حكايات| "فئران الصحراء".. قصة لقب عظيم أهانته الصحافة المصرية بجهل !

الجوهري يواسي ابراهيم حسن عقب الهزيمة من انجلترا في مونديال 90
الجوهري يواسي ابراهيم حسن عقب الهزيمة من انجلترا في مونديال 90

لا يذكر التاريخ نجمًا أبرز في صفوف منتخب مصر المشارك بكأس العالم بإيطاليا ، كلهم نجوم إلى جوار الكوكب الأهم "الجنرال" الذي سيظل بطلًا لهذه الرحلة الشيقة ، الرجل الذي تسلم المهمة في سبتمبر 1988 ، بعد سلسلة نجاحات مع الأهلي واتحاد جدة ، كان هناك اتفاق ضمني بين المسئولين عن الرياضة في مصر أن الجوهري هو الشخص الأصلح لتغيير وجه كرة القدم المصرية .
مونديال طالب الجمهور بعودة الخطيب وهو ما مثل ضغوطًا أكبر على الجوهري ، هل يخضع لرغبات الجمهور أم المن

"يرجع الجوهري سبب أزمة الكرة المصرية في تلك المرحلة إلى "عدم المذاكرة" ، كل احاديث الجوهري ستكشف لك عن رجل يؤمن بالعلم في كل شيء ، بداية من التدريب ووصولًا إلى تغذية ونوم اللاعبين ، ولهذا يرى الجوهري انعدم المذاكرة جعلنا نتأخر عن فهم طرق اللعب الجديدة والتي ظهر معها مركز "لاعب الوسط الإرتكاز" ولهذا تفوق علينا الأشقاء في شمال افريقيا لأنهم طبقوه في اللعب .

يقول الجنرال : "فكرت في الاستعانة بعناصر من خارج الاهلي والزمالك ، جئت بأحمد الكأس وهشام عبد الرسول وغيرهما ، هذا استفز الصحافة والجمهور أكثر وزادت الأصوات التي تطالب بمشاركة طاهر أبو زيد أساسيًا رغم مشاكله وإصابته التي أثرت كثيرًا على مستواه ، وصلت للمرحلة الأخيرة من التصفيات وتبقى لنا مواجهة الجزائر بكتيبة محترفيها ، لدي أشرف قاسم مصاب وقبله اعتزل ابراهيميوسف للإصابة ، قررت أن أعدل مركز ربيع ياسين ليلعب مدافعها ثالثًا إلى جوار الشاب هاني رامزي وهشام يكن " .

يختار محمود الجوهري لاعبيه وفقًا لعدة معايير ، أهمها الإنتماء والرجولة والتضحية ، معايير عسكرية تعكس شخصية رجل قضى سنوات عديدة في القوات المسلحة ولهذا ليس غريبًا أن تجد الرجل يستخدم في حديثه عن الكرة مصطلحات مثل "خطة الخداع الاستراتيجي" و " المناورة " ، هذه المعايير تحديدًا كانت السبب في وصول هذا الجيل لكأس العالم ، فقد نجح الجوهري في غسيل دماغ اللاعبين بطريقة علمية ممنهجة عن طريق استبدال القيم والأهداف ونمط الحياة ، يعترف بذلك الرجل في حوار خاص مع الكاتب حسن المستكاوي عام 2009 عندما قال :

" كنت في حاجة لاستخدام الأساليب العلمية لتغيير أنماط السلوك لدى اللاعبين ، رزعت الفكرة في عقولهم وهي أن الوصول لكأس العالم هو انجازهم التاريخي الذي سيخلدون بسببه ، وهو ما حدث ".

على الجانب البدني فحدث ولا حرج ، اخترع الجوهري أساليب عجيبة لرفع اللياقة البدنية للاعبين مثل القميص ذي السبعة عشر جيبا المملوؤة بالرمل !

أدخل اللاعبين معسكرًا مغلقًا في دار الدفاع الجوي التي إنشئت وقتها كأول دار تابع للقوات المسلحة ، فسر الجوهري اختياره للمكان بأنه يقع في أبعد منطقة عن القاهرة ، بمقاييس هذا الزمن طبعًا ، وهو الأنسب لإبعاد اللاعبين عن أية ضغوط ، ووجه ادارة ستاد القاهرة لبناء ملاعب فرعية لتكون مقر تدريبات المنتخب الدائم .
 

اقرأ حكاية أخرى: مدرجات وملاعب.. كيف مارست الخلافة الإسلامية الرياضة؟

 

سافر الجوهري لخوض مباراة الذهاب أمام الجزائر في قسنطينة ، كان كل همه ان يخرج المنتخب بنتيجة التعادل سواء السلبي أو الإيجابي ولكن الهزيمة تعني ان الجزائر ستدافع في مصر 90 دقيقة وتستخدم العنف المفرط لإيقاف لاعبيه وهو السيناريو الذي كان يخشاه .

انتهت مباراة بالتعادل سلبا، وساد التفاؤل في الشارع المصري إلا أن الجوهري كان يخشى تكرار درس الخروج من تصفيات سيول 1988 في قلب القاهرة بهدف جمال الإمام ، ولهذا طار الجوهري ولاعبيه إلى تونس في معسكر مغلق لخمسة أيام بعيدًا عن الضجة التي تعيشها القاهرة وصحافتها التي بدأت الاحتفال بالتأهل مبكرًا .

في ليلة مبارا ة الجزائر، لم ينم الجوهري ، بعد أن اطمأن على خلود جميع اللاعبين في فراشهم استقل سيارته وانطلق في شوارع القاهرة ، وصلى الفجر في الحسين وعاد إلى المعسكر مع أول ضوء لشروق الشمس ، لم ينم الجوهري يومها ، في الصباح الباكر استدعى سمير عدلي وطلب منه الاتفاق مع إدارة ستاد القاهرة على تشغيل أغنية شادية " ياحبيبتي يامصر" في الإذاعة الداخلية للاستاد قبل المباراة بساعة كاملة .

يقول سمير عدلي :

" لا أعرف لماذا اختار هذه الأغنية بالذات ، كان لديه يقين أنها تثيرحالة من الشجن ستؤثر إيجابيًا على اللاعبين ، بالفعل شغلت اذاعة الاستاد الأغنية ، وغرق الجميع في الدموع وهم يهتفون ياحبيبتي يامصر ."
" عندما دخل اللاعبون غرفة الملابس كدت أسمع دقات قلوبهم تصرخ بين ضلوعهم ، جمال عبد الحميد بكى في الحمام متأثرًا بالمشهد ، لم تكن هناك محاضرة فنية بل محاضرة حربية لدقائق معدودة ، قرأنا الفاتحة ونزل اللاعبون لأرض الملعب مثل الوحوش الكاسرة".

 

اقرأ حكاية أخرى: «شارة سوداء» قادت أيمن أشرف للمونديال
 

عدالة السماء وفئران الصحراء .. هنا باليرمو !

صعدت مصر لكأس العالم بعد فوزها على الجزائر ، أصبح محمود الجوهري اهم شخصية في مصر ، ولهذا تحولت طلباته إلى أوامر فألغى الدوري واستبدله ببطولة تنشيطية ، وأقام معسكرًا مفتوحًا للمنتخب لعب فيه عدد كبير من المباريات مع مدارس كروية مختلفة منها وسافر الجوهري ورجالة في معسكرات متنوعة في بلدان أوروبا ، واجه رومانيا وكولومبيا وتألق امام منتخب سكوتلندا وتغلب عليه في عقر داره بثلاثية أشهرها هدف اسماعيل يوسف .

يقول الجنرال :
" اللاعب المصري لم يكن قادرًا على تصديق فكرة اللعب امام نجوم أوروبا ، عندما أعلنت القرعة أصيب اللاعبون "بالخضة" ، كيف سيواجهون فان باستن وخوليت وريكارد في هولندا وجاري لينيكرورفاقه في انجلترا ، دخلت تحدي جديد في اعداد اللاعبين نفسيًا لتقبل قدرتهم على اللعب امام هؤلاء العمالقة ".

وصل المنتخب إلى إيطاليا وسط تجاهل متعمد من الصحافة العالمية ، في الحقيقة لا مجال للاهتمام بالمنتخب المصري القادم من المجهول وسط هذه الكوكبة من المنتخبات ، حتى ألبوم "بانيني" لم ينصف المصريين واقتصر تمثيل المنتخب فيه على صفحة واحدة لا تضم كل عناصر الفريق !

قبل مباراة هولندا في ستاد باليرمو توقع الكمبيوتر خسارة مصر من هولندا بثمانية اهداف مقابل هدف وللدقة اختار الكمبيوتر العبقري طاهر أبو زيد كمحرز هدف مصر الوحيد ، المفارقة ان طاهر أبو زيد لم يشارك في المباراة من الأساس ودخل الجوهري المباراة بتشكيلة هجومية غير متوقعة .

قدم الفراعنة عرضًا كرويًا مذهلا وكلل الله جهودهم – كما علق محمود بكر- بهدف التعادل الذي أحرزه مجدي عبد الغني من ضربة جزاء ، نزلت عدالة السماء على ستاد باليرمو ، وهو اسمه في الحقيقة ستاد " رينزو باربيرا" في مدينة باليرمو ، ولكن ظلت الجملة خالدة في الذاكرة مع اسم محمود بكر رحمة الله عليه ، وخرجت الصحف المصرية تهاجم الكمبيوتر وتسخر منه !

 

اقرأ حكاية أخرى: جابرييل جيسوس «داهن الأرصفة» في المونديال
 

يتذكر الجوهري مافعله بعد مباراة هولندا : 

"خرجت من المباراة سعيداً بالنتيجة والعرض الجيد وخائفاً منالفرحة الطاغية للاعبين والغرور الذي يمكن أن يتسرب اليهم بسبب وفود المهنئين من الجماهير المصرية والعربية التي لمتنقطع عن الفندق طوال الليل. ولم يكن باقياً على المباراة الثانيةمع ايرلندا سوى ثلاثة أيام".

" قررت أن أصدم الجميع فقمت بتغيير برنامج الفريق في اليومالتالي حتى لاتتوافد الجماهير الى المران ويفسدوه واتجهت الىمكان عال فوق ربوة لا يعرف أي مصري طريقها ، تناولنا الافطاروإلقيت المحاضرة قبل التوجه الى التدريب وراء أبواب مغلقة".

" كانت صدمتي اكبر حينما فوجئت بالجماهير الإيطالية تحاصر ملعب التدريب ، الحسناوات طلبن الاوتوغرافات من اللاعبين وتحولت المحاضرة الى مظاهرة وضاع التركيز وفوجئت بـ"الأولاد" محاصرين بفاتنات إيطاليا وللأسف جلس كل لاعب مع معجباته لأكثر من ساعة، هنا قررت التدخل وافتعلت مشكلة مع اللاعبين في المران المسائي ووقعت عليهم عقوبات مالية ، قسوت عليهم كي لا تسرقهم الزفة والفرحة من مهمتهم ".

تعادلت مصر سلبيًا مع إيرلندا في عقب لقاء الجولة الثانية وكتب شيخ النقاد الرياضيين نجيب المستكاوي

تعادلت مصر سلبيًا مع إيرلندا في عقب لقاء الجولة الثانية وكتب شيخ النقاد الرياضيين نجيب المستكاوي مقالًا تحليلًا رشيقًا بالأهرام عنوانه : "فض الإشتباك بالمجموعة السادسة يتطلب تدخلا حاسما من مجلس الأمن".

وصف المستكاوي الفريق بأنه نزل في البداية بـ 4-4-2 دفاعية ، قبل أن يحولها اللاعبون بأنفسهم إلى 1-4-4-1 بطريقة طنطاوية نسبة إلى فرتز مدرب طنطا في الستينيات والدفاع بثماني لاعبين أمام المرمى .

ولم يجد المستكاوي تحليلًا للمباراة يصف من خلاله أداء مصر فقال :  كانت المباراة عبارة عن هاني رمزي يعيد الكرة لشوبير! ، وتطرق لإنتقاد المعلق ابراهيم الجويني الذي أثر السن على مهارته وذاكرته فكان ينطق إسماعيل ياسين بدلا من إسماعيل يوسف أو مجدي وهبة بدلا من مجدي طلبة .

اتصال الرئيس مبارك بالفريق بعد المباراة مباشرة كما فعل في لقاء هولندا كان إشارة واضحة للصحافة بعدم انتقاد المنتخب ، فخرجت الصحف في اليوم التالي تشد بأداء الفريق القومي ، بينما سخر المصريون من الجوهري على المقاهي لأنه أشرك طاهر أبو زيد لبضعة دقائق منعه خلالها من عبور منتصف الملعب ، وتسرب للبعثة الإعلامية المرافقة ان طاهر غضب من الجوهري لأنه لم يمنحه الوقت والمساحة الكافيين ليظهر مهاراته .

واحتفلت الصحف بإنجاز الجوهري وتصدر مصر المجموعة ، حيث أن منافستنا هولندا قد تعادلت سلبيا، فأصبح كل فريق بالمجموعة يمتلك نقطتين من تعادلين، وتتصدر مصر المجموعة بفضل الترتيب الأبجدي اللاتيني.

هذا لسان حال الصحافة المصرية ، ولكن ماذا عن الصحافة العالمية ؟

البعض يعتقد بأن الصحف العالمية خرجت لتنتقد الجوهري بسبب طريقته أمام إيرلندا، ولكن تلك الصورة نقلتها لنا البعثة الإعلامية المصرية التي يبدو أن اللغة كانت عائقًا كبيرًا أمامها لفهم ما تتداوله الصحافة العالمية فقالوا لنا أن الإيرلنديين "شتموا" الجوهري وسخروا من منتخبنا والحقيقة أن الهجوم الأكبر كان ضد تشارلتون مدرب أيرلندا الذي فشل في هدم حصون مصر الدفاعية معتمدًا على طريقة اللعب الانجليزية الكلاسيكية بارسال كرات طولية لعمق الدفاع فتكفل بها هاني رمزي وهشام يكن .

ثم انتشرت قصة "فئران الصحراء" التي نقلتها الصحافة المصرية عن نظيرتها الانجليزية ، وخرجت كبريات الصحف المصرية تسب وتلعن الصحف الانجليزية معتبرة الوصف تحقيرًا لمصر وشعبها وكرتها !

وسط الهوجة خرج الكبير نجيب المستكاوي ليكشف الحقيقة ويوضح للقراء المقصود بلقب "فئران الصحراء" وهو لقب الكتيبة السابعة بالجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، والتي عُرفت بالشجاعة ونجحت في إيقاف جيوش النازية وبالتالي هو لقب يدعو للإحترام وليس السخرية ، وأطلق يومها لقب الجنرال على محمود محمود الجوهري خاصة وأنه شارك في حرب أكتوبر عام 1973.

قبل لقاء انجلترا أجرت إحدى القنوات التليفزيونية الانجليزية لقاء مع حسام حسن وأحمد شوبير ونشرته صحيفة "تايمز بعنوان كبير هو "راقبوا هذا الطربوش" وتصدره صورة لحسام حسن بالطربوش، واصلت الصحف المصرية وصلة الجهل واعتبرت أن العنوان إهانة كبيرة في حق المصريين بإرجاع تفكيرنا بعصور ما قبل ثورة 1952 وقت الإحتلال البريطاني وأيام الملكية.

هزمتنا انجلترا بهدف يتيم ، وقدم "الفريق القومي" أداء رائعًا أبكى المصريين بعد المباراة وهم يشاهدون دموع ابراهيم حسن ، يحكي الجوهري عن تلك اللحظات :

" كنت فخورا برجالي ، وقفت بعد المباراة اتابع مايحدث ، كانوا منهارين وحاولت الشد من أزرهم ، هي لحظة صعبة على شباب صعدنا بهم إلى عنان السماء ، تمالكت نفسي ولكنني تأثرت جدًا من بكاء ابراهيم حسن واسماعيل يوسف وانهيارهم في غرفة الملابس " .

بعد عودة مصر من كأس العالم كثر الحديث عن العالمية ، أوكل اتحاد الكرة مهمة تطوير الكرة المصرية للجنرال الجوهري ، واتفق الرجل على اداء مباريات ودية تضمن استمرار حالة الالتفاف حول المنتخب ولكن حدث مالم يتوقعه احد .

يحكي الجنرال :"بعد الأحلام الوردية لكأس العالم لعبنا مباراة ودية في اليونان وكنا الأحسن رغم تقدم اليونان 2/1 وفجأة تعرض ابراهيم حسن لطرد ظالم وصدمنا الحكم باحتساب 3 ضربات جزاء ضدنا في 4 دقائق لنخسر 6/1 وفوجئت بقرار الاتحاد باقالتي بعد شهرين من كأس العالم بسبب مباراة ودية !".

كانت الإقالة مهينة وموجعة ، لم يصدق احدًا أن الاتحاد تخلى عن الجوهري بهذا الشكل ، ومع الوقت كشفت الصحافة كواليس ماحدث في أروقة الجبلاية وكأن هناك من أراد التخلص من الجوهري مبكرًا حتى لا يفرض سيطرته على الكرة المصرية ، فتم استغلال الهزيمة الودية للخلاص منه ، أصيب الجوهري بحالة اكتئاب لأول مرة دفعته للابتعاد عن الأضواء عامًا كاملًا حتى فوجيء بقرار الرئيس حسني مبارك بمنحه وسام الرياضة من الطبقة الأولى وقرار آخر للدكتور عبد المنعم عمارة رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة بعودته الى موقعي مدرباً لمنتخب مصر.