يوميات الأخبار

هدم القبح وتشييد الجمالِ

صدر كتاب مهم جدا أوصي السادة القراء بالاطلاع عليه، ألا وهو كتاب: (موقف الأزهر الشريف وعلمائه الأجلاء من جماعة الإخوان)، للباحث الأستاذ حسين القاضي، وتدور فكرة الكتاب حول توثيق مواقف علماء الأزهر علي مدي ثمانين عاما من جماعة الإخوان، وكيف قام العلماء الأجلاء بواجبهم الديني والوطني في التحذير من هذا الفكر المنحرف، ومنذ فترات مبكرة قبل حصول أي ضجيج سياسي ربما توهم البعض تأثيره علي مواقف العلماء.

ومثال ذلك مطالبة شيخ الأزهر الإمام المراغي سنة 1945م بحل جماعة الإخوان بسبب تجرؤهم علي الفتوي بغير علم، وذلك في حياة حسن البنا، قبل موته بسنوات، وقبل مرحلة سيد قطب، وقبل أحداث الصدام بين الإخوان وبين الرئيس جمال عبد الناصر، مما يدل علي الرؤية الثاقبة للشيخ المراغي، وأنه شاهِدٌ علي فساد المنهج الإخواني في ذاته، بغض النظر عن أي عوامل وتجاذبات سياسية، ثم يمضي الباحث في رصد مواقف مشيخة الأزهر وهيئة كبار العلماء إلي الشيخ جاد الحق، ثم رصد موقف مؤسسة الإفتاء.

ثم رصد مواقف كبار علماء الأزهر من كبار الشخصيات، ابتداء من أحمد حسن الباقوري، وأحمد عمر هاشم، والمحدث أحمد محمد شاكر، وخالد محمد خالد، وسعد الدين السيد صالح، وعبد الله المشد، وعبد الوهاب الحصافي، وعطية صقر، ومحمد الغزالي، والشيخ الشعراوي، ومحمد المدني، والشيخ معوض عوض إبراهيم، والعلامة يوسف الدجوي، وغيرهم.

ورصد تحذير هؤلاء العلماء جميعا من الإخوان، وأنهم خوارج، مما يكشف اللثام عن الموقف الصارم من العلماء عبر التاريخ، وأنهم قاموا بواجب وقتهم، لكن جهودهم وبياناتهم تبعثرت ومضي عليها الزمن، في مقابل نشاط حركي وإعلامي كبير من الإخوان، ودعاية مخدومة بإنفاق كبير عبر عقود، مما يؤدي إلي مسح التاريخ، ومحو الذاكرة المؤسسية والوطنية، والوصول إلي أجيال في حالة من الحيرة في اتخاذ موقف من الإخوان.

وأري أن هذا الكتاب بداية مواجهة حقيقية مع الفكر المنحرف، وأن هذه هي الخطوة الأولي الحقيقية في تفكيك هذه الأطروحة الإخوانية، واستعادة الذاكرة المفقودة، وصناعة وعي محصن، عنده مناعة من اختراقه أو خضوعه للتزييف والتزوير.

وتبقي علامة استفهام كبيرة حول عدم قيام المؤسسة الرسمية ممثلة في مشيخة الأزهر عبر السنوات الخمس الماضية بجمع هذا التراث من تاريخ المؤسسة وطباعته بصورة رسمية من قبل الأزهر الشريف، حتي يظل الفراغ موجودا إلي أن يتصدي له باحث بجهده الفردي.

> > >

تكلمت في خطبة عيد الفطر الماضي بحضور السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الجمال، وكيف أن هذا الشرع الحنيف السمح حشد للإنسان عوامل الجمال في مأكله، وملبسه، وطيب رائحته، وفي التماس الجمال في حسن الأصوات ليتعود اكتشاف المواهب، وفي اختيار الثياب والهندام، وفي حسن السمت، ثم لفت القرآن نظر الإنسان إلي الجمال في عالم النبات والزروع والحدائق، ثم أمره بتفقد الجمال في السماء المزينة بالنجوم ليتعود رصد القبة السماوية ومعرفة النجوم، وإنشاء مراصد الفلك، والخروج من ضيق الأخلاق وشح النفوس إلي اتساع الآفاق، مما يصنع إنسان الجمال والرقي، والغرض من ذلك كله هو صياغة منظومة أخلاق الإنسان حتي يكون موصوفا بالجمال في سلوكه.

ولقد أحصيت أربعةً من الأخلاق لا خامس لها وصفها الله بالجمال، والعجيب أنها جميعًا تأتي في مواضع الخصومة والمنازعة، فأمر الله تعالي بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، والسراح الجميل، حتي في مواقف الطلاق والخصومة، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَي مَا تَصِفُونَ)، (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)، حتي عندما تثور النفوس وتغضب أمر الله تعالي الإنسان أن يتصف في إدارة مواقف الأزمات والخصومة بوصف الجمال الصريح.

ثم يُنقل الجمال من الطبع إلي جمال الفكر والعقل، حتي لا يولد علي أرضنا إنسانٌ ينحرف فهمه في الوحي ليستخرج من الوحي بفهمٍ مغلوطٍ قتلًا، أو قطع الرقاب، أو فكر إرهاب، أو تدمير وطنٍ آمن، أو نسفًا، أو تخريبًا، أو قطع رقابٍ أو بثًّا للرعب، فيأتي ابن عباسٍ رضي الله تعالي عنه في مناظرة الخوارج، وعندما أراد الدخول إليهم، قال: فذهبت إلي بيتي فارتديت أجود ما عندي من الثياب، يريد أن يستفز عند الخوارج أنهم صار الجمال عندهم يشمئزون منه، وقد نجح في هذا، قال: فلما دخلت عندهم قالوا: وما هذه الثياب التي ترتديها يا ابن عباس؟ قال: وما تعيبون عليّ، ولقد رأيت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم أجود ما يكون من تلك الحُلل، ثم ناظرهم، فانتهي فكرهم وتفكك.

وهذه لمحة من جمع كل ما يتعلق بالجمال والحسن في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فكيف بنا لو أننا جمعنا كل ما في الوحي من كلمة نور؟ وكيف بنا لو جمعنا كل ما في الوحي من كلمة هدي؟ وكيف بنا لو جمعنا كل ما في الوحي من كلمة رحمة؟ وكيف بنا لو جمعنا كل ما في الوحي من كلمة حياةٍ؟ وكيف بنا لو جمعنا كل ما في الوحي من كلمة إكرامٍ وتكريم، أو من كلمة علم، أو من كلمة فتح (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، أو من كلمة بصيرة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَي اللَّهِ عَلَي بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، حينئذ يمكن القول فقط أننا بدأنا مسيرة بناء الإنسان الصانع للحضارة والتمدن، كما رسمها القرآن الكريم، وحينئذ فقط نكون قد جمعنا بين تفنيد فكر تيارات التطرف والتكفير، وبين البناء الصحيح لشخصيات وعقول تكون غير قابلة للاختطاف من قبل التطرف.

إن هذا الدين في حقيقته إكرام للإنسان، وتكريم له، وهداية لعقله وجوارحه وحواسه، وربط للدنيا والآخرة، وعمران للأرض، وصناعة للحضارة، وتبجيل للحياة وتكريم لها، والله من وراء القصد، وسلام علي الصادقين.