بعدحظرأمريكى وشيك لمنصة TikTok

هوليوود تدفع ثمن الحرب الباردة بين واشنطن وبكين

لقطة من أمام الكونجرس لاحد المظاهرات الرافضة لحجب منصة تيك توك.
لقطة من أمام الكونجرس لاحد المظاهرات الرافضة لحجب منصة تيك توك.

السينما الصينية استفادت من سنوات الوفاق

فصل جديد من فصول الصراع الخفى  بين العم سام والتنين بدأ منذ أيام بعد أن وقع الرئيس الأمريكى بايدن قانونا فيدراليا يحظر منصة «TikTok» فى الولايات المتحدة الأمريكية إذا لم تقم الشركة الصينية « بايت دانس» -  خلال ١٨٠ يوما.. ببيع حصتها فى المنصة التى تحقق انتشارا واسعا فى العالم وأمريكا بشكل خاص ويجذب محتوى فيديوهاتها القصيرة الشباب هناك.
 

يقول الجانب الأمريكى: يجمع التطبيق بيانات عن مستخدميه الأمريكيين البالغ عددهم 170 مليون مستخدم، ومن الناحية النظرية يمكن للشركة الصينية المالكة استخدامها لجمع معلومات استخباراتية ولذلك تم إصدار قانون لحماية الأمريكيين من التطبيقات الخاضعة للرقابة من جهة الخصوم الأجانب.


وتتطلع الولايات المتحدة - بحجة مخاوف «الأمن القومى» - إلى إحباط منصة ناجحة عالميا لأنها تنتزع للصين حصة من وقت المشاهدات والدولارات الإعلانية مما يضر شركات التكنولوجيا الأمريكية.. غير أن تيك توك هى المنصة الأكثر دعما للمحتوى المساند لحقوق الفلسطينيين ولا تفرض عليها رقابة مشددة مثل المنصات أو مواقع التواصل الاجتماعى الأخرى مما جعلها متهمة بمعاداة السامية وبتنمية مشاعر الكراهية لإسرائيل.


من المؤكد أن الصراع التجارى وتطور الصدام بين الدولتين لن يضر الصين فقط، بل سيكبد الاقتصاد الأمريكى أيضا خسائر ضخمة -(ساهمت منصة تيك توك بأكثر من ٢٤ مليار دولار من إجمالى الناتج المحلى الأمريكى فى ٢٠٢٣) -
و ربما يكون لهوليوود نصيب ليس بهين من هذه الخسارة.


فى تحقيق رائع بمجلة «ڤارايتى» الأمريكية نُشر قبل عدة أسابيع، حذر محلل التكنولوجيا دانيال آيڤز من التأثير السلبى المحتمل على صناعة السينما الأمريكية بسبب حظر منصة «تيك توك» وقال: «إن التفاعل والوعى بالأفلام والمشاهير لا مثيل له على TikTok، وفرض حظر عليها من شأنه أن يقتل المشاركة الاجتماعية فى جميع أنحاء هوليوود وسيكون بمثابة ضربة قوية للصناعة».


وأكد المسئولون التنفيذيون فى شركة Warner Bros على أن المحتوى واسع الانتشار على TikTok يعتبر جزءًا مهمًا من دفع نجاح أفلامهم، مثلما حدث مع «Barbie»، الفيلم رقم 1 فى شباك التذاكر فى عام 2023 (١٫٤ مليار دولار عالميًا).. فقد حقق المحتوى الترويجى لـ «Barbie» على TikTok مئات الملايين من المشاهدات قبل العرض وأثناءه.
هل تفقد هوليوود قوتها؟
إن حظر منصة تيك توك ضربة جديدة موجعة تضاف لما تتلقاه هوليوود منذ سنوات.. فالحرب الباردة بين أمريكا والصين تدفع هوليوود ثمنها غاليا، خاصة والصين تدرك جيدا أن هوليوود هى السلاح الأخطر للسيطرة الفكرية على العالم، لذلك تسعى بشدة لتحجيم تأثيرها وزوال سطوتها عالميا.
غطرسة هوليوود وحكام قلعة الصناعة أعمت عيونهم عن واقع تشكلت بداياته منذ سنوات وتخطيط ذكى للصين اتضحت معالمه منذ وباء كوفيد ٢٠١٩ الذى لم تتعاف هوليوود من آثاره حتى الآن.


كانت الصين هى السوق الأهم لدى هوليوود لامتلاكها ثروة بشرية عظيمة وعددا ضخما من دور العرض، سوق فشلت فى اقتحامه والسيطرة عليه لسنوات طويلة قبل بداية القرن الحالى، ثم تغير الموقف عندما انضمت الصين لاتفاقية التجارة العالمية عام ٢٠٠١، وكانت حتى ذلك الوقت لا تسمح إلا بدخول عشرة أفلام أجنبية فى العام، فضغطت أمريكا بقوة لتلتزم الصين بالاتفاقية وتفتح مجالها أمام السينما العالمية والأمريكية تحديدا، وكان ذلك هو الملف الأهم فى عهد الرئيس الأسبق أوباما.. فى بداية توليه الرئاسة ٢٠٠٩ حقق فيلم « آڤاتار» إيرادات ضخمة فى الصين تجاوزت ٢٠٠ مليون دولار، وقتها أيقنت هوليوود أن الصين هى السوق الذهبى، فلم تمانع من فرض الرقابة على أفلامها وتعديل بعضها بما يناسب طبيعة وثقافة الجمهور الصينى، بل خططت الاستوديوهات لإنتاج أفلام موجهة للسوق هناك تراعى مزاج ورغبات الصينيين من أجل اختراق المجتمع الصينى، وكان لابد أن تفتح الصين الباب لمزيد من الأفلام الأمريكية، فلجأت هوليوود للرئيس أوباما ، الذى كلف نائبه فى ذلك الوقت جو بايدن - الرئيس الحالى لأمريكا - بإدارة المفاوضات مع الجانب الصينى بنفسه، ونجح نجاحا ساحقا فى حسم هذا الملف لصالح أمريكا عام ٢٠١٢، ووافقت الصين على مضاعفة عدد الأفلام الأمريكية المسموح بعرضها فى الصين خلال العام أكثر من ثلاث مرات (٣٤ فيلما) وزيادة نسبة الجانب الأمريكى فى أرباح الأفلام، وهو نصر ثقافى واقتصادى عظيم.


فى هذه المرحلة الذهبية كانت الصين تمثل ثلث الإيرادات العالمية للأفلام الأمريكية تقريبا.


بعد تولى ترامب الرئاسة بدأت طبول الحرب تقرع من جديد، وعادت الصين تُحجِّم وجود الأفلام الأمريكية وترفض بعضها أو تصر على تعديل أو حذف بعض مشاهدها، فتراجعت الإيرادات مع الوقت، ثم انهارت بعد تولى بايدن الرئاسة وعدم اهتمامه بمصالح هوليوود، لتعود الأمور لنقطة الصفر!
فى ٢٠١٩ قبل تولى بايدن الرئاسة حققت السينما الأمريكية فى دور العرض الصينية حوالى ٢٫٨ مليار دولار، وكان هذا هو العام الأخير الذى رأت فيه هوليوود هذه الأرقام لأفلامها فى الصين.. فقد تراجعت الإيرادات فى ٢٠٢٠ ولم تتجاوز ٨٩٩ مليون دولار، ولم يختلف الأمر كثيرا فى العامين التاليين وهكذا فقدت السينما الأمريكية مليارى دولار سنويا وخسرت أهم أسواقها على الإطلاق.


خاب أمل هوليوود فى الرئيس بايدن، وتمادت الصين فى تعنتها فخفضت عدد الأفلام الأجنبية المسموح بعرضها إلى ٢١ فيلما فقط، ليضاف هذا الملف إلى الملفات التى فشل الرئيس بايدن فى إدارتها، ونالت من شعبيته كثيرا.
وفى عهده أصبح من الصعب إيجاد فرصة لعرض فيلم أمريكى فى الصين، فبضاعة هوليوود لم تعد رائجة هناك!
أما السينما الصينية التى استفادت كثيرا من سنوات الوفاق بينها وبين هوليوود فاستعانت بخبرائها لتطوير الاستوديوهات ومناطق التصوير ودور العرض، أصبحت كالصين نفسها تزداد قوة وتأثيرا يمتد خارج حدودها للعالم كله بما فيها أمريكا، فى حين فقد الجمهور الصينى وهو ثلث العالم تقريبا الاهتمام بالسينما الأمريكية، وباتت هيمنة هوليوود على المحك وهى أقوى أدوات الحرب النفسية الأمريكية!
السينما الأمريكية وخيبة الأمل
تقرير رائع بصحيفة ذا نيويورك تايمز بعنوان «هل فقدت الصين الاهتمام بالأفلام الأمريكية» أثار تفاعلا كبيرا على مواقع السوشيال ميديا بين الأمريكيين، فالأرقام كانت صادمة، ووصل القلق لدى البعض للتفكير فيما بعد زوال هوليوود!
قالت الصحيفة إن قائمة أفضل عشرة أفلام تحقيقا للإيرادات فى الصين خلت من الأفلام الأمريكية، وذلك للمرة الثانية خلال ثلاثين عاما!
وكانت المفاجأة، أن فيلم «باربى» أعلى الإيرادات عالميا فى ٢٠٢٣، والذى حقق مليارا وأربعمائة مليون دولار بلغت إيراداته فى الصين ٣٥ مليونا فقط!
وفيلم «سوبر ماريو بروس» الثانى عالميا بإيرادات تجاوزت مليارا وثلاثمائة مليون دولار لم يحقق فى الصين سوى ٢٤ مليونا!
وفى المقابل احتل فيلمان صينيان المركزين السابع والثامن عالميا وهما «Full River Red” و»The Wandering Earth” لتشانج بيمو.
الصينيون قادمون
هكذا اختلفت الموازين، بعد ٢٠٢٠ (بداية تولى بايدن الرئاسة)، بدت السينما الصينية منافسا قويا لنظيرتها الأمريكية، وحققت الصين ٢٫٧ مليار دولار متفوقة على أمريكا بأربعمائة مليون دولار، واحتفظت بالصدارة فى ٢٠٢١ محققة ٦٫٧ مليار دولار متفوقة على أمريكا بستمائة مليون دولار، لكن فى ٢٠٢٢ استعادت السينما الأمريكية الصدارة بـ ٧٫٥ مليار دولار فى حين حققت السينما الصينية ٤٫٦٥ مليار دولار، وفى ٢٠٢٣ حققت أمريكا ٩ مليارات دولار مقابل ٧ مليارات دولار للصين.. وكان تراجع اليوان الصينى أمام الدولار خلال العامين الماضيين سببا قويا لهذا الفارق لصالح أمريكا وهو ما يدركه خبراء هوليوود جيدا.


كان بعض الخبراء يعلّلون سبب تراجع السينما الأمريكية فى الصين إلى القومية المتطرفة، والرقابة الشديدة التى تفرضها الدولة هناك، إلا أن ما يحدث الآن ينفى تماما هذا التفسير، تفوقت السينما الصينية بدعم هائل من الحكومة، تطور الانتاج السينمائى وزاد عدد دور العرض فى جميع أنحاء البلاد، وقدم صناع السينما الصينية أفلاما رائعة تستند لثقافة ثرية، وبيئة خصبة بقصص وحكايات من التاريخ والحاضر، أفلاما نجحت فى جذب جمهور العالم وليس الصين فقط، وحققت نجاحا فى أمريكا معقل صناعة السينما عالميا، مما أثار حفيظة الأمريكان بمختلف التوجهات، وتسربت مخاوف من تأثير فكرى وثقافى للصين على المجتمع الأمريكى لذلك كان لابد من المواجهة، واتوقع ألا يكون حظر منصة تيك توك التى تسيطر عليها الصين هو آخر القرارات وإنما ستشهد الأيام القادمة فصولا جديدة من أجل استعادة الهيمنة الأمريكية التى اهتزت فى محاولة للخروج من النظام العالمى الحالى لنظام متعدد الأقطاب.