توقفت فى المقالة السابقة مع وعدٍ بالبدء انطلاقاً من الآية الكريمة : (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) آل عمران - 187.
وأكدت على أن أمانة المعلم أو التعليم تأتى لبناء المجتمعات - وقد تكون، إذا لم تكن فعلاً - متساوية مع أمانة الحكام، بل قد تفوقها أحياناً، لأن الحكام والمدراء والوزراء لو تعلّموا جيداً لكان حكمهم رشيداً وكان عملهم رشيداً.. وتساءلت : هل تعليمنا اليوم فيه أمانة ؟
وتوسعاً فى طرح السؤال أتساءل : هل تعليمنا اليوم وهل المعلم اليوم أمينٌ فى تعليمه ؟ وهل المتعلم أمينٌ فى التلقى ؟ وهل الآباء أمناء فى تعليم أبنائهم ؟ وهل من يكتبون المناهج الدراسية أمناء فى كتابتها ؟ ثم هل التعليم اليوم يخرّج لنا جيلاً متميزاً مبدعاً منتجاً وناجحاً ؟ وهذه قارئى العزيز قضيةٌ مهمة حيث إن التعليم واحد من أعظم الساحات التى تنمو فيها غِراسات القيم. والآن يوجد لدينا معلّمون يعلّمون العلم لكنهم فى أغلبهم لا يؤدونه كاملاً فى الفصل من أجل أن يأتيهم الطالب فى الدروس الخصوصية، وهنا يكون المعلّم قد خان أمانته.. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : « من سُئل عن علمٍ فكتمه أُلجِمَ بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة «.
والتعليم ماهو إلا عبارة عن مُعلم وعن منهج، وللأسف فقد ابتلينا بسوء الإثنين. فأنا من جيلٍ درست على يد المدرسين الأولين - فى الابتدائى والإعدادى والثانوى - الذين كان معظمهم من المدرسين المصريين. كان الأستاذ موسوعةً وكان قدوة فى السعودية، بعد ذلك تدنى مستوى المعلمين فى مصر وفى غير مصر، فأصبحت سياسة الكم وليس الكيف هى التى تسيطر على معاهد تخريج المعلمين.
والمعلم عليه حقوق وله واجبات، كنا إذا دخل الأستاذ الصف نقف له احتراماً، وفى أذهاننا ذلك البيت العظيم لأمير الشعراء أحمد شوقى : قُمْ للمُعلّم وَفِّه التبجيلا.. واليوم نسمع ونرى أن بعض الطلبة يستهزئون بالمعلم أو الأستاذ، بعدما أصبح لا شخصية له. ومعظم المدارس للأسف والحسرة، أصبحت «مدرسة المشاغبين». وأنا لا أقصد التعميم فى التعليم، فهناك نماذج من المعلمين نادرة، وهناك بعض المناهج القادرة، ولكن بفساد المعلّم وضعف المناهج أصبحنا نخرّج أجيالاً لا تستطيع أن تبنى نهضة الأمة. وفى اعتقادى أن السبب الأول لهذا الأمر هو أن الهدف من العملية التعليمية برمتها من الابتدائية وحتى الجامعة، هو الحصول على وظيفة وليس العمل فى حد ذاته، وهناك بالطبع فرق بين العمل والوظيفة. فأنا أُدخِل ابنى الجامعة من أجل أن يأخذ الشهادة، فساءَ التعليم عندما سعّرنا الشهادات. ومن أجل هذه الشهادة، يفعل الآباء كل شئ يمكنهم عبر المدارس الخاصة والمدرّسين الخصوصيين، التى جعلت من المدرسة والمدرس موظفين لدى أولياء الأمور، الذين يدفعون رواتبهم من مصاريف أولادهم ودروسهم الخصوصية.
وهذا الخلل فى العملية التعليمية، أهم مسبباته، ضعف راتب المعلم، فكيف تريد منى كمعلم أن أُعلم ولدَكَ بأمانة وتفانٍ، وأنا راتبى قد يكون أقل من راتب السائق الذى يوصل ابنك إلى المدرسة ؟!
ونسمع ونرى محاولات عديدة لإصلاح شئون قطاعات مختلفة فى الدول ومنحهم مزايا مالية واجتماعية.. دون أن نلتفت إلى أحوال المدرسين، وهم المعدّون الحقيقيون لكل كوادر المجتمع. إن علينا فى كل دولنا أن نعيد للمعلم مكانته فنبدأ بإعطائه حقوقه ثم نطالبه بأداء ما عليه من واجبات، حتى يعطينا ويعطى أولادنا فى الفصل كل ما لديه من علم وتربية وإخلاص..
المشكلة كبيرة.. لأننا لم نعد نحترم المعلمين، المادة أفسدتنا وتدليل الآباء لأبنائهم وبناتهم هو أحد عوامل إهمال التعليم، ولهذا فأنا لا أضع المسئولية فقط على وزارات التعليم، لكن كما قلت وأقول دائماً : إن المنزل والأسرة هما الساحة الأولى والأهم للتربية قبل التعليم. فهل أنا عوّدت ابنى على احترام المعلم ؟ إلى جانب ما هو مطلوب من مناهج وأسس لتأهيل المعلم من أجل أن يكون صالحاً ويكون مستريحاً مادياً لأداء دوره العظيم فى التربية والتعليم.
لقد فقد المعلم كامل هيبته حين تحول إلى مدرّس متجول يطوف ببيوت طلابه بحثاً عن دخل إضافى وقد يكون عذره أنه يبحث عن توفير حياةٍ كريمة لأولاده والذين هم بدورهم ربما يأخذون دروساً خصوصية عند معلم آخر لمواد أخرى. المعلم يأكل ويشرب الشاى فى بيت الطالب، وربما أحياناً ينتظره حتى يستيقظ أو يجهز ليعطيه درسه ثم ينصرف إلى طالب آخر، وربما يجمعهم فى مجموعات قد تصل فى عددهم إلى ما يوازى عدد بعض الصفوف المدرسية، وهذا ليس حكراً على طلبة المراحل الابتدائية إلى الثانوية، بل أصبح نظاماً يتبعه حتى طلبة الجامعات حتى فى أهم الكليات.. كالطب.. عندما أصبح كتاب أستاذ المادة هو المصدر الذى تأتى منه الأسئلة وتوجد به الإجابات. ونحن وأولادنا أصبحنا أسرى لهذه الشهادات التى لم تعد التقييم الحقيقى لمستوى العلم والمعرفة عند معظم الخريجين والذين يصطدمون بالواقع العملى، حين يتوجهون إلى الممارسة الحقيقة للعمل.
كنت فى جيلى والجيل الذى قبلى، كان الذى يمتحن كفاءة الموظف أو طالب العمل، هو صاحب العمل. فأنا مثلاً أريد محاسباً فأمتحنُ المحاسب بنفسى حتى إذا تأكدت من أهليته كان له حق الحصول على العمل. أما الآن فالمطلوب أن أعيّن من لديه بكالوريوس محاسبة، أعينه بقوة القانون - قانون العمل - وهو لا يعرف الكثير مما يؤهله للعمل لأنه أصلاً لم يدخل الجامعة لتلقى العلم الحقيقى، وإنما دخلها ليأخذ هذه الشهادة التى لا تسمن ولا تغنى من جوع فى كثيرمن الحالات والمجالات.وللمعلومية أيها السادة : بعد قنبلة هيروشيما، رفعت اليابان راتب المعلم بما يوازى راتب الوزير.. لأنها كانت امام مرحلة بناء يابان جديدة، لا يبطل قوة الدمار التى أصابتها، إلا بناء معلّم قادر على أن يجعل من اليابان بلداً يحترمه العالم كله، ولا يعود قادراً على تدميره بقنابل أخرى.