كأنه صخرة ضخمة، ألقيت من علٍ في قلب بحيرة راكدة، فحركت مياهها الآسنة في موجات عاتية متلاطمة، تعالت واجتمعت في تسونامي هائل، ضرب شطآن الحياة السياسية المصرية الجدباء طوال الأسبوع الماضي، وما زال يضربها.
هكذا تلاقت تعليقات شخصيات عامة ومسئولة مصرية على المقال الذي كتبته في هذا المكان يوم الأحد الماضي، بعنوان «عام الإصلاح السياسي الذي تأخر».
حالة من الجدل الصحي سادت الشارع السياسي حول ما اقترحت من تعديلات على الدستور، كأحد التدابير الضرورية التي تقود إلى الإصلاح السياسي مع ضمان الاستقرار، وكأحد الإجراءات التي لا غنى عنها - من وجهة نظري - لاجتياز الحالة الانتقالية التي عشنا مراحلها على مدار ثماني سنوات مضت، وما زلنا نعيشها.
< < <
وبصرف النظر عن موقف أتباع جماعة الإخوان مما كتبت، وهو متوقع، ومما أكتب على أي حال، هناك اتجاهات عديدة للأصداء التي دوت في وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات والصحف، وكذلك في رسائل المحمول والمكالمات التي تلقيتها، والتعليقات والنقاشات التي دارت معها في منتديات خاصة ومحافل عامة.
معظم ما قرأت وسمعت وشاهدت، لا ينكر الحاجة إلى إجراء تعديلات على دستور ٢٠١٤، بل يؤيد ما طرحت من تعديلات، بالأخص على المادة (١٤٠) لزيادة سنوات المدة الرئاسية من ٤ سنوات إلى ٦ سنوات، كإجراء انتقالي لا ينطبق على الرئيس التالي، ويساند ما اقترحت من إضافات، بالذات ما يتعلق بإنشاء مجلس الشيوخ كغرفة ثانية للبرلمان بجانب مجلس النواب.
ومن هؤلاء أعضاء بلجنة الخمسين التي كتبت الدستور وصاغت مواده، وسبق لعدد منهم أن جاهروا بحاجة الدستور إلى إعادة نظر في بعض مواده في أقرب فرصة مناسبة.
وغير هؤلاء، ثمة من يرى أن الأصوب هو كتابة دستور جديد وهو رأى لا اتفق معه لا الآن، ولا في المستقبل المنظور.
< < <
أما الذين يعارضون إجراء أي تعديل على الدستور في الفترة الراهنة على الأقل، وبالذات في المواد الخاصة بالتوازن بين السلطات وصلاحياتها والمواد الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية وسنوات ولايته ومددها، فالغريب أن بعضا منهم كان يجاهر بالرفض للدستور الحالي ويدعو لعدم الموافقة عليه في الاستفتاء.
غير أن هناك من المعارضين من يطرح منطقا يمكن الرد عليه والنقاش حوله، وفى النهاية فان الحوار هو لصالح عملية الإصلاح السياسي المنشودة في هذا البلد.
ومن بين المعارضين من لم يجهد نفسه في قراءة ما كتبت بدقة، أو استقى معلوماته سماعيا، وظن أنني أدعو إلى زيادة سنوات المدة الرئاسية بشكل مطلق إلى ٦ سنوات، بينما اقترحت تحديدا أن يكون هذا التعديل في مادة انتقالية، لا تسري على الرؤساء القادمين.
وهناك من يرفض أي زيادة في سنوات مدة الرئاسة على ٤ سنوات، بحجة حماية مبدأ تداول السلطة، وإذا سألته عن القوى السياسية أو الأحزاب التي ستتداول السلطة فيما بينها، أو عن الشخصيات الظاهرة في مجال الرؤية السياسية والمؤهلة لقيادة البلاد، سيصيبه العي والحصر ولن يجد ردا.
والحق أن كثيرين يتغافلون عن أن تداول السلطة بقوة السياسة أو بسياسة القوة في أعقاب ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وحتى ثورة يونيو ٢٠١٣، كان بين الجيش وجماعة الإخوان وحليفاتها من جماعات الإسلام السياسي في غياب فاضح لقوى سياسية أو أحزاب ثبت أنها كألعاب رمال على شواطئ تجرفها الأمواج.
وفى جملة بسيطة أقول إن غرضي مما اقترحت هو ضمان استقرار مستقبل الحكم في البلاد وتوفير المناخ الآمن لاستمرار المشروع الوطني لبناء الدولة الحديثة، جنبا إلى جنب مع المضي في عملية إصلاح سياسي يحول دون وثوب جماعة الإخوان إلى السلطة أو تمكنها من مفاصل الدولة، وتؤسس لتداول سلمى للحكم بإرادة الشعب ينهى مرحلة انتقالية بدأت في يناير ٢٠١١، ولا أظنها تنتهي قبل ٢٠٣٠.
< < <
وأود هنا أن أفتح قوسين لأذكر جملة اعتراضية كنت أظن أنى لست في حاجة إليها!
غالبية من تحدثوا معي أو تحدثت معهم أو قرأت تعليقاتهم، كانوا يتكلمون في تسليم كامل بأنني كتبت ما كتبت بوحي من «مراجع عليا» للتمهيد لحزمة تعديلات سابقة التجهيز، أو أنني على الأقل لا يمكن أن أكتب ما كتبت إلا بعد الحصول على إذن من «مراجع عليا»، لأنني رئيس لمجلس إدارة مؤسسة صحفية قومية مملوكة للدولة ولأنني أول من أجرى حوارا مع الرئيس السيسي حين كان وزيرا للدفاع ثم إنني كنت طرفا في جميع حواراته الصحفية بعد ذلك دون استثناء.
وبصراحة، لا أجد ما يقدح في شخصي ككاتب ينتمي إلى نظام ٣٠ يونيو، أن أمهد إذا لزم الأمر لتعديلات دستورية أو إجراءات ذات شأن وطني، أو أن أتداول مع صناع القرار أو صاحب القرار ذاته للاستنارة قبل طرح موضوعات ذات حساسية لتجنب إحداث تأثيرات سلبية غير مرغوب فيها على المصلحة الوطنية.
لكن ذلك - بكل صراحة - لم يحدث!
لقد كتبت بوحي من رأسي وبدافع من قناعاتي الشخصية، دون أن أكون ممهداً لأمر ودون ضوء أخضر أو كارت أبيض من «مراجع عليا»!
< < <
أكثر من ذلك.. إذا كان لي أن أدعى بعض المعرفة بأسلوب تفكير الرئيس السيسي، وآرائه، فإنني أزعم أنه لا يحبذ تعديل الدستور في المواد الخاصة بسنوات المدة الرئاسية أو عدد المدد حتى لو كان يرى أن هناك مواد أخرى تحتاج إلى تعديل، وأزعم أن الرئيس لا يريد البقاء في السلطة بعد عام ٢٠٢٢ مثلما أعرف أنه لم يكن يريد الترشح لانتخابات الرئاسة عام ٢٠١٤.
سبق أن كتبت، أنني في لقاء مع السيسي بمكتبه حينما كان وزيرا للدفاع، بعد ٣ أسابيع فقط من ثورة ٣٠ يونيو، وكان لقاء ليس للنشر، علمت منه أنه يستعد لإذاعة بيان يعلن فيه أنه لن يترشح لرئاسة الجمهورية وأنه لا يريد الحكم، ورجوته أن يرجئ إذاعة البيان أو يلغي الفكرة من الأساس، فقد تأتي ظروف قاهرة تدفعه إلى خوض الانتخابات تحت ضغط شعبي هائل، وأظن أن غيري من شخصيات مقربة تحدثت معه بنفس المنطق، وأخذ برأيها.
وبكل وضوح أقول: إنه لو كان السيسي يرغب في خوض انتخابات الرئاسة حينئذ ما كانت لجنة الخمسين قد جارت على صلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور، ولا كانت سنوات المدة الرئاسية محددة بأربعة أعوام لا تزيد!
< < <
أعود فأقول: إن تعديل الدستور بالأخص في المواد التي طرحتها هو - في رأيي ورأى عديدين من رجال السياسة والقانون والفكر والإعلام، ضرورة وطنية تستلزم فتح حوار مجتمعي حول فلسفة التعديل - وجوهر التعديلات والمواد التي سيشملها التعديل أو الإضافات التي سيتم إدخالها في مواد جديدة.
نقطة البدء في رأيي، هى مبادرة أعضاء لجنة الخمسين بإصدار بيان يتضمن المواد التي يرون كأفراد أو كمجموعة تعديلها أو إضافتها، لا سيما أنني أعلم كغيري أن رئيس اللجنة تحدث أكثر من مرة عن الحاجة إلى إجراء تعديل، لا سيما في شأن إنشاء مجلس الشيوخ.
وبالتوازي.. أظن أن كتلة الأغلبية في مجلس النواب، عليها أن تدعو أعضاءها إلى اجتماع للنظر في تشكيل مجموعة عمل تضم النواب وأساتذة في القانون الدستوري لصياغة التعديلات المقترح إدخالها أو الإضافات المطلوبة على الدستور.
وربما حان الوقت لأن ينخرط الإعلام المصري بكل وسائله، في حوار وطني، حول الإصلاح السياسي المنشود هذا العام، بدءا من التعديلات الدستورية، وغيرها من إجراءات لتعزيز حرية الرأي والتعبير، ودعم القوى السياسية وتشجيع الحياة الحزبية.
< < <
وأحسب أنه ليس لدينا ترف إضاعة مزيد من الوقت، قبل الشروع في عملية الإصلاح السياسي هذا العام.
فإذا رجعنا إلى المادة (٢٢٦) من الدستور التي تنظم إجراءات تعديله، نجد أنه يتعين أن يناقش مجلس النواب طلب تعديل الدستور سواء من جانب رئيس الجمهورية أو خُمس أعضاء المجلس خلال ٣٠ يوما من تاريخ تسلمه. فإذا وافق المجلس على الطلب، يناقش نصوص المواد المطلوب تعديلها بعد ٦٠ يوما من تاريخ الموافقة، فإذا وافق ثلثا الأعضاء عرضت التعديلات على الشعب للاستفتاء عليها خلال ٣٠ يوما من تاريخ صدور الموافقة.
من ثم نجد أنه لابد من إجراء التعديلات خلال الدورة البرلمانية الحالية، ويتعين البدء من الآن في الحوار والنظر في المواد المطلوب تعديلها وصياغتها، قبل إعداد طلب تعديل الدستور وتقديمه من جانب خُمس أعضاء البرلمان في موعد أقصاه نهاية فبراير، حتى يمكن الانتهاء من مناقشة التعديلات وإقرارها في البرلمان قبيل العطلة البرلمانية في منتصف العام، تمهيدا لإجراء الاستفتاء.
.. والحديث ممتد عن خطوات الإصلاح السياسي.