أبواب مادلين: المعادلات الموضوعية وغرائبية الصعود

أبواب مادلين
أبواب مادلين

د. رشا الفوال

على افتراض أن القصة القصيرة منذ نشأتها نوع بينى تتنازعه أهداف متعارضة؛ فهو شخصى واجتماعي، رومانتيكى وواقعي، يسعى إلى ترميز الواقع؛ والنوفيلا التى تقع على الحدود بين القصة القصيرة والرواية هى الشكل الدرامى الأقرب إلى بنية القصة القصيرة، والأقرب إلى امتدادات تيار الوعى بما ينطوى عليه من حرص على توصيل الخطاب من خلال حادثة درامية(1)

نوفيلا «أبواب مادلين» الصادرة عن «دار روافد» للكاتب أشرف الصباغ تبدأ بخطاب ذاتى تجريدى للتعبير عن خبايا نفس البطل الذى جعلها مقسمة إلى أجزاء مشهدية تأرجحت بين الصورة الدرامية للعالم السوداوى فى مقابل الحياة الخاصة للشخصيات المتسمة بالمحبة والوفاء.

المعادلات الموضوعية كمفهوم نقدى يشير إلى الرموز التى يستخدمها الكاتب من أجل التعبير عن المواقف والأحداث المجتمعية التى لا يرغب فى الإفصاح عنها بشكل مباشر؛ اعتمدها الكاتب؛ لأنها الصيغة الفنية الأنسب للتعبير عن العواطف المتصلة بسلسلة من الأحداث، وهى أيضًا الأداة الإبداعية التى استخدمها حتى لا يقع فى فخ الإخبار.

الاتجاهات النفسية وممارسة لعبة الإيحاء:
تنتظم خبرات الإنسان وتكون ذات تأثير من خلال اتجاهاته الوجدانية القائمة وراء اعتقاداته فيما يتعلق بموضوعاتٍ معينة، ربما لذلك يخبرنا بطل الجزء الأول من العمل محل القراءة عن موقفه من العالم والأنظمة التى تحكمه قائلًا: «لا أحب الحرب، ولا أحب من يحبها، كل الحروب التى أخذونا من أجلها لم تكن حروبنا».

ليأتى الجزء الثانى تحت عنوان: باب الوصول مشيرًا إلى مرحلة الميل نحو شىء معين، وهذه المرحلة تستند إلى خليط من المشاعر الذاتية وبعض المنطق، وتتضح فيها وظائف الاتجاهات فى الحياة النفسية للبطل حيث الحاجة إلى الانتساب لجماعة معينة، يقول: «وبين تلك الجموع تعرفت على زوجتى وظللنا نطلب المدد كل عام حتى كبرنا بين الأحلام والرؤى والانتظار» والحاجة إلى إعطاء الحوادث معنى ودلالة خاصة فى فترات الهزائم، من أجل إعطاء دور جديد للأفراد تسمح به المعتقدات، يقول: «سأتوجه إلى حارتنا المُهدمة، سأتبول على الأطلال والأشباح، وسأكتشف أننى صرت عجوزًا «والحاجة إلى الاحتماء الوجداني» صاحت امرأة جالسة على أعلى الدرج موجهة حديثها إلى زوجتي: مدد، وأشارت لنا بالدخول».

ثم يأتي اتجاه: ميمون الثابت نسبيًا والمستقر نحو: مادلين، فى الجزء الثالث الذى يحمل عنوان: أبواب مادلين والذى يمكننا اعتبار الإيحاء من أكثر عوامل تكوينه؛ ربما يرجع ذلك لاعتبارها امتداد فرضه منطق الكتابة _ لشخصية: صفية فرج، وهنا أيضًا تتجلى رمزية الأم التى لا تموت، معنى ذلك أن اتجاهه حددته المعايير الاجتماعية العامة التى امتصها فى مراحل طفولته دون نقد؛ فأصبحت جزءًا نمطيًا من شخصيته يصعب عليه التخلص منه؛ فاختلاف شخصية:

مادلين وتمايزها عن غيرها عمل على تأكيدها حتى وإن أشار البطل لكونها نسخة مكررة من أمه: صفية، يمكننا تفسير ذلك إذا افترضنا عمق خبرته بشخصية: صفية نفسها وارتباطها بسلوكيات محددة فى المواقف الاجتماعية المختلفة، نضيف إلى ذلك انفعاله الحاد بشخصية: مادلين التى ارتكز عليها فى عاطفته، يقول: ميمون: «كانت أمى صفية فرج ترى أن المنتصرين لا يكتبون التاريخ، لكن مادلين الملعونة ترى أن التاريخ الحقيقى هو حكايات الناجين من آتون الحرب».

ربما لذلك كله استعان: ميمون بخبراته الماضية وعمل على ربطها بحاضره فى الجزء الرابع الذى حمل عنوان: سيدة الحجب تزور مادلين فى المنام هذا الجزء الذى نلاحظ من خلاله أن تكوين الاتجاه النفسى للبطل: ميمون بدأ بالمرحلة المعرفية التى تضمنت إدراكه لعناصر البيئة الاجتماعية كالأماكن والشوارع والبيوت وما يتصل بها من بعض القيم الاجتماعية، إذ لا يتمكن الإنسان من تكوين اتجاهات إلا إذا كانت فى محيط إدراكه، تمكن الكاتب أيضًا من توظيف الأشياء المادية فى واقع البطل المكانى للإيحاء للمتلقى بعمومية الحدث،مع ملاحظة أن الميل إلى التعميم تم من خلال آليات التبرير والاستقصاء.

فى الجزء الأخير من النوفيلا والذى جاء بعنوان: «الحوض المرصود» تفاعل الكاتب مع الأماكن متخذًا منها معادلًا موضوعيًا للضياع؛ فنراه جعل الأبواب رموزًا لما يطلبه الإنسان من ستر واستقرار وخصوصية، تتضح أيضًا وظائف الاتجاهات؛ فالوظيفة المنفعية ساعدت الأبطال فى تحقيق الأهداف حتى لو من خلال اللمحات الغرائبية، يقول ميمون: «نظرت حولى فلم أجد أحدًا، بكيت وظللت أبكى حتى انفتحت جميع الأبواب»، والوظيفة التنظيمية التى ساهمت فى تكوين شخصيات مستقلة تستجيب للمواقف بطريقة ثابتة، ولا تحتاج إلى اتخاذ موقف خاص بكل خبرة جديدة،» ابتسمنا واعتبرنا أن الأمر بسيط، فلم يعد هناك إلا حوالى أربعين دقيقة حتى يفتحوا الأبواب»، والوظيفة الدفاعية التى ساعدت الشخصيات على تبرير صراعاتها الداخلية حتى تحتفظ باحترامها لنفسها من خلال آليات: المشاركة والتأييد فى حال: ميمون والتعبير اللفظى عن الاختيار والتأمل والاختبار العملى وخوض التجربة باتجاه الموضوع فى حال: مادلين التى نتج اتجاههاعن ثبوت صورة ما تراه ضمنيًا فى نفسها وتجسيده حسيًا؛ فالعيون هى القادرة على الاحتفاظ بصور الأشياء وتبدلاتها من خلال المعاينة والمشاهدات.

استلهام التراث الدينى
العمل ككل معادل موضوعى لواقع المجتمع وقضاياه السياسية، فى الجزء الأول منه اتضح المكون الوجدانى للاتجاه، الذى نعنى به شعور البطل العام نحو العالم بأنظمته الحاكمة وبؤس البشر، والمعلومات التى تتفاوت فى وضوحها وبالتالى تأثير ذلك فى قبوله أو رفضه، ربما لذلك ارتبط المكون الوجدانى بمثيرات ومواقف اجتماعية،واتضح فى الجزأين الثالث والرابع المكون المعرفى فى اتجاه: ميمون الإيجابى نحو: مادلين/ روزاو: صفية وهو المكون الذى يرجع لمعرفة كل ما يتعلق بهما من تفاصيل حياتية، بالتالى يتم التعبير عن هذه المعرفة بعبارات تشير إلى نزعات انفعالية اتضح أيضًا فى الجزأين الثانى والخامس المكون السلوكى للاتجاه الذى نعنى به الترجمة العملية لاتجاهات: ميمون/ مادلين نحو الأشخاص والأفكار؛ على اعتبار المكون السلوكى للاتجاه مكتسب،مع ملاحظة أن هذا المكون ليس من الضرورى أن يكون منطقيًا.

ارتكز العمل على استلهام التراث الدينى وما يحويه من معطيات جمالية وصور فنية؛ لأن التراث الدينى له مكانته فى الوجدان الجمعى ودلالة ذلك تكرار مفردة «مدد يا أم اليتامى»، وحلم اليقظة الغرائبى إلى أن يصل البطل والبطلة إلى كنيسة العذراء بالزيتون، يقول البطل: «لا أدرى إلى الآن من كنت أنتظر من السيدتين أم النور أم أم اليتامى»، وكأن الدين هو الملجأ الروحي؛ فنجد الرموز الصوفية التى أدرجها الكاتب معتمدًا على الإيحاء بالمشاعر بدلًا من التعبير المباشر عنها.

نجح الكاتب فى ممارسة لعبة الترميز والإيحاء من خلال تجسيد انفعاله بالأماكن المختلفة والمتعددة، إلا أن الانفعالات التى رغم اتخاذها صفة الاستمرار النسبى والثبات أمكن تعديلها تحت وطأة الظروف، فكانت غرائبية الصعود _ فى ختام العمل _ بمثابة المعادل الموضوعى لفكرة الخلاص من الزحام والروتين والقذارة: «قادنا الممر إلى ممر أوسع، ثم انفتح باب على ساحة أوسع بكثير، وسمعت صوت خرير ماء من كل الزوايا والأركان».

الهوامش:
(1) خيرى دومة (1998) تداخل الأنواع فى القصة المصرية القصيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب