ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: أحاديث «المصالحة» في رئاسة السيسي وما بعدها

ياسر رزق
ياسر رزق

كانت عندي فرصة على مدى قرابة شهرين، ربما لم تتوافر لي أبدا، كي أمعن النظر في أشياء، وأعيد التفكير في أحداث، وأراجع الرأي في مواقف.

على غير توقع، ذهبت بعيدا لأقف عند حافة الموت، وعدت منها بمعجزة إلهية لأطل على حافة الحياة.

وبين المشهدين، لم يبد لي الموت بتلك الرهبة التي يتدثر بها، مثلما لم تبد لي الحياة بتلك البهجة التي تسفر عنها.

الفاصل عندي بين الحافتين، «نَفَس هواء».
مجرد «نفس هواء» يتردد في صدر عليل.

لا شيء بالمجان في هذه الدنيا إلا الهواء. فهو متاح في أي وقت وأي مكان. للغنى والفقير، للكبير والصغير، للحر والسجين.

رغم ذلك، كان «النفس» عصيا على صدري، بل يكاد يكون مستحيلا، دون أجهزة وأقنعة.

أرنو أمامي الآن، غير عابئ بحياة ولا هياب من موت. حامدا ربى وشاكرا كرمه وراضيا بقضائه، وأذكر حال بلادي قبل ٦ سنوات، حين كان يقبع على صدرها، ذلك الذي تخلصت أنا منه منذ أسابيع. أذكر حالها، حين كان الهواء خانقاً والصدر مخنوقا والموت أكرم من الحياة.

أتطلع إلى حال بلادي الآن، وأخشى عليها من أولئك الذين يريدون إما بغفلة أو بعمد أن يعيدوا الحياة إلى الشيء الذي كان يقبع على صدر الوطن ويخنق أنفاسه!

< < <

منذ ٥ سنوات وبضعة أسابيع، بالتحديد بعد ثورة ٣٠ يونيو وبيان ٣ يوليو، خرجت أول مبادرة لـ«الصلح» بين النظام الجديد وجماعة الإخوان، تحت عنوان «عفا الله عما سلف». وتخفت تلك المبادرة التي طرحتها قيادات إخوانية بعباءة السرية، لكن مصيرها كان الفشل.

وكان فحوى تلك المبادرة هو الإفراج عن السجناء الإخوان، وإعادة مرسي إلى الرئاسة على أن يجرى استفتاء عليه بعد عودته، وعودة مجلس الشورى الذي تقرر حله في بيان ٣ يوليو!

وعشية فض اعتصامي «رابعة» و«النهضة»، تلقى أحد الأعضاء الكبار بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة مكالمة تليفونية من قيادة إخوانية تحاول أن تعطي لنفسها سمت الاعتدال، وطلب القيادي الإخواني أن يجلس وبعض زملائه مع القائد العسكري الكبير على الفور.

فرد عليه القائد العسكري قائلا: لقد سبق أن جلسنا من قبل وتعهدتم بأنكم ستتخذون إجراءات معينة، لكن ثبت أنكم بلا عهد وليست لكم كلمة.

وقال القيادي الإخواني: الأمر مختلف هذه المرة.

وطلب القائد العسكري مهلة بعض الوقت للرد عليه. واتصل بالفريق أول عبدالفتاح السيسي، وأبلغه بما دار فرد السيسي قائلا: أنت تعرف إننا سنفض الاعتصامين صباح باكر. على كل حال، لو جاء أحد منهم إليك من الآن وحتى الفجر اتصل بي.

وعاد القائد العسكري الكبير واتصل بالقيادي الإخواني وقال له: أنا في انتظاركم حتى الفجر.
لكن أحدا لم يأت.

وفي الخامسة والنصف صباحا.. اتصل الفريق أول السيسي، بالقائد العسكري وسأله: هل جاءك أحد. فرد عليه قائلا: لا أحد مفيش فايدة فيهم.. ليس عندهم إلا الألاعيب!

< < <

مضت على تلك الواقعة شهور. وجاءت أحداث جامعة الأزهر، عندما حول أعضاء الجماعة الجامعة والشوارع المحيطة بها في مدينة نصر إلى ساحة قتال.

وفي تلك الفترة، تلقى قائد عسكري بارز مكالمة تليفونية من إحدى الشخصيات المحسوبة على الإخوان، يطلب فيها أن يلتقي وعدد من أعضاء الجماعة معه. وكان رد القائد: لن أجلس معكم، فأنتم مراوغون وبلا كلمة. لكن الشخصية الإخوانية ألحت كثيرا على اللقاء، فأنهى القائد العسكري المكالمة دون أن يعطى وعدا بشيء.

ثم اتصل بالفريق أول عبدالفتاح السيسي وأبلغه بما دار. وقال له الفريق أول السيسي: قل لهم اكتبوا ما تريدون وأرسلوه لنا.

وبالفعل اتصل القائد العسكري بالشخصية الإخوانية وأبلغها بأن ترسل ما يريدون مكتوبا.

وبعد أيام.. جاء إلى القائد العسكري، أستاذ جامعي من أعضاء الجماعة وأخرج ورقة فولوسكاب مدون عليها ٥ نقاط مكتوبة بالقلم الرصاص تحمل نفس المطالب (الإفراج عن السجناء - إعادة مرسي - عودة مجلس الشورى).
قرأ القائد العسكري الورقة، ثم نظر إلى الأستاذ الجامعي وقال له: هل أنت مقتنع بهذا الكلام؟!
رد الأستاذ الإخواني: الحقيقة لأ!
قال القائد العسكري: لماذا جئت إذن؟!
قال: من أجل المصالحة ولم الشمل وغير ذلك!
وأنهى القائد العسكري اللقاء قائلا: أنتم تتصورون أنكم بالضغط في الشارع يمكنكم أن ترجعوا القديم عبر الحديث عن مصالحة ومبادرات. ونحن نقول لكم، لن تحدث مصالحة معكم وافعلوا ما تريدون!

< < <

خفت صوت مبادرات «المصالحة» الإخوانية، التي يراد منها إعادة نظام المرشد، وعودة الجماعة إلى الحياة السياسية، وخرجت جموع المواطنين تنادي الفريق أول عبدالفتاح السيسي بخوض انتخابات الرئاسة واستجاب السيسي لنداء الجماهير وفاز بأغلبية كاسحة.

بعد انتخابات الرئاسة.. ذهبت ٤ شخصيات من كبار الإخوان إلى واحد من كبار رجال الدين الذين يحظون بالتقدير من جانب التيار الإسلامي بشكل عام، وليست لهم علاقة بالسياسة أو الإعلام.

وطلب هؤلاء من رجل الدين، أن يفتيهم برأي الدين في أمور حصروها في ١٧ سؤالا.

كان السؤال الأول: هل محمد مرسي هو الرئيس الشرعي للبلاد أم لا؟!

وكان رد رجل الدين: الرئيس الشرعي هو الرئيس المتمكن المؤيد من جيشه وشعبه.

وكان السؤال الثاني: هل الخروج على الحاكم الحالي حلال أم حرام؟

فرد عليهم: حرام قطعا.

وكان السؤال الثالث: هل المظاهرات ضد النظام الحالي حلال أم حرام؟

وكانت الإجابة: حرام، لأنها تضر بالجميع.
.. وعلى هذا النحو جرت إجابة رجل الدين محل ثقة الإخوان على أسئلتهم.

وقبل أن تغادر الشخصيات الإخوانية الأربعة لقاء رجل الدين، قال لهم: أنتم تتكلمون في الدين.. منذ متى والإخوان لهم علاقة بالدين؟!!

< < <

طوال فترة الرئاسة الأولى للرئيس عبدالفتاح السيسي، توارى الحديث عن «المصالحة»، إلا من بعض مقالات في صحف أو كتابات على مواقع التواصل لشخصيات غافلة أو غربت عنها الشمس. وكلما ترددت كلمة «مصالحة» كان الرأي العام يتساءل «بين من ومن؟ وكيف نضع جماعة إرهابية على قدم المساواة مع الدولة في مقايضة سياسية؟!»، وصارت تلك الكلمة سيئة السمعة جماهيرياً لا سيما مع اشتداد العمليات الإرهابية التي تشنها مجموعات تابعة للإخوان في الوادي أو جماعات ترعرعت في كنف الجماعة بسيناء.

غير أنه في أوقات مختارة بعناية، كنا نطالع أو نشاهد أحاديث من جانب شخصيات إخوانية مثل القيادي العتيق يوسف ندا، أو القيادي إبراهيم منير نائب المرشد ومسئول التنظيم الدولي، وكان محور تلك الأحاديث إما إبداء الاستعداد لـ«التوسط» في مصالحة أو طرح أفكار لها هى في مجملها نفس المطالب الخاصة بعودة مرسى والإفراج عن السجناء الإخوان وعلى رأسهم قيادات الجماعة.

لم تلق تلك الكتابات أو الأحاديث عن المصالحة أدنى اهتمام من جانب السلطة، غير أن الفضائيات والصحف العامة والخاصة - في معظمها - قابلتها بقصف إعلامي عنيف.

< < <

كان هدف الإخوان طوال فترة الرئاسة الأولى للسيسي، ألا ينجح هذا الرئيس، وأن يفشل نظامه في تحقيق وعوده للشعب لتتبخر شعبيته وتخرج عليه الجماهير مثلما خرجت ضد مرسى وتنتهي رئاسته قبل موعدها، وعندما فشلوا في بلوغ هذا الهدف، تحول مسعاهم إلى عدم تمكين الرئيس من خوض الانتخابات لفترة ثانية، لكنهم فشلوا مجددا بعدما نجح الإصلاح الاقتصادي وتحمل الشعب بصبر دواءه المر، وظهرت بشائر المشروعات القومية والكبرى في مختلف ربوع مصر، وارتفعت مكانة مصر السياسية في عالمها كقوة إقليمية كبرى ذات صوت مسموع في قضايا المنطقة. وبعدما نجح الرئيس السيسي في انتخابات الرئاسة لفترة ثانية، اتخذ الإخوان نهجا جديدا، له شكل مختلف ومحتوى آخر!

< < <

قبل أن يمضى أسبوع على إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة، أطلق كمال الهلباوي القيادي الإخواني «السابق»، ما أسماه مبادرة للمصالحة، تبناها إبراهيم منير القيادي الدولي، بتشكيل مجلس حكماء، اختار الهلباوي أعضاءه من شخصيات عربية ومصرية لـ«إنقاذ ما يمكن إنقاذه»، وكأن مصر دولة على شفا الانهيار، لن ينقذها إلا عودة الإخوان للحياة السياسية وربما السلطة!

وفي مطلع أغسطس الحالي، خرج القيادي بالتيار الشعبي معصوم مرزوق بمبادرة غريبة تشتم من صياغتها رائحة الإخوان العطنة، تدعو إلى إجراء استفتاء على الرئيس السيسي، الذي ما لبثت الجماهير أن اختارته في انتخابات حرة بأغلبية 97٪ من الأصوات!

والخطير في الأمر هو أن «المبادرة» اقترنت بدعوة الجماهير للتظاهر يوم 31 أغسطس.

وفى الذكرى الخامسة لفض اعتصامي رابعة والنهضة، صدر بيان عن جماعة الإخوان يتضمن ما وصفته بأنه مبادرة لـ«الخروج من النفق المظلم»، تدعو إلى عودة مرسي إلى سدة الحكم وإجراء حوار وطني، ولم يعلق ذلك البيان المثير للسخرية في أذهان أحد!

وكان موقف الرئيس السيسي من «أحاديث الصلح» و«مبادرات المصالحة» هو الإشارة إلى أن الشعب هو صاحب القول الفصل فيها.

< < <

السيسي هو أكثر الناس علما بالفساد السياسي والأخلاقي لجماعة الإخوان وقادتها رعاة الإرهاب.

البعض كان يظنه ميالا للإخوان، لاسيما أنه لم يبخل بالنصح على النظام والرئيس مرسى لأن في نجاحه نجاحا للدولة والشعب لكنهم سدوا آذانهم عن كل نصيحة.

بل أنه سعى للتوفيق بين مرسي والقوى السياسية في يناير 2013، على حساب صورته هو شخصيا أمام الشعب، عندما دعا إلى حوار وطني تحت مظلة القوات المسلحة في دار الدفاع الجوى بالقاهرة الجديدة. غير أن مكتب الإرشاد أجبر مرسي على التراجع عن حضور اللقاء.

الأكثر من ذلك أنه حين تقطعت السبل بين الشعب والنظام وخرجت الجماهير تهتف برحيل الإخوان في ثورة 30 يونيو، حرص السيسي على أن يكون لحزب «الحرية والعدالة» مقعد بين ممثلي القوى السياسية وفئات الشعب خلال مشهد بيان 3 يوليو، لكن مسئولي الحزب وعلى رأسهم الدكتور سعد الكتاتني رفضوا الحضور، برغم أنه كان يعنى بقاء الإخوان في الحياة السياسية.

فعل السيسي هذا برغم أن الشعب كان يطالب بتطهير الحياة السياسية من الإخوان.

وكان مفترق الطرق هو اعتصام رابعة، والجرائم الإرهابية وسفك الدماء على يد الإخوان في العاصمة والوادي وسيناء.

< < <

من الآن وحتى نهاية فترة رئاسة السيسي، سنجد بين حين وآخر حديثا عن صلح، وطرحا لمبادرة تختلف في صياغتها لا في جوهرها عن سابقتها.

وسوف تتسارع وتيرة الحديث عن المصالحة كلما اقتربنا من نهاية فترة الولاية الثانية. لتصبح الكلمة ضمن مفردات الحياة اليومية، توهما بأن الشعب قد يتسامح في الدماء التي أريقت على يد الإخوان، وقد ينسى عام الفشل والفساد الذي عاشه المصريون تحت حكمهم.

< < <

رهان الإخوان هو على مرحلة ما بعد السيسي، سواء انتهت فترته الثانية في 2022، أو امتدت بإرادة الشعب إلى 2024.

يراهن الإخوان على أن الرجل القادم بعد السيسي أيا كانت شخصيته، لن يكون بقدر قوته ولا شعبيته بين الجماهير. فسواء كان الرئيس المقبل مدنيا ينتمي إلى تيار سياسي أو قادما من قلب السلطة التنفيذية، أو كان ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، يرى الإخوان أن بمقدورهم التعامل معه والضغط عليه أثناء الحملة الانتخابية وما بعدها ليقبل مبدأ الجلوس على طاولة الحوار مع الجماعة، وكأن الدولة والجماعة صنوان على قدم المساواة، وعفا الله عن إرهاب الإخوان.

وقد يصل الأمر بقيادات الجماعة خارج البلاد وداخل السجون، إلى طرح فكرة إعادة مرسى إلى قصر الرئاسة بعد أن يغادره السيسي، دون إجراء انتخابات رئاسية، وكأن المسألة هى «خناقة» بين رجلين!

ويظن الإخوان هنا أن مشكلتهم هى مع السيسي وربما مع الجيش، وليست مع الشعب بكل أطيافه الوطنية ومكوناته.

وينسون حقيقة أن السيسي لو أراد أن يجالس الإخوان ويحاورهم، فلن يستطيع إذا كان الشعب يعارض ويرفض ويأبى أي وجود للجماعة في الحياة السياسية تحت أي صورة ومهما كانت الذرائع.

< < <

يتصور الإخوان أن السيسي حين تنتهي رئاسته في الموعد الدستوري الذي يرتضيه الشعب، سيجلس في منزله يشاهد التليفزيون أو يدون مذكراته، وسيكتفي بأن ينزوي في الظلال تاركا مصائر البلاد والعباد نهبا لأهواء أصحاب الهوى!

يظن الإخوان أن الجيش تحت أي مبرر، قد يتقبل خيانة دماء الشهداء، أو يتغاضى عمن كادوا يفككون دعائم الدولة المصرية، ومن عاثوا تخريبا وتدميرا في ربوع البلاد.

وربما لا يدرك هؤلاء أن الجيش حامى البلاد أرضا وشعبا وأمنا، هو أيضا حارس ثورة 30 يونيو ومكاسبها، والمدافع عن إرادة الشعب واختياراته الحرة.

< < <

كان السيسي محقا تماما وهو يقول أن مشكلة الإخوان هى مع الشعب.

والحق أن المسألة أقرب إلى المعادلة الصفرية، فإما الكتلة الوطنية لجموع الشعب وإما هم.

والمقصود ليس أولئك الذين استهوتهم دعايات الإخوان، أو أغوتهم دعواتهم، وإنما أعضاء الجماعة وقياداتها وقادتها الذين لوثوا عقول الشباب بأفكارهم المعادية للوطنية وانحرفوا بهم إلى طريق القتل والتخريب والذين تلطخت أيديهم بالدماء.

نحن نحتاج إلى تشريعات تضمن نقاء الحياة السياسية من الإخوان وتطهير مؤسسات الدولة من المنتمين للجماعة.

نحن في حاجة إلى عدالة ناجزة في محاكمة قادة الجماعة تبدد سحب الريبة التي اعترت الأجواء من جراء البطء في إصدار الأحكام الباتة على هؤلاء القتلة والمجرمين.

وفي كل الأحوال يبقى الشعب هو الضامن لعدم عودة الذين قبعوا على صدر الوطن عاما كاملا وخنقوا أنفاسه.

ويبقى الجيش حاميا ومدافعاً عن مكتسبات ثورة 30يونيو.