كوامل

بعد ٣٧ عاماً من حادث الحرم المكي

سبعة وثلاثون عاماً توشك أن تكتمل علي الذكري الأسوأ في تاريخنا الحديث، يوم استحل جهيمان وزبانيته المسجد الحرام في مكة المكرمة عام 1400 هـ. ولم نكن نعرف حينها لا داعش ولا فاحش.. وهبّت الدولة كلها ومعها أهل مكة أجمعون، يقاومون ويرفضون هذا الخروج المشين علي حرمة وقدسية البلد الأمين، الذي أقسم به الرحمن الرحيم، وحرّمهُ إلي يوم الدين.. وجعله آمناً ورَزَقَ أهله من كل الثمرات.. ولم يحلّه إلا ساعةً من زمان لرسوله الأمين يوم الفتح المبين، صلي الله عليه وسلم.. ومسجده الشريف في مدينته المنورة وعلي مقربة من المواجهة الشريفة لشفيع الأمة ورسول الرحمة والبشرية.. يتعرض هذا المكان الأقدس المقدّس، بعد سبعة وثلاثين عاماً لمحاولة إرهابية نفذها أحد أتباع ذاتِ الفكرِ الذي فجعنا في الكعبة المشرّفة.. وعطّل الصلاة في القبلة ومهبط الوحي..
سبعة وثلاثون عاماً.. تغيرت فيها أمور وتبدلت فيها أحوال وتحسنت فيها حياة الناس في كثير من البقاع التي خَلَت من هذا الفكر الشيطاني البغيض الذي يستبيح أكثر المواقع حُرمةً علي وجه البسيطة.. البيت الحرام، والمسجد النبوي، ولا يأتي في المرتبة بعدهما إلاّ المسجد الأقصي.. والعجيب أن الصهاينة المحتلين، إذا ما ارتكبوا جرماً يمس هيبة الأقصي تداعي رجال الدين من كل مكان في عالمنا الإسلامي المُختطف، يدعون بالثبور وعظائم الأمور.. قل لا تدعوا ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيرا.. لأنها مدينة الرسول يا علماءنا يا من انتخبناكم دهورا.. لتعلنوا الحرب الصادقة علي من اعتنقوا فكر التفجير والتدمير، علي طريقة : من أشعل النيران يطفيها.. فقد اعتنقوا فكر الضلال حينما سٌوِّل لهم أنه طريقهم إلي الجنة والشهادة والخلود في اليوم الموعود.. بعدما تفتقت عبقريات فاسدة وجاءتهم بأدلة وبراهين زائفة ما أنزل الله بها من سلطان.. وخلطوا وألبسوا عليهم معاني الجهاد.. ومعاني التكفير والتشريك والتبديع.. فجعلوا من الناس كافةً هدفاً لمن آمن بهم من المٌضَللين.. وحشوا أدمغتهم الخاوية بقدسية فكرهم وأنهم هم الفرقة الوحيدة الناجية من النار الحامية..
وعمّوا أعينهم عن آية محكمة عظيمة في كتاب الله الكريم، المصدر الأول والدستور الأساس لهذه الأمة ولكل الناس : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَي اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) الأنعام - 159. ولقد قرأها سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه بمعني : « فارقوا دينهم : خرجوا فارتدوا عنه من المفارقة».
حقيقةً أنا لست برجل دين - ولله الحمد - ولكنني مسلم يمكنني العثور علي الحقيقة كاملة غير منقوصة في كتاب الله الكريم. ذلك أن الإسلام ليس به رجال دين ورجال دنيا. الإسلام بسيط المعاني بيّنُ المقاصد.. ولو تركونا نتعاملُ مع هذا الكتاب الذي نزل علي محمد عليه الصلاة والسلام كما نزل عليه، دون وسطاء ولا مترجمين.. لبقي كما كان الصحابة يفهمونه ويطبقونه آيةً آية.. ولكننا اتخذنا هذا القرآن مهجوراً.. وذهبنا إلي ما قال فلان وقال علّان.. وأصبح لكل طائفةٍ شيخ يلزمها بما يراه.. وبما يريده.. فتولدت من جديد عصبيات عنيدة، ومذهبيات بغيضة.. وذهبت كل جماعة تُكفّر أختها، وتتهمها بالبدع والضلال.. والغريب أن بعضها اعتمد بدعاً لم تكن من أساس الدين، فأنا لا أعلم أن رسول الله عليه صلوات الله وسلام الناس أجمعين قد صلي التراويح في الحرم، ولم يحدث في عهده أن تمت مراسم ختم القرآن الكريم.. ولكنها استحداث ليس إلّا. ثم نري هذا البعض بعد مدةٍ يتعامل معه.. حتي غدا الأمر مثار جدال ونقاش.. وأخذٍ وردٍ، ومن هنا فُتِح باب الفتنة، وسُمِحَ للفكر أن يتحرر من عقال الدين الأصيل.. وكم نحمد في الأصل لمؤسس المملكة العربية السعودية، وموحدها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن غفر الله لنا وله.. يوم أن أمرَ بتوحيد الصلوات في المسجد الحرام، بعد أن كانت كل مجموعة تصلي خلف إمام من مذهبها، ولكن هذا لا يعني أن مذهباً واحداً يجب أن يسود كل المذاهب، وما جُعِلت المذاهب في الأصل إلّا تخفيفاً للأمة وليس لإذلالها.. وهنا أذكر بالشكر أحد ائمة المسجد الحرام، الذي حقق الرحمة والتخفيف، حين صلي في الحرم الشريف الوتر بكل الطرق التي صلّاه بها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.. وكأنه جزاه الله خيراً هذا الإمام، يريد البُعد عن التضييق المذهبي، الذي أدخلنا أنفسنا فيه وكان أحد الأسباب الرئيسية لهذا الاختلاف وهذا التباين الذي استغله أصحاب الفكر الضال في زيادة رقعة التشتت والتمزيق بين أبناء الإسلام في كل مكان.
وبارك الله في خادم الحرمين الشريفين الذي استنفر بحكم ما ولّاه الله من أمانةٍ وحبَاه من مكانةٍ، فاستنفر كل القوي وقال متوعداً بعد الإنفجارات الأخيرة، خاصةً ما حدث بقرب المسجد النبوي الشريف علي صاحبه الصلاة والسلام :- بأنه سيضرب بيدٍ من حديد لمحاربة الفكر الضال هذا، وبارك الله في فخامه الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ناشد ويظل يناشد في تجديد الخطاب الديني ولكن لا حياه لمن ينادي.
رحم الله شهداءنا الأبرار والأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فافتدوا بأرواحهم وأجسادهم مسجد الرسول وسيناء وغيرها من الأماكن وحموا الأبرياء وضحوا بأنفسهم ووحمُوا بإذن الله الآلاف من قاصديه.. وهذا ما يُحسَب للتربية الإسلامية الحقيقية والروح الإيمانية التي لم يخالطها زيف أو زيغ أو ضلال.. ولكن الأمر خطورته تشتد وإذا لم يتم تجفيف منابع الإرهاب الفكرية هذه، سنفقد المزيد من هؤلاء الرجال - حماهم الله-.