في عام 1969 عدت من المدرسة للبيت سيرا علي الأقدام، لمسافة سبع محطات لمترو مصر الجديدة،كانت دموعي تبلل المريلة الكاروهات الأزرق في أبيض، والتي ارتديتها، غصبا، حين اضطررت لدخول مدرسة «خاصة»، لظرف انتقال مفاجئ للأسرة، علي وعد بعودتي للمريلة «التيل نادية» ومدرستي الحكومية القديمة بأسرع وقت ممكن!كانت المدرسة «الخاصة» أيامها «عارا»، لايدخلها إلا «الخايبين»! صادفني أخواي في الطريق: «إيه النتيجة؟» بوجه مكفهر محتقن لم أرد، وأشحت بيدي يأسا، أعادوا السؤال مذهولين، فأختهم الأولي علي مدرستها لايمكن أن ترسب في الشهادة الابتدائية! حين أجبتهما بصوت مختنق:» جبت 95%»، انفجرا في الضحك: «وزعلانة؟!»، في البيت انضمت لهما أمي وتعالت نبرة السخرية، كان الأخوان قد اعتادا الرسوب؛ أحدهما للمرة الرابعة، والثاني للخامسة في الثانوية العامة، ويبدو أن سخرية أمي، غير المعتادة، من ابنتها المتفوقة، كانت في ذلك اليوم نوعا من التأنيب المبطن للأخوين، حين قال لي أحدهما مازحا: «ولايهمك حاستناك في الثانوية العامة»، فتحسرت أمي علي «خلفة الصبيان» ورفعت يديها بالدعاء: «يارب مارزقتنيش كلهم بنات ليه؟!» الوحيد الذي أخذ الأمر بجدية كان أبي، مدرس الرياضيات الشهير في المدارس الإعدادية، لم تكن شهرته نابعة من «الدروس الخصوصية»، بل من تمكنه من مادته، فماأندر الفرص التي كان يمنحها القدر له، وللأسرة، لإعطاء درس خصوصي»للعيال الخايبين»! كنت قد شكوت لأبي أنني سمعت أن المدرسة التي تمتحن فيها ابنة مدرس الإنجليزي، يأخذ مراقبوها، ورقة الإجابة من الابنة «الخايبة»، ويمنحونها ورقة بها الإجابات النموذجية، ورغم تأكيدي لأبي أنني أسمع هذا كل يوم، لم يعره انتباها، بل إنه وبخني ذات مرة: «أنت عايزة حجة وخلاص عشان ماتطلعيش الأولي»؟! في اليوم المشئوم لظهور النتيجة احتلت ابنة مدرس الإنجليزي مرتبة: الأولي، بمجموع 96%، ووقفت تتلقي التهنئة من المدرسات والناظرة، ولم يقتصر القهر علي ذلك، بل إن الناظرة نظرت إلي باستهانة وقالت: «وإحنا اللي افتكرنا أنك حتطلعي الأولي علي الجمهورية!» وعدني أبي أن يأخذ لي حقي، ويبدو أن غضبه كان مزدوجا؛ غضب من أجلي، ومن منافسة مدرس الإنجليزي له أيضا، فلم أعهده غاضبا إلي حد أن يسهر طوال الليل، في الصباح أخذني من يدي وأوقفني خارج باب حجرة «أبلة الناظرة» (لم نكن نعرف كلمة ميس ومستر أيامها)، ودخل إليها، سمعت نداءها بعد قليل فدخلت مطاطئة رأسي، لكنها احتضنتني وعاتبتني لأنني لم أخبرها بالحقيقة، وبصوت جهوري قالت: «ولايهمك كأنك الأولي وحنبعت لك شهادة تقدير»، عدت ممسكة بيد أبي بشيء من الرضاء، وإن لم يكن مكتملا، وهو يشرح لي مدي صعوبة التحقيق في الأمر الآن، وأنه أخطأ في حقي حين لم يأخذ الشكوي أيام الامتحانات بالجدية اللازمة، ولأن الفارق بين مجموعي ومجاميع أبناء الجيران كان مهولا، تم إغراقي في بحر من المشاعر الدافئة والتباهي والتهاني، فذاب القهر. هل ذاب فعلا؟! لاأظن، فهاأنذا أكتب عن الحادثة البعيدة، وأنا أقترب من نهاية خدمتي بالتعليم للأسف، وبعدما يقرب من خمسين عاما لم أزل أتحدث عن «الغش» في الامتحانات، كممارسة تتغير تقنياتها، فتصبح «تسريبا» للامتحانات علي الصفحات الإلكترونية، أو غشا جماعيا. خمسون عاما تغير فيها العالم، ولم يتغير التعليم في مصر، بل لم يوضع حتي كأولوية قصوي للدولة! صرنا نري الأساتذة وهم يرقصون ويلحنون المواد التعليمية علي أنغام الأغاني الشعبية، ولا ألومهم، فمناهج التعليم المعتمدة علي الحفظ والتلقين يليق بها الرقص كي ينبعث في جهامتها شيء من البهجة للأسف! راقبوا ابتسامات الطلاب وهم يتلقون المناهج الراقصة، راقبوا «التكالب» علي الامتحانات «المسربة»، رغم الدروس الخصوصية، كي تعرفوا أن التعليم قد انضم لقافلة «التكاتك»، وثقافتها، وأننا نزرع الفساد، وغياب العدالة، في الأرض نفسها التي نزرع فيها سنابل القمح، ونحصدها، ويأسنا من التعليم معا!