حوار| يحيى الرخاوى: نحتاج «نوبة صحيان» لمواجهة التحديات المزمنة

د.يحيى الرخاوي خلال الحوار - تصوير عبد الهادي كامل
د.يحيى الرخاوي خلال الحوار - تصوير عبد الهادي كامل

- نجيب محفوظ عالجنى نفسياً.. وأعتبر نفسى «حرفوش احتياطى»
- الإعلام الرسمى «يجتهد» والمنافسة مسعورة مع الإعلام الخاص
- الإرهاب بضاعة عالمية.. الإدمان قضية تاريخية.. ولا زيادة فى الإلحاد
- الخلية الحية مؤمنة رغم أنف صاحبها
- التعليم يسير «نحو الأمية» والكسل وتغييب الوعى يحاصران الشباب

يملك قدرة الأديب على الوصف التحليلى، كما يملك قدرة الساحر على تشخيص النفس البشرية وما تملكه من إمكانات قادرة على التغيير.. إنه د. يحيى الرخاوى، أحد أساطين الطب النفسى فى مصر والعالم العربى، يشرح ويحلل ويشخص التحديات التى تواجه المواطن المصرى مؤخرا، ثم يصرف «روشتة» العلاج من خبراته وقراءاته ودراساته المتنوعة.. كما يحكى عن موقعه «كحرفوش احتياطى» من حرافيش أديب نوبل نجيب محفوظ.. د. يحيى الرخاوى يجيب عن كثير من الأسئلة العميقة فى هذا الحوار:

> بداية، نحن نعيش فى واقع مليئ بالتحديات.. فكيف ترى آثار تلك التحديات على الحالة النفسية والمزاجية للمصريين؟
- التحديات ماثلة وخطيرة، ومواجهتها قد تكون حافزاً للحركة والنمو، لكنها إذا زادت عن القدرة على استيعابها تصبح تهديداً خطيراً، وهى ليست فقط نتيجة لمضاعفات الثورة وإجهاض الآمال، وسرعة الأحداث وإنما هناك تحديات مزمنة موجودة قبل الأحداث الأخيرة وبعدها، وهى تتفاقم باطراد ضد كل التوقعات، وأخص بالذكر تحديات مواجهة ما آل إليه التعليم على كل مستوياته، وما يواكب ذلك سبباً ونتيجة من مضاعفات التسيب الخلقى بالغش الجماعى والتخلى عن تعميق مسئولية المدرس كأب وقدوة وراع، ثم اللجوء للحلول الإعلامية والجزئية والمادية التى قد تكون مجرد تسكين، عموماً فإن المسائل تحتاج إلى ثورة حضارية تربوية إيمانية بكل ما تعنى كل كلمة من هذه الكلمات.

> هل ترى أن الإعلام المصرى يقوم بدور فاعل فى تناوله لتلك التحديات لتوعية المجتمع؟
- الإعلام المصرى الرسمى يجتهد فى حدود، ولكن لا أظن أنه يستوعب ما جاء فى الإجابة عن السؤال السابق، وهو فى حال تنافس مسعور مع الإعلام الخاص، والإثنان أصبحا تحت رحمة رأس المال والإعلانات، وكل ذلك يهمش دور الإعلام فى مواجهة هذه التحديات، وأعتقد أن ثورة النهوض بالتعليم ينبغى أن تواكبها ثورة النهوض بالإعلام وبصراحة لست أرى كيف، لكننى مصمم أن تنطلق نوبة صحوة تفيق الجميع فيسرعون بالمبادرة ويحذرون التأجيل.
إحصائيات ولكن..
> تخرج علينا بين الحين والآخر إحصائيات تحدد نسبا للمصابين بحالات نفسية أو من يفكرون فى الانتحار.. فما مصداقية تلك الإحصائيات، وما تأثيرها على المجتمع؟
- الإحصائيات فى مصر عموماً وفيما يتعلق بالمرض النفسى خاصة ينبغى أن تؤخذ بحذر شديد، ولا ينبغى أن تتردد فى الإعلام أرقام وإحصائيات ودون ذكر مصادرها، ووسائل البحث التى استعملت فى جمعها، مثل نوع العينة وجغرافيتها، وهل هى تمثل كل طبقات الشعب أم لا؟، وهل هى تمثل سائر الأعمار أم أنها مقصورة على فترة بذاتها؟، هذا بالإضافة إلى أن تعريف المرض النفسى مازال إشكالاً قائماً، وبالتالى تصبح التفرقة بين المريض والسليم شديدة الأهمية قبل إعلان مثل هذه الإحصائيات، ولابد من التفرقة بين حدوث الانتحار بالفعل، وبين التفكير فى الانتحار، وأيضاً محاولات الانتحار المظهرية.
> الإرهاب، الإلحاد، الإدمان، الهجرة غير الشرعية.. رباعى مرعب يلجأ إليه عدد كبير من الشباب.. فما السبب؟
- هذا صحيح، لكنه ليس مقصوراً على مصر اللهم فيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية بأسبابها الاقتصادية والسياسية، أما الإرهاب فقد أصبح بضاعة عالمية فنحن نفاجأ كل يوم بجرائم وكوارث فى أماكن كثيرة على اتساع الكرة الأرضية، أما عن الإدمان فهو قضية تاريخية وقديمة وأن اختلفت مظاهرها ومضاعفاتها، ثم نأتى للإلحاد فكل ما حدث مؤخراً هو أن الإعلام قد ساهم فى الكشف عن أنه قد جذب شبابنا هذه الأيام أكثر مما اعتدنا، لكنه فى واقع الحال لم يزدد كما شاع مؤخراً، وأنا قلت فى مقابلة قريبة إن الإلحاد هو «طور من أطوار نمو العقل البشرى»، واستشهدت بكتاب الإمام الغزالى «المنقذ من الضلال»، وأضيف أن العقل إذا أتيح له استكمال نموه فهو لا يستطيع أن يلحد، وأن الخلية الحية مؤمنة، رغم أنف صاحبها، لأن حياتها تتوقف على هارمونيتها مع سائر الخلايا فى مستويات الوعى الممتدة إلى الوعى المطلق إلى الغيب، وهذا هو الإيمان عموماً، ونحن فى مرحلة لابد أن نواجه هذه المسألة، بشجاعة وليس بالإنكار ولا بالرعب ولا بالإرعاب.
فى مؤتمر الشباب الأخير أعلن الرئيس السيسى الإفراج عن مجموعة جديدة من الشباب ليصل عدد من شملهم قرار العفو الرئاسى إلى 900 شاب.. فما الذى يحتاجه هذا الشباب لإعادة دمجه فى المجتمع؟
- يحتاج كل ما يحتاج أى شاب لم يتعرض لهذه المحنة، وإن كنت أعتقد أن محنة الشاب السجين هى فرصة أكبر لإعادة النظر لكن نتيجتها غير مأمونة فى كل الأحوال، فهو قد يزيد الشاب تطرفاً لشعوره بظلم يؤكد عقيدته الخاطئة، أو قد يفيقه من ذهوله بعد انفصاله عن مصدر ضلاله ولو لفترة محدودة.
مسار فكر
> باختيارك لـ «مسار فكر» عنوانا لمسيرتك العلمية قدمت جانبك الفكرى والإبداعى على جانبك العلمى والعملى.. لماذا؟
- أنا لا أكاد أميز هذا الجانب من ذاك لإنسان مجتهد يحاول أن ينهل من كل ما يتاح له من مناهل المعرفة حيثما كانت وكيفما هى، وفى تقديرى أن مهنتى هى أقرب إلى الفن والإبداع، ومؤخراً أعلنت أنها أقرب إلى»النقد الإبداعى» حتى أسميت ما أمارسه «نقد النص البشرى» ضمن النظرية التى استلهمتها من ثقافتنا الخاصة على خلفية كل ما وصلنى من مرضاى واجتهاداتى وطلبتى وهى نظرية الطبنسفى الإيقاعحيوى التطورى.
محفوظ.. القدوة
> وصفت نفسك بأنك من محبى ومريدى نجيب محفوظ.. فكيف كانت العلاقة، وكيف استمرت؟
- أنا عرفت نجيب محفوظ مبدعاً ورائداً وقدوة قبل أن أعرفه شخصياً مثل أى شاب مصرى نشأ يتحسس طريقه إلى التعرف على لغته وناسها ورواد الفكر والإبداع منهم، وذلك منذ كنت فى المدرسة الثانوية وكان عمرى 15 سنة حين بدأت أقرأه بعد نصيحة من زميل لى فى قسم أدبى حين أبلغنى فرحاً أنه عثر على من يعرفنا بلدنا وأنفسنا، وقرأت أيامها «السراب» و«القاهرة الجديدة» و«خان الخليلى» وكنت أنا أقرأ هذه الأعمال فى تلك السن أننى أنتمى أكثر إلى بلدى وأفخر بناسى وأجالسهم وأحيانا أحاورهم، ثم بعد ذلك أنا لم أكن من مريديه الأقرب ولم أحضر جلساته الشهيرة فى قهوة ريش أو فى ميدان التحرير، وقد قابلته مرة واحدة أوائل السبعينات بعد أن كتبت نقداً لروايته الشحاذ نشر فى الأهرام وكان ذلك بمكتبه فى الأهرام بدعوة من زميل لى هيأ لنا فرصة المقابلة ولم تتكرر. ثم بعد ذلك أنعم الله علىّ بلقائه بعد الحادث فى ظروف خاصة اعتبرها الكثيرون أنها بمثابة الإسهام فى علاجه نفسياً بعد الحادث، وهذا ما نفيته وبشدة، فهو الذى عالجنى، فقد دعانى المرحوم أ.د سامح همام الذى شاء الله إنقاذه على يديه بعد الحادث، دعانى إلى زيارته بعد أن وجده صامتاً أكثر، وحين ذهبت، ومن البداية نفيت أننى طبيبه النفسى أو طبيبه الخاص، وصاحبته بعد ذلك يومياً (تقريباً) حتى أراد الله أن يرحل عنا دون أن يرحل.
> ما تأثير هذه العلاقة مع صاحب نوبل على جانبك الإبداعى؟
- التأثير لا يحصى، باعتبار أن النقد إبداع تال، فقد قمت بنقد كثير من أعماله، من السراب وحتى أحلام فترة النقاهة، ونشرت ذلك فى عملين أساسيين هما : « قراءات فى نجيب محفوظ « 2017، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، ثم « دراسات نقدية أحدث فى نجيب محفوظ « 2017، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، وأتيحت لى الفرصة لمناقشته فى بعض ذلك، واستفدت من آرائه وملاحظاته فى الأعمال التى عرضتها عليه، أما إبداعى اللاحق لرحيله والذى كنت أتمنى أن يصله ولابد أنه وصله حيث هو، فهو ما نشر تباعاً فى دورية نجيب محفوظ السنوية التى يصدرها المجلس الأعلى للثقافة، ولعل أهم دراستين كنت أود أن يطلع عليهما هما: دراستان مقارنتان بين الكيميائى وهو نفسه (ساحر الصحراء) لـ «باولو كويلهو» مقارنة مع رحلة ابن فطومة (بين سعى كويلهو، وكدح محفوظ)، ثم دراسة مقارنة فى أعماله ضلالات الخلود عن جلال صاحب الجلالة فى ملحمة الحرافيش، وبين لا نهائية عثمان بيومى فى حضرة المحترم، وكلاهما فى الدورية النقدية الخاصة به.
> على الرغم من أن روايتك الطويلة الوحيدة بجزئيها (المشى على الصراط) و(مدرسة العراة) حازت على جائزة الدولة للرواية عام 1980 وكذلك على وسام العلوم والفنون من الدرجة الثانية إلا أنها أصبحت روايتك الطويلة الوحيدة.. فما السبب؟
- بعد نشر هذه الرواية، بالصدفة تقريباً وبعد أن نالت جائزة الدولة وحظيت بتقريظ ناقدين مهمين كان من أهمهم أ.د رمضان بسطاويسى والمرحوم الناقد يوسف الشارونى سكرتير المجلس الأعلى للفنون والآداب وهذا بعض رأيه : « أنا أعتبر هذه الرواية علامة من علامات أدبنا المعاصر تقف على مستوى حديث عيسى بن هشام للمويلحى، وزينب لهيكل، وعودة الروح لتوفيق الحكيم. بحيث يمكن اعتبارها رواية السبعينات «. (آخر ساعة 19 سبتمبر 1979)، بعد كل ذلك بربع قرن كتبت الجزء الثالث بعنوان « ملحمة الرحيل والعود « وهى رواية تقدم الجيل الثانى لشخوص الروائيتين، وكنت قد انسحبت شخصياً من المجتمع الثقافى بدرجة ما لأسباب خاصة، فلم تنل النقد أو الانتباه بدرجة كافية مثل الجزئين الأول والثانى مع أنها الأهم عندى، لأنها تبحث فى نفس اتجاه روايات محفوظ من «زعبلاوى» حتى «رحلة ابن فطومة» مروراً بـ «الطريق» و«أولاد حارتنا».
حرفوش «احتياطى»
> كيف يرى أحد حرافيش نجيب محفوظ النخبة اليوم؟ وهل لدينا نخبة حقيقية؟
- نفيت مراراً أننى أمثل أحد حرافيش نجيب محفوظ، صحيح أنه أصر على اعتبارى كذلك وأننى آخر الحرافيش فى الأهرام فى (29/2/1996 حديث مع محمد سلماوى من بقى من الحرافيش) وصحيح أننى واظبت على حضور ما يسمى لقاء الحرافيش كل خميس دون انقطاع منذ الحادث الغبى وحتى رحيله، إلا أننى كررت مراراً أننى لا أمثل الحرافيش الحقيقيين الذين أعتبرهم تاريخاً رائعاً لا يصح أن يعتدى عليه أحد، وكنت دائماً أكرر : إن كان ولابد من اعتبارى حرفوشاً، فأنا حرفوش «احتياطى» ألعب فى الوقت «بدل الضائع». أما بقية السؤال عن النخبة فالإجابة هى : طبعاً عندنا نخبة، ومصر ولادة، وما يصلنى من اجتهادات الجماعات الصغيرة والكثيرة هو دليل يقظة، ومتابعة، وأمل، ورؤية، وكل ذلك يمكن أن يمثل مرحلة الحمل بولادة نخبة جديدة متميزة.
> إذن كيف ترى الاتهام الموجه للنخبة بأنها نرجسية وتعيش فى برجها العالى؟
- أعتقد أن هذا اتهام على غير أساس، لأن أحداً لم يعد يستطيع رصد أو تتبع إنتاج وإسهامات النخبة بدرجة كافية، ناهيك عن ضرورة إعادة تعريف من هم « النخبة «، ثم إنه بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعى بهذا الكم، وبرغم كل المضاعفات التى انتشرت بسببها وبرغم أنى لا أساهم فيها بالمعنى الشائع اللهم إلا بالنشرة يومياً فى موقعى الخاص منذ أكثر من عشرة أعوام باسم « الإنسان والتطور «، بعد ذلك أعتقد أن كثيراً من الجارى يمكن أن يعتبر إيجابيا وهو فى طريقه إلى أن يؤدى إلى تجمع جزر صغيرة قوية وواعدة، وأن كثيرا من الحوارات التى تجرى مفيدة وخلاقة، ولا يمكن إنكارها، بالرغم من المضاعفات والتجاوزات والتسيب الذى يجرى على نفس القنوات النى مازلت آمل فيها الخير عاجلا أو آجلا.
أصبحت ثانوية
> هل تعتقد أن ميزاتنا الثقافية تراجعت؟ وما مدى مسئولية ذلك عن تفشى الفكر المتطرف لدى بعض الشباب؟
- ربما يبدو أنها تراجعت، وإن كنت أرى أن نشاط المجلس الأعلى للثقافة وقصور الثقافة، ودار الأوبرا ووزارة الثقافة، كل هذه المؤسسات تسعى جاهدة فى أكثر من اتجاه وهى تضىء أكثر من منارة.
أما أن هذا التراجع هو سبب تفشى الفكر المتطرف فهذا وارد لدى الشباب بعد الحالة التى وصلوا إليها من الكسل وتغييب الوعى، ذلك أننى رحت ألاحظ بعد تدهور التعليم على كل مستوياته أصبحت قيمة القراءة عموما-حتى القراءة للدراسة-قيمة ثانوية، فمهما نشطت النخبة وكتبت ونشرت فهى لن تصل إلى معظم الشباب الذى اتهمته «بالأمية المكتسبة» ذات مرة، وأن التعليم عندنا يمكن أن يسمى «محو الأمية» التى حلت محل «محو الأمية»، ثم أن الانضمام إلى هذه الجماعات من أن أى شاب لا يأتى لأنه لم يجد ما يقرأه مقابل ما يصل إليه من سموم وتخدير، وإنما هو يحمل نوعا من الاستسهال والكسل.
> كان الوطن العربى يذخر بأدباء وشعراء مازالوا محفورين فى أذهان الجيل الحالى فلماذا لا نملك تجربة جديدة معاصرة؟
- مرة أخرى دعينى أرجح أن زهوراً متناثرة تتفتح هنا وهناك، إلا أن زحمة السوق وغلبة الاستعجال، وسرعة وسطحية التواصل، لا تسمح لسيقان أوراق هذه الزهور أن تنثر بذورها لتنبت على أرضية ثقافتنا فتنمو حضارة جديدة، وأنا أعتبر نفسى مصاباً «بداء التفاؤل المزمن»، ومازلت أعتقد أن هذه البذور المتناثرة سوف تتجمع فى نهر جار إن آجلاً أو عاجلاً، وسوف يخرج منها نبات طيب : أصله ثابت وفروعه فى السماء.