لم أكد أنتهي من التهام آخر صفحة في مذكرات أو «أوراق شاهندة مقلد» حتي هاتفتُ الصديق الدكتور محمد العدل المُنتِج المعروف لأقول له إن « تحتَ يدي نَصاً فريداً يستحق أن يتحول إلي مسلسل تليفزيوني عالمي».. وفور علمه بموضوع النَص لم يُضَيِّع وقتاً وسارع بالاتصال بصاحب «دار ميريت» صديقنا المشترك محمد هاشم وحصل منه علي النسخة الأخيرة ليقرأها في نفس اليوم ويقرر إنتاجها.. وكنتُ قد أبلغتُ العدل بأنني هاتفتُ «الخالة» شاهندة وأقنعتها بضرورة تحويل المذكرات إلي مسلسل لكي يعرف المصريون والعرب والعالم قصة الفلاحة التي قالت لا للسُخْرَة والقهر والظلم وقادت ثورة فلاحي قرية كمشيش بالمنوفية ضد الإقطاع في أعظم ملحمة يشهدها تاريخ مصر..
شاهندة عبد الحميد مقلد.. ابنة ضابط الشرطة الذي أحب فلاحي قريته وساعدهم بكل السبل لمقاومة عسف وجبروت عائلة الفقي الإقطاعية.. تنقلت شاهندة مع والدها في محافظات مصر وتفتح وعيها مبكراً علي القضايا الكُبري.
ولعبت ثلاث شخصيات أدواراً فارقة ومصيرية في حياتها.. والدها الذي رباها علي الإعتداد برأيها وفعل ما تراه حقاً دون خوف.. و»أبلة» وداد متري معلمتها الماركسية بمدرسة شبين الكوم.. وابن عمتها صلاح حسين الذي أحبته حتي قبل أن تراه.. إذ سمعت الكثير عن قصص بطولاته سواء في فلسطين التي هرب إليها وهو صبي لينضم للفدائيين في حرب 1948.. أو في كمشيش حيث يقود نضال فلاحيها ضد الاستغلال والسُخرة.. كان من الممكن بل والطبيعي أن تعيش شاهندة حياة ارستقراطية ناعمة وتتزوج الضابط الشاب الذي عقد قرانه عليها بعد ضغوط رهيبة من والدتها التي لم تكن ترتاح لميلها لابن عمتها الفلاح الذي يبدو بلا مستقبل.. ولكن شاهندة دافعت عن حبها بكل ما تملك ورفضت أن تسلم نفسها لشخص لا يجمعها به أي مُشْتَرَك علي مستوي العواطف والأفكار.. تُوجَت مقاومة شاهندة بالنجاح وانفصلت عن الضابط بالمعروف وانتهي زواج علي الورق قبل أن يكتمل.
انخرطت شاهندة في ثورة فلاحي كمشيش تحت قيادة رفيق دربها صلاح الذي نظم طلاب القرية وسلح الفلاحين بمساعدة والد شاهندة الذي كان يهرب معها السلاح إلي القرية.. كان غريباً أن تتواصل جرائم مُلاك الأراضي ضد الفلاحين بعد ثورة 1952 التي رفعت شعار القضاء علي الإقطاع.. ولكن آفة ثوراتنا تكمن في يهوذا الذي دائماً ما يخون ويُمَكِن الثورة المضادة.. فقد حظي إقطاعيو كمشيش بحماية بلدياتهم أنور السادات عضو مجلس قيادة الثورة الذي قرر فرض حظر التجول بالقرية واعتقل 25 من الفلاحين بينما نفي قياداتهم إلي خارج كمشيش وبينهم صلاح الذي تزوج شاهندة في منفاه الإجباري بالاسكندرية.
وبعد تسع سنوات من زواج لم يخلُ من المطاردة والسجن قُتِلَ صلاح علي يد الإقطاع أثناء إحدي زياراته للقرية لتترمل شاهندة في عز شبابها.. ولكنها لم تنكسر أو تستسلم بل حملت راية القيادة ونجحت في إيصال صوت الثورة إلي القاهرة.
وفي مشهد تاريخي اعترضت شاهندة موكب عبد الناصر الذي كان في طريقه إلي ميت أبو الكوم لزيارة السادات برفقة الثائر العظيم جيفارا.. وسلمته عريضة تحكي فيها مأساة كمشيش وعندما قرأها تساءل في ذهول «معقول أن يحدث كل ذلك في دائرة أنور السادات»؟!!.. تغيرت الأمور إلي الأفضل نسبياً بالنسبة لكمشيش أما شاهندة فلم تهنأ طويلاً إذ مات عبد الناصر وتولي السادات لتبتلعها سجونه أكثر من مرة وتُقسِم ألا تخلع ثوبها الأسود إلا بعد أن يلقي السادات جزاءه.. وقد كان..
وفي المقال القادم نواصل معاً فتح صندوق شاهندة لنعرف كيف وهبت حياتها لانتزاع حقوق الفلاحين والعمال والبسطاء.. وكيف صنعت أسطورتها التي جعلتها تستحق وحدها، وعن جدارة لقب «أم المصريين»..