معارك الكتب: آليات الرقابة وإجراءاتها ضد النصوص والأفكار

معارك الكتب فى الشرق والغرب
معارك الكتب فى الشرق والغرب

عاطف محمد عبد المجيد

تعتبر الرقابة من الظواهر المثيرة للجدل على مر التاريخ، لما واكبها من سجالٍ فكري وقانوني وأدبي، بين السلطتين الدينية والسياسية من جهة، والمثقفين والمبدعين من جهة أخرى، حول حدود العقل ووظيفته، ولم يقتصر الجدل على مجتمع أو ثقافة بذاتها، بل امتد إلى المجتمعات والثقافات الإنسانية المتعاقبة عبر التاريخ.

هذا ما يكتبه عزمى عبد الوهاب فى مقدمته لكتابه «معارك الكتب فى الشرق والغرب»، الصادر حديثًا عن (دار غاف)، الذى يُطلعنا فيه على مجموعة من الكتب تم منعها ورفض ظهورها، وكانت سببًا فى ملاحقة مؤلفيها ودخول بعضهم السجون، وكتب أخرى خلقت تربة خصبة للنقاش والحوار والشد والجذب وأثارت معارك كثيرة على صفحات الصحف والمجلات، وفيه يقول إن فهم عوالم وأسباب ظاهرة الرقابة يقتضى البحث والتنقيب فى أهم النصوص والحوادث الرقابية عبر التاريخ، إذ لا سبيل إلى إدراك كنهها وحقيقتها دون الغوص فى ثنايا كتب تاريخ الأدب والفكر التى تضع الباحث عند جذور الظاهرة فى تربتها الثقافية والمعرفية، مضيفًا: أن الهدف من أى دراسة تتعلق بتلك الظاهرة هو تشكيل صورة بانورامية عنها، من خلال التجربة الأدبية العربية والغربية شعرًا وفكرًا وسردًا، عبر عصور ثقافية عديدة، ذاكرًا أن الرقابة قد اتخذت صورًا متعددة عبر تاريخ الفكر والأدب، تبعًا لكل مرحلة تاريخية، مستنكرًا أنه رغم التطورات التى شهدتها النظم السياسية والثقافية فى الغرب بعد الثورة الفرنسية، وما تحقق بعدها من حقوق للإنسان والمواطن، فى مختلف أرجاء أوروبا إلا أن الرقابة ظلت مستمرة عبر الأنظمة والقوانين والتشريعات المنظمة لحرية الصحافة والرأى والتعبير، بمبررات مختلفة تتصل بالخلقيّ والسياسى والاجتماعي، ذلك أن العامل الدينى تراجع بفعل ظهور عوامل أخرى، ترتبط بطبيعة المجتمعات الحديثة والسياقات الثقافية والتاريخية المعاصرة.

هنا يكتب عزمى عبد الوهاب عن استمرار منع الكتب فى أوروبا بعد نهاية عصر الأنوار، معددًا بعض الكتب التى مُنعت فى فرنسا ومنها: أزهار الشر لبودلير، مؤكدًا أن الغرب مارس كل أنواع الرقابة والمصادرة، بما فى ذلك مصادرة الحياة، وإحراق الكتب فى الميادين العامة، مشيرًا إلى استمرار الجدل والصراع بين دعاة حرية التعبير والسلطة السياسية فى النصف الأول من القرن العشرين، ذاكرًا أن ظروف الحربين العالميتين الأولى والثانية وتداعيتهما أسهمت إسهامًا مباشرًا فى التضييق على الحريات العامة، واصلًا إلى القول بأن الرقابة، على مر التاريخ، خلقت توترًا دائمًا بالنسبة إلى الأفراد والمجتمعات، فالجماعة تضع التابو أو القانون لحماية ما تعتبره مقدسًا لديها، والأفراد يستسلمون لرغباتهم وينتهكونه، ليقعوا فى المحظور.

الحاضر الغائب
الكاتب الذى يرى أن الرقابة تظل الحاضر الغائب باستمرار فى كل مكان، إذ لا تزال الكتب تُمنع، حتى وقت قريب، وتُحرق واجهات المكتبات، رغم ما يقال عن ثورة المعلومات والوسائط الحديثة التى حالت دون المنع والرقابة، يكتب هنا قائلًا: إن الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة العالم الحر، كما يُقال عنها، قد تفوقت على الاتحاد السوفيتى السابق فى حظر الكتب ومصادرة المطبوعات، مشيرًا إلى أن أمريكا كانت تعمل بهدوء وبصورة ناعمة دون صخب أو ضجيج، بينما كانت الرقابة فى روسيا تتم بطريقة درامية وعنيفة للغاية، مضيفًا: أنه رغم الحريات التى أطلقها جورباتشوف، قد اعترف أحد الأدباء بعجزه عن التواؤم مع فجر الحرية الجديد قائلًا: إن الرقابة الصارمة قد تكون فى صالح الأدباء والفنانين، أكثر من الحرية والإباحة، شريطة ألا تنجح هذه الرقابة فى تحطيمهم وكسر أقلامهم، فهم بكل بساطة يستطيعون ممارسة الخلق والإبداع فى الأدب سرًّا، وتحت الأرض، بعيدًا عن عيون السلطة، ذاكرًا كذلك أن أمريكا بلد الحريات لم تكن جنة موعودة للأدباء، فقد بلغت المحاكمات والمصادرات بها أضعاف ما جرى فى الاتحاد السوفيتى المُغلق على أسراره، فى ظل كون الكنيسة سلطة فوق الدولة ممارسة دورًا رقابيًّا عنيفًا إلى أن سنت أمريكا قانونًا يفصل بين الدين والدولة، وهو قانون لا يمنح الكنيسة أية سلطات فى مجريات الحياة المدنية.

فى معارك الكتب نعرف أن السلطات الحاكمة فى جميع أرجاء أوروبا أدركت أهمية أن تكرس جهدًا للرقابة والسيطرة على المعلومات التى تحصل عليها الجماهير، وعلى ما تتعرض له من مؤثرات سياسية بهدف استئصال أى اتجاهات ثورية، وهكذا ظهرت محاولات عدة لإحكام الرقابة على الصحف والرسوم الكاريكاتورية السياسية والمسرح والأوبرا والسينما، وما تتركه من أثر عميق فى نفوس الجماهير، فضلًا عن سعى السلطة إلى فرض قيود على حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات، راصدًا أن الرقابة السياسية فى وسط أوروبا الشرقية وجنوبها الغربى قد بلغت ذروتها.

معركة سياسية
عزمى عبد الوهاب الذى يقول: إن مؤرخى الأدب والصحافة يعتبرون أن معركة العقاد مع أمين الرافعى من أقسى المعارك الصحافية وأشدها عنفًا لأنها فى الأصل معركة سياسية، يكتب هنا قائلًا: لعل الأزهر الشريف لم يخرج من بين صفوفه خلال بداية النصف الثانى من القرن الفائت من هو فى مثل شراسة الشيخ محمود شاكر فى الحق، وإثارته للجدل طوال تلك السنوات التى بدأها طالبًا فى الجامعة، أو تلك التى انتهت به إلى إثارة الزوابع الفكرية، حتى نهاية الثمانينيات، وقبل أسابيع من وفاته، تاركًا خلفه عددًا من الكتب الفكرية القيمة، من أهمها: تحقيق تفسير الطبرى وكتابه القيم عن المتنبي، لافتًا النظر إلى أن رسائل كبار الكتاب كانت تُنشر فى البريد مع رسائل القراء، وهو تقليد اختفى الآن من الصحف، وكان هؤلاء الكتاب يتبادلون الرسائل على صفحات الصحف، ومن أهم هذه الرسائل تلك التى كان يتبادلها طه حسين مع توفيق الحكيم، وهما يمثلان جيلين مختلفين، مثلما يُورد هنا إشارة تقرير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان إلى أن تكفير الكتاب والباحثين والأدباء والفنانين عملية تواصلت فى كل مراحل التاريخ الإسلامى وارتبطت فى العصر الحديث بكل الحركات التى اتخذت لنفسها مرجعية دينية فى السياسة، وأسهمت فى تعطيل نمو البحث العلمى والإبداع الأدبى والفنى ووضع قيود على حرية العقل والخيال.

كذلك يكتب عن معارك لويس عوض الأدبية، عن مثقفين مارسوا الرقابة، عن وشاية الأدباء ضد أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، عن معارك الدكتور زكى نجيب محمود، عن حلمى سالم المطعون بأصدقائه، عن معارك طه حسين، عن معارك لويس عوض الأدبية، عن مثقفين يرفضون تشويه العميد، عن تحدى العقاد لصلاح عبد الصبور، وعن العديد من الكتب التى مُنعت شرقًا وغربًا، مؤكدًا أن الرقابة ليست شكلًا من أشكال القمع بقدر ما هى تعبير صارخ عن الفوضى وعدم الفهم، كما أن ردود الأفعال المتناقضة على الوقائع الرقابية تكشف مدى شخصانية المثقفين واختلافهم فيما يجب أن يتفقوا عليه، أى المبادئ الكبرى كحرية التعبير والتلقى والمفاهيم الأساسية الخاصة بالإبداع الجيد. هنا وفى الأخير يرى عزمى عبد الوهاب أن المثقف شكّل على مدى تاريخ طويل هاجسًا حقيقيًّا للرقباء، إذ يُروّض حينًا، ويتمرد حينًا آخر، لتتشكل مع الزمن آلة الرقابة بكافة وجوهها وطقوسها وأدواتها، وسيلة للاحتواء والتطويع ومطية للإبعاد والحصار، للقضاء على خطره المحتمل أو الفعلي، مضيفًا: أنه مثلما كانت السلطة تمارس نفوذها عبر آليات الرقابة وإجراءاتها، كان المثقف يمارس نفوذه عبر الكلمات والنصوص والأفكار.