغادر الأردن.
أسلم عبد الناصر الروح وقلبه معلق بفلسطين وشعبها، وارتفع فوق الصغائر وجحود وغدر قادتها، وكان المشهد الأخير فى مطار القاهرة بعد أن ودع أمير الكويت، وقبله كل الزعماء العرب الذين حضروا القمة الطارئة لوقف مذبحة أيلول الأسود، وعاد إلى بيته وطلب كوب عصير، شربه ومات.
إنها مصر أيها الجاحدون، الحارس الأمين على العرب وقضاياهم وهمومهم وأزماتهم، لم تخن ولم تبع، وظلت يدها نظيفة ولم تتلوث بدماء عربية، ولم تعرف الخيانة والغدر.
إنها مصر التى يتآمر عليها الصغار فى زمن الصغار، الذين كانوا سبباً فى كل النكبات التى تحل بالعرب، فحولوا «أمجاد يا عرب أمجاد»، إلى «التآمر والخيانات».