خارج النص

قمة البحرين.. صوت العقل فى مواجهة «حروب المزايدات»

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

ولا يغيب عن الأذهان وجود قوى إقليمية ودولية تسعى لتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى «صندوق بريد» تتبادل عبره الرسائل المدموغة بالدم والبارود. 

ساعات ويلتئم جمع جديد لقادة الدول العربية. هذه المرة على أرض مملكة البحرين الشقيقة التى تستضيف القمة للمرة الأولى، ما يجعلها حدثا تاريخيا ليس فقط لتلك المملكة الطيب أهلها، لكن أيضا بالنظر إلى ما يحيط بعالمنا العربى ومحيطنا الإقليمى والدولى من متغيرات بالغة التعقيد والتشابك تجعل أي قرارات تصدرعن القمة أشبه بالسير وسط حقل مكتظ بالألغام القابلة للانفجار.

خطورة اللحظة التى تعيشها منطقتنا تكمن فى عدة أسباب، بعضها يعود إلى عدد التحديات غير المسبوقة، سواء داخل المنطقة أو من حولها، أو حتى فى الدائرة الدولية الأوسع، بينما مكمن الخطر الحقيقى يرجع إلى تشابك وتعقيد الملفات الساخنة بامتداد الخريطة وفى اتجاهاتها الأربع، بداية من سوريا والعراق وجوارهما التركى شمالا، امتدادا إلى لبنان حتى اليمن جنوبا.

بينما فى القلب تكمن الطعنة الكبرى التى لا تزال تدمى صدور العرب، بل الإنسانية كلها. فالجرح النازف فى فلسطين لا يزال نديا بدماء بريئة لم تحظ بهدنة تلملم فيها الجراح منذ أكثر من سبعة عقود، وليس فقط منذ سبعة أشهر كما قد يتصور البعض.

وفى الجناح الأفريقي لا تزال الأزمات تراوح مكانها، وإن لم تفقد خطورتها، فالوضع فى السودان وليبيا لم يغادر بعد «حافة الهاوية» حتى وإن طغى صوت العدوان الإسرائيلى فى غزة على الاهتمام الإعلامى بما يجرى فى الشقيقتين العربيتين، فضلا عن مهددات متصاعدة لمنظومة الأمن القومى العربى فى أقصى جنوبه، وأعنى عند مدخل البحر الأحمر سواء عبر تهديد الملاحة البحرية فى تلك المنطقة الشائكة، فضلا عن التربص بشواطئ الصومال والأطماع الإثيوبية غير الخافية فى أراضيه وموانئه.

■■■

مأساة غزة من المؤكد سيكون لها الأولوية على طاولة القمة، لكنها لن تكون الوحيدة على أجندة القادة العرب، وهذا بحد ذاته أمر يدعو للأسى والأسف، فقائمة الأزمات العربية باتت مثقلة، بينما الخيارات صعبة، والأمر يحتاج إلى تدخل جراحى بالغ الدقة، لأن أى تحرك غير مدروس بعناية كفيل بانفجار ألغام تبدو ظاهرة على السطح، وأخرى أشد فتكا كامنة - كجبل الجليد- تحت السطح.

فى مأساة غزة يبدو التعاطف كبيرا، والخيارات المتاحة معدودة ومحدودة، فهذه الحرب واحدة من أكثر أشكال الحروب تعقيدا، إذ تتداخل فيها اعتبارات التاريخ والجغرافيا، بخصومات شخصية وهواجس ترتبط بفكرة الوجود، وهو ما يجعل أطراف الصراع يفكرون بطريقة «المعادلة الصفرية»، أى أن وجود طرف لا بد أن يعنى بالضرورة زوال الطرف الآخر، وهو أمر يعقد الموقف ويزيد صعوبة الحلول. فلن يكون فى تلك الحرب نصر حاسم، أو هزيمة نهائية.
نحن أمام حرب اختارت حركة «حماس» موعد شنها، بينما تصر إسرائيل على أن تكون وحدها من يختار توقيت إنهائها. فسقوط ثلاثة أضلاع رئيسية من منظومة الردع الإسرائيلية حتى الآن يدفع تل أبيب إلى التشبث بما تبقى من تلك المنظومة التى أثبتت الأشهر الماضية مدى هشاشتها.  فإسرائيل تاريخيا كانت تعتمد على قدراتها فى الإنذار المبكر والردع ثم الدفاع فالحسم. وحتى الآن سقطت الأضلاع الثلاثة الأولى من ذلك المربع، وهو ما يجعل من الضلع الأخير - حسم الصراع- خيارا يصوره السياسيون والقادة العسكريون فى إسرائيل بمثابة «حرب وجود» بالنسبة لهم.

■■■ 

وإذا ما أضفنا إلى ذلك عمق الأزمة الداخلية فى إسرائيل، وفجوة الثقة التى باتت عنوانا بارزا سواء بين الرأى العام الإسرائيلى من جانب، والحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة بنيامين نتانياهو، وجيش الاحتلال من جانب آخر، وكذلك أزمة الثقة المتنامية بين السياسيين والعسكريين وقادة الأجهزة الأمنية والمعلوماتية فى إسرائيل بعضهم البعض، سندرك حجم الخطر والتعقيد الذى يكتنف المشهد. فنحن أمام حرب لا تحكمها حسابات المكسب والخسارة فى الميدان، بل نحن أمام معركة يحاول كل طرف أن يستخدمها وسيلة لترميم شعبيته، والحصول على مكاسب سياسية بأى ثمن، حتى ولو كان ذلك الثمن إزهاق أرواح عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء.

وهنا يتجلى وجه آخر من وجوه تعقيد المشهد الراهن. فنحن أمام دولة أدمنت الإفلات من المحاسبة الدولية، وأمِن قادتها العقاب وفق قوانين دولية تستخدم سيفا مصلتا على رقاب العالم بينما تقف عاجزة أمام الجرائم الإسرائيلية، ما جعل قادة تل أبيب يستمرئون الخوض فى دماء المدنيين العزل، ويحاولون إعادة ترميم منظومة ردعهم المتهاوية بالإمعان فى القتل، لبناء حائط صد جديد من الخوف، يمثل فى تفكيرهم خط الدفاع عن دولتهم، بينما تلك الدماء - تاريخيا وواقعيا- ستكون حبلا قاسيا يحيط بعنق مستقبلهم فى المنطقة.

إسرائيل المأزومة قبل وبعد السابع من أكتوبر 2023، ربما وجدت فى تلك الحرب وسيلة للملمة شتات شارعها المنقسم على نفسه. واستغل اليمين المتطرف حالة الهلع، والخوف المتجذر فى الذهنية الإسرائيلية كى يقدم نفسه بديلا فاعلا يرضى نزعة التطرف الدينى والسياسى المتنامية فى الداخل الإسرائيلي، ومحاولة تصفية الحسابات القديمة مع اليسار والقوى العلمانية. وهكذا تحولت الحرب واستدامتها إلى مصلحة شخصية لقادة إسرائيل للإفلات من حساب قاسٍ سياسيا وشعبيا وجنائيا، وفرصة سانحة لقوى التطرف التى لا تنتعش إلا فى أجواء الخوف والاضطراب.

■■■

فى المقابل ورغم كل التعاطف الإنسانى والقومى غير المحدود مع الأشقاء فى قطاع غزة، لكن المشهد هناك لا يخلو من تعقيدات جمة.  فحركة «حماس» اختارت أن تشعل حربا تستخدمها كأداة لشحن رصيد شعبيتها داخل القطاع وعلى المستوى الإقليمي، وربما لم يكن لديها تقدير موقف متكامل بشأن حجم وطبيعة ردة الفعل الإسرائيلية والموقف الدولي.  وباتت رهانات البقاء بالنسبة للحركة أهم من خيارات التفاوض، وهو ما يضاعف أيضا من تعقيد المشهد.
يُضاف إلى ذلك مشهد دولى بالغ الحساسية والتعقيد، فالولايات المتحدة باتت بمصطلحات السياسة الأمريكية «بطة عرجاء» لا تستطيع الإقدام على فعل حاسم، وربما لا تريد ذلك. وعام الانتخابات يفاقم من خضوع البيت الأبيض لضغوط لوبيات المصالح الداعمة لإسرائيل، ويجعل كل ما يتردد عن «توتر» بين بايدن ونتانياهو مجرد «حديث للاستهلاك الإعلامي»، بينما مساحة الفعل والضغط الحقيقى غائبة تماما عن القرار الأمريكي.

ولا يغيب عن الأذهان وجود قوى إقليمية ودولية تسعى لتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى «صندوق بريد» تتبادل عبره الرسائل المدموغة بالدم والبارود، فبعض القوى الإقليمية غير العربية تريد أن تزيد من فاعلية أدواتها وأذرعها لتعظيم قدراتها التفاوضية مع الغرب، وقوى أخرى تسعى إلى استعادة زخم شعبيتها فى الشارع العربى بمواقف عنترية يعاد تدويرها منذ أكثر من عقد دون أن يكون لها وزن فى ميزان الفعل الحقيقي، بينما قوى دولية كبيرة تتنافس على قمة النظام الدولي، تترقب ما يجرى فى منطقتنا وتتحين الفرصة للتدخل.

■■■ 

وسط كل هذا التعقيد، تبدو الحاجة ماسة لصوت العقل، الذى تقوده مصر مع عدد من دول الاعتدال بالمنطقة. فما أسهل إطلاق الشعارات، وما أصعب البحث عن حلول جادة وقابلة للتطبيق. والأزمات المعقدة كالتى نواجهها فى منطقتنا لا تفلح معها «المزايدات». فالجميع بات يدرك الآن أن العمل الجاد والهادئ واستعادة صوت الحكمة وتغليب لغة المصالح المشتركة هو السبيل الأمثل لتفادى انزلاق المنطقة نحو مزيد من التردي.

قمة المنامة، قد تكون فرصة كبيرة - إذا أُحسن استثمارها- لإعادة بناء رؤية عربية متكاملة تنحاز لخيارات الدولة الوطنية، وتُغلب اعتبارات المصالح المشتركة، وتبنى لغة واضحة فى مخاطبة القوى الإقليمية والدولية بصوت واحد لا اختلاف فيه ولا تباين. فتكلفة الفرص الضائعة - وهى كثيرة للأسف فى منطقتنا- باتت تفوق القدرة على الاحتمال. وألغام الشرق الأوسط صارت أخطر من أن يجرى التعامل معها بإرادات منفردة، بل تحتاج إلى إرادة عربية موحدة ترتقى إلى مستوى التحديات.