نجيب سرور.. «الفن هو الجنون.. بس الجنون مش فن»

نجيب سرور وزوجته ساشا ويحمل ابنه فريد وبجواره شهدي
نجيب سرور وزوجته ساشا ويحمل ابنه فريد وبجواره شهدي
في عام 1978 وبالتحديد في الرابع والعشرين من أكتوبر، ترك نجيب سرور عالمًا ظل يعاتبه كثيرًا في أشعارٍ لم تخل من صراخ وعويل في وجه وطنٍ أحبه كثيرًا لكنه ذاق فيه ويلات كثيرة، حتى أصبح رمزًا للمعذبين في الأرض.

39 عامًا مرت على وفاة شاعر العقل، ولم يبق منها سوى كثير من الأسى في نفوس «مجاذيبه» حزنا على رحيله، يعيشون في عالمه، يستعيدون حكايته، ويتحسرون على موهبةٍ ما خفي منها كان أعظم. 

أنا لست أُحسب بين فرسان الزمان،
 إن عد فرسان الزمان،
 لكن قلبي كان دوماً قلب فارس،
 كره المنافق والجبان، مقدار ما عشق الحقيقة


 لم أجد أفضل من هذه الأبيات لوصف شاعر العقل نجيب سرور، والتي وصف هو بها نفسه في بداية ديوانه «لزوم ما يلزم».

تجربة سرور، في إجمالها لم تكن هادئة، سواء على مستوى حياته الشخصية أو الأدبية، فترات السلام بها قليلة جدا، عايش حياة ملئيه بالتراجيديا كما كتبها وعبر عنها.

«أنـا ابن الشـــقاء ربيب (الزريبــة والمصطبــة)، 
وفي قـريتي كلهم أشـــقياء، 
وفي قـريتي (عمدة) كالإله، 
يحيط بأعناقنــا كالقـدر
 بأرزاقنـا بما تحتنــا من حقول حبالى يـلدن الحياة


لعل طفولة نجيب سرور هي كلمة السر وراء سعيه الدائم لتكريث موهبته لمجابهة الظلم وهو ما ظهر واضحا في قصيدته «الحذاء» التي كشفت عن تجربة شخصية بعدما شاهد والده وهو يتعرض للإهانة من قبل عمدة قريته، وانكساره الشديد والذي عبر عنه في القصيدة قائلاً :

 أهـذا.. أبي يسامُ كأن لم يكن بالرجـل،
 وعـدت أســير على أضـلعي،
 على أدمعي.. وأبث الكـدر،
 لمـاذا.. لمـاذا؟


ولد محمد نجيب محمد هجرس أو «شاعر العقل» كما يطلق عليه، بقرية إخطاب، مركز أجا، محافظة الدقهلية في 1 يونيو 1932، والتحق نجيب بكلية الحقوق ولكن لم يجد نفسه في دراسة القانون فقد كان دائمًا ما يجذبه المسرح والتمثيل والشعر ما دفعه للالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من العمر.

ورغم من زمالته للكبيرين الراحلين عبد الرحمن الأبنودي، وأمل دنقل، إلا أنه كان ناقمًا على كل شيء على أوضاع البلاد، والنكسة، وسياسات جمال عبد الناصر آنذاك وعليها، ما جعله يصب غضب على كل شيء ومن بين ذلك رفضه الدائم لمداعبة أمل دنقل له والذي كان يقول له «أزيك يا نوجه»، وكتب ذلك صراحة في ديوانه «بروتكولات حكماء ريش»، قائلاً:

نحن الحكماء المجتمعون بمقهى ريش..
قررنا ما هو آت:
 البرتوكول الأول:
لا تقرأ شيئاً.. كن حمال حطب..
وأحمل طن كتب..
ضعه بجانب قنينة بيره..
أو فوق المقعد..
وأشرب.. وأنتظر الفرسان..
سوف يجيء الواحد منهم تلو الآخر..
يحمل طن كتب! 

وقال عبد الرحمن الأبنودي عن نجيب ــ خلال محادثتي له هاتفيًا قبل وفاته ــ إن نجيب سرور كان حاد الطباع، وكان كثيرًا ما ينتقد أصحابه، مثلما علق على استضافة القاهرة لمحمود درويش في أحد الفنادق قائلاً: «اشمعنى درويش طب ماحنا كمان محتلين».

أنا لا أجيد القول،
 قد أُنْسِيتُ في المنفى الكلام،
 وعرفتُ سرَّ الصمت 
 كم ماتت على شفي في المنفى الحروف !
 الصمت ليس هنيهةً قبل الكلام ،
 الصمت ليس هنيهة بين الكلام ،
 الصمت ليس هنيهة بعد الكلام، 
 الصمت حرف لا يُخَط ولا يقال.
الصمت يعنى الصمت.. 
هل يغني الجحيم سوى الجحيم؟!


رحالة بحثًا عن الأدب والشعر شعارًا رفعه سرور، بعد تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية، توجه نجيب في منحة لدراسة الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفياتي، وكشف خلال رحلته عن ميله إلى الماركسية في موسكو، كتب نجيب دراسات نقدية ومقالات ورسائل وقصائد نُشر بعضها في مجلات لبنانية كـ«الطريق» التي أعادت نشر مقالاته في كتب منها «رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ» (دراسة طويلة كتبها عام 1958) و«أعمال شعرية عن الوطن والمنفى» (ديوان كتب قصائده في موسكو وبودابست بين 1959 و1963 ولم ينشر).

يا بني أنا جعت واتعريت وشوفت الويل
وشربت أيامي كاس ورا كاس طرشت المر
يا بني بحق التراب وبحق حق النيل
لو جعت زيي ولو شنقوك ما تلعن مصر

وكأن نجيب سرور اختار طريقًا لا يعرف الراحة، لا ظلال ولا أشجار، مرصوفًا بالمخاطر، أخرج الشاعر  مسرحية بعنوان (الذباب الأزرق) بعد عودته للقاهرة، رصدت تجاوزات الملك حسين في حق الفلسطينيين، تصدى لها المسؤولون في مصر والأردن  لإيقافها، وانتهت المواجهات بطرده من عمله وعزله عن الحياة الثقافية في مصر.

تلك الفترة دونت سطورًا جديدة في صفحات اضطهاد الأمن لنجيب سرور، وهنا تبدأ خطة جديدة وهي محاصرته ومطاردته والتضييق عليه واتهامه بالجنون، الأمر الذي كتب فصلاً جديدًا في حياة الشاعر الإبداعية، بكتابة قصائد «الأميات»، والتي لم يتوقع الأمن أن تتحول إلى القصيدة الأجرأ والأشهر للشاعر والتي جاءت كاشفة، خادشة، وخارجة عن المألوف.

يا.. كلاب.. 
كبدي خذوه .. 
يا ناهشي الأكباد ها كُمْ فانهشوه
وليرحم اللّه الضحايا .. يرحم اللّه الضحايا !! 
لا .. لا تبالغ .. ما لهذا الحد أنت لهم ضحية
أخطأت أنت كما هم أخطأوا .. 
أو علَّ سرا ثالثاً خلف الخطأ ! 

وفي عام 1961 تزوج سرور من طالبة الآداب السوفيتية ساشا كورساكوفا في 23 مايو، وأنجب منها ابنيه شهدي وفريد، والتي عادت بهما إلى روسيا مرة أخرى، وأصبح هو في القاهرة ممنوعًا من الذهاب إلى روسيا ليحرم من زوجته وأطفاله.

وحتى تكتمل دائرة التعقيدات التي أحاطت نجيب سرور، فقد كشف في قصديته الصادمة عن خيانة زوجته له، والتي كانت فنانة صاعدة في ذلك الوقت، وتعاونها مع جهة سيادية لنقل أخباره ورصد تحركاته.

أنا حظي مدوحس حتى في النسوان..
بلاش أقول أمها.. طب شوفوا عمّها مين! 
تلاقوه يا عالم رئيس المكتب المخصوص 

ورغم  من عدم سعادته في زواج إلا أن سرور كان يقدس الحب، ودائم البحث عنه رغم الانتكاسات التي تعرض لها كما جاء في قصيده حب وبحر وحارس، التي قال فيها:

أنا لا أرسم هذا العالم بل أحياه
أنا لا أنظم إلا حين أكاد أشل
ما لم أوجز نفسى فى الكلمات
هيا نوجز هذا البحر
- كيف .. أفى بيت من شعر ؟
- بل فى قبلة ! !
يا ليت الحب يظل العالم كله
يا ليت حديث الناس يكون القبـلة


قادة تجربة نجيب سرور، الشاعر إلى حافة الجنون فقرر كتابتها شعراً، فطاردته المخابرات واختطفوه من الشارع واقتادوه إلى مستشفى المجانين بالعباسية.

مجاذيب وفيها نجيب؟!
بالصدفة عرفه طبيب يعمل بالمستشفى بعد ستة أشهر.. عثر عليه يرتدي ملابس مهلهلة وبدون ملابس داخلية.. ويطلب منه سيجارة.. تعرف عليه وأرشد الأصدقاء الذين يئسوا من معرفة طريقه.

خرج نجيب أكثر سخطاً.. وقرأ في كل مكان.. «أمياته» التي كان يقرأ سرًا بين أصدقائه إلى أن تم تسجيلها على شرائط كاسيت وتناقلها إلى أن وصلت إلى المسؤولين.

وفي مداعبة لا تخلو عن التعبير عن حالة الضيق التي يعيشها الشاعر يتوقف سرور في أحد مقاطع الأميات ليسأل عن أحمد فؤاد نجم، ولما وجده قال له "عرفت أني أسفل منك وسط ضحكات متداخلة..ويكمل وكل ما يسكتوني هقول". 

أنا عارف أني هموت في عمر الورد.
وبطانة بتقول ياعيني مات في عمر الورد.. 
وعصابة بتقول خلصنا منه مين بعده


وفاة نجيب سرور، لم تخلو من الدراما مثل حياته أيضًا، بعد رحيله في غيبوبة سكر على سريرِ في المستشفى العام بدمنهور أثناء زيارة عائلية لشقيقه.

 توفي نجيب سرور في 24 أكتوبر 1978، عن عمر 46 عامًا، تاركًا ورائه موروث أدبي حقيقي رفض أن يمر مرور الكرام، لكنه أرخ لتلك الحقبة التي عاشها بانتصارتها وانكسارتها، ليثبت أنه شاعر العقل «المظلوم الأول بلا منازع».