تغيرت الحكومة ولم تتغير سياسة الغموض المُريب التي ننتهجها إزاء كارثة «سد النهضة» الإثيوبي..خبراء العالم يتحدثون عن الأخطار المُريعة للسد والتي قد تصل حد جفاف النيل وموت الزرع والضرع بينما تواصل حكومتنا دفن رأسها في الرمال ولا تقول لنا شيئاً يروي ظمأنا للحقيقة.. تقول الحكمة «ما ضاع حق وراءه مُطالِب» ونحن نُضيِّع حقوقنا الثابتة لأننا لا نطالب بها، المجتمع الدولي لا يكاد يعرف شيئاً عن المجاعة المائية التي نعاني منها حالياً (نقص مياه الري والشرب وجفاف بعض الترع وبوار الأراضي الزراعية في الصعيد والدلتا) والتي ستتحول إلي «نازِلة» لا قِبَلَ لنا بها مع بدء ملء بحيرة سد الموت الإثيوبي.. والأدهي من ذلك أن الرأي العام العالمي بات يتعاطف مع إثيوبيا وحاجتها إلي التنمية وتوليد الطاقة النظيفة بعد أن نجحت أديس أبابا علي مدي سنوات سوداء انسحبنا فيها من أفريقيا وتركنا دول حوض النيل لأعدائنا يعبثون فيها كما شاءوا، في حشد العديد من الدول الأفريقية ضد مصر و»تحكمها في النيل من خلال اتفاقيات موروثة من عهد الاستعمار.
ولكن أزمتنا الحقيقية تكمن في أننا لا نساعد أنفسنا ولا نطلب مساعدة الآخرين، فمنذ إعلان إثيوبيا عن بناء السد ورغم آثاره الكارثية المؤكدة علي حصتنا من مياه النيل، لم تتعامل حكوماتنا المتعاقبة مع الأمر بالجدية اللازمة ولم تتحرك إقليمياً ودولياً لحماية حقوقنا التاريخية بل اكتفت بمفاوضات باهتة وبطيئة وعقيمة ورضيت بإحالة الأمر إلي لجان فنية ومكاتب استشارية يؤكد الطرف الآخر طوال الوقت أن رأيها وقرارها النهائي غير مُلزِم له. ومع مرور الوقت «الثمين جداً» يعلو بناء السد ويعلن وزير الإعلام والاتصالات الإثيوبي «جيتاشو رضا» في تصريحات صادمة ومستفزة لصحيفة «الشرق الأوسط» السعودية الأسبوع الماضي «استكمال 70% من الإنشاءات وأن الأعمال الكاملة للسد قد تنتهي في أي وقت» وأن بلاده «تعمل علي كسب الوقت بانتظار اكتمال دراسات المكاتب الاستشارية التي لا علاقة لها بالإنشاءات، لأن السد قائم ولن يتأثر بناؤه بتقاريرها». ثم قال في تحد سافر «أما إذا كان هناك من يري بعد إعداد الدراسات أنه سيتضرر، فهذه ليست مشكلتنا في إثيوبيا».
هذا التحدي الجارح والصفيق لم يجد منا نحن أصحاب الحق المهدور سوي السكوت الذي يعني الرضا.. أو إطلاق تصريحات خرقاء تدعم مزاعم إثيوبيا.. فقد كرر وزير خارجيتنا أن السد صار واقعاً مادياً ولم يقل لنا كيف سنتعامل مع هذا الأمر الواقع، بينما بشرنا وزير الري بأنه سيتم سد الفجوة بين مواردنا واستهلاكنا بمعالجة مياه الصرف الصحي!!.. وكل ذلك لا يعني سوي الرضوخ لما تفرضه إثيوبيا والتخلي عن الدفاع عن حقوقنا التاريخية، بل حقنا في الحياة بكل السبل الممكنة «فإذا لم يكن من الموت بدٌ.. فمن العار أن تموتَ جبانا».
وأغرب ما في الأمر أن الحكومة تتصرف إزاء هذا الخطر الداهم وكأن «علي رأسها بطحة» مع أن الجميع يدركون أن الموقف بالغ الصعوبة والتعقيد، وأنه بعيداً عن «نازلة» السد الإثيوبي هناك ظروف بيئية طبيعية خارجة عن إرادة البشر تسببت في موجة جفاف ضربت إثيوبيا والسودان وأدت إلي تدني إيراد نهر النيل وتوقف ثلاثة سدود سودانية عن توليد الكهرباء!!.. وهذا يعني ببساطة أن المشكلة أكبر من أي حكومة ولا سبيل لمواجهتها داخلياً إلا بإشراك الشعب ومصارحته بالحقيقة المُرة كي يفطن إلي ضرورة المساهمة في خطة قومية جادة وصارمة لترشيد الاستهلاك حتي لا نموت عطشاً.. أما خارجياً فلا بديل عن حملة دولية منظمة لحماية حقوقنا حتي لا نموت قهراً.