رؤية مصرية

نتنياهو في منابع النيل

إذا لم تكن رحلة نتنياهو إلي منابع النيل، قد أثارت قلق كبار مسئولينا وطردت النوم من عيونهم، فنحن أمام مأزق مُربِك ومثير للكثير من التساؤلات بشأن مفهوم الأمن القومي المصري والعربي..أنا شخصياً لم يهدأ لي بال منذ علمتُ بنبأ الزيارة المشئومة..بل كدتُ أسمع هذا الصهيوني المتطرف يزأر شامتاً ومتشفياً « ها قد عدنا..يا عبد الناصر» مردداً صيحة الجنرال الفرنسي المنتصر في معركة ميسلون بسوريا عندما توجه إلي قبر صلاح الدين الأيوبي بدمشق وركل القبر بقدمه صارخاً « ها قد عدنا..يا صلاح الدين»!!..نعم عادت اسرائيل إلي افريقيا - مُستغلةً غيابنا و»غيبوبتنا» - لتملأ فراغاً تركناه بمحض إرادتنا بعد أن كانت مصر عبد الناصر زعيمة بلا منافس وشقيقة كبري لكل دول القارة السمراء التي تحررت لتوها من الاستعمار.. أدرك عبد الناصر الأهمية الحيوية لأفريقيا، وخاصة دول حوض النيل، بالنسبة لحياة المصريين ووجودهم، ونجح في جعل القاهرة قِبلة وملاذاً لكل الأفارقة الطامحين إلي التحرر من الاستغلال والعبودية والعنصرية وتجارة الرقيق..ولم تحصل مصر علي هذه المكانة بالغزو أو قوة السلاح ولكن بفضل قوتها الناعمة وأياديها البيضاء التي بلغت أقاصي القارة.. وحققنا هذا الاختراق بالتنسيق مع الأشقاء العرب حيث كان البعد الأفريقي حاضراً بقوة في سياستنا الخارجية..ورد الأشقاء الأفارقة الجميل بدعم القضايا العربية في أروقة الأمم المتحدة وحركة عدم الانحياز إذ كافحت الدول العربية والأفريقية معا ضد الاستعمار الاستيطاني في جنوب أفريقيا وروديسيا وفلسطين المحتلة..

وفي حرب أكتوبر 1973 عبرت الدول الأفريقية عن تضامنها مع الشعوب العربية بقطع العلاقات مع إسرائيل.. وبانتهاء الحرب بلغ عدد الدول الافريقية التي قطعت علاقاتها مع العدو الصهيوني 29 دولة.. ثم جاءت كارثة كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية/  الإسرائيلية التي كسرت أسوار العزلة حول دولة الاحتلال وفتحت أمامها أبواب وأحضان القارة السمراء.. ولم تقف خيبتنا وغفلتنا عند ذلك، بل أدار نظام السادات ومن بعده مبارك ظهورهم للقارة مبددين رصيداً غالياً حققته مصر بالكثير من التضحيات.. وأحدث ذلك الانقلاب الدراماتيكي في سياستنا الإفريقية ارتباكاً وخللاً علي مستوي العلاقات العربية/ الإفريقية.. وكان من الطبيعي أن تستغل إسرائيل المتربصة غياب مصر والعرب لتحل محلهم في المجالات التجارية والاقتصادية والعسكرية.. تزايدت صادراتها إلي أفريقيا ووارداتها منها.. وتوسع نشاطها ليشمل نحو 22 دولة أفريقية في مجالات مختلفة..كما بدأت إرسال بعثات للقارة سراً وعلنا..وتمكنت من إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأفريقية تِباعاً.. ومع بداية أزمة سد النهضة، كشفت اثيوبيا عن نوايا عدوانية واستحضرت كل شياطين الأرض واستقوت بكل الخصوم والأعداء فضلاً عن بعض الأشقاء للإضرار بأمننا المائي والغذائي والقومي..زار اثيوبيا الرئيس التركي ووزيرا خارجية امريكا واسرائيل ثم نتنياهو.. وإضافةً لكل هذه الإشارات الاستفزازية لم يصدر عن أثيوبيا ما يمكن أن يطمئن المصريين بشأن حصتهم السنوية من المياه وخاصة أننا نعاني بالفعل من مجاعة مائية بدأت تظهر آثارها في نقص مياه الري والشرب في مناطق مختلفة..

وكانت رسالة نتنياهو العدوانية ضد مصر والعرب ظاهرة ومستفزة خلال جولته.. إذ حمل معه فكرة «بنك المياه» لتحريض دول المنبع علي بيع المياه لدول المصب.. وسأل مضيفيه بوقاحة «ماذا جلب لكم العرب والمسلمون سوي الإرهاب والتطرف والتخلف»!.. وهو يعني بالطبع أن العلاقات مع اسرائيل أفضل وأكثر فائدة للأفارقة!!..هذه هي حقيقة اسرائيل عدونا الأزلي..ومَن يشك في ذلك عليه قراءة التاريخ جيداً واستحضار شعار «من الفرات إلي النيل.. سودي يا إسرائيل».