نتعلم في دراسة النقد أن لكل رسالة طرفين؛ سواء كانت فنا، أو حتي مكالمة تليفونية، الطرف الأول نسميه «المرسل» والثاني: «المتلقي»، ولايمكن أن تفهم رسالة ما إلا إذا فهمنا سياقها، و«شفراتها»، فإذا التقيت صديقا في الطريق فمن الطبيعي- في هذا السياق- أن تقول له: «إزيك»؟ ولن تقول له: «آلو»، وإذا هاتفته قائلا: «برونتو» وليس «آلو»، فلن يفهمك المتلقي، لغرابة الشفرة، إلا إذا كان إيطاليا. المقدمة المختزلة هذه ربما تصلح مدخلا لكي نفهم هذا الضيف «الثقيل»، إجمالا، الذي يزورنا طوال اليوم، يشوش عقولنا، ويقطع علينا استمتاعنا بالأفلام، والمسلسلات، لكنه ليس ثقيلا بالطبع علي من يجنون منه الأرباح، وهذا حقهم، فالإعلان: الرسالة، مُنتَج، شأن أي منتج آخر، من حق من يعملون به أن يربحوا، لكنني «كمتلق» من حقي، أيضا، أن أنعم بخدمة لاتعتمد علي «الفهلوة»، ولاتسبب لي ارتباكا، كمجتمع، في السياقات والشفرات ومنظومة القيم. والمسألة ليست فيما ينشغل به جهاز حماية المستهلك من تضمن الإعلانات لإيحاءات جنسية، فلو تصفح مسؤولوه الفضائيات لهالهم كم الإعلانات التي لاتقتصر علي الإيحاء، وإنما علي علاج أمراض الذكورة بالأعشاب والرقية، بينما يصدح المرتل بآيات القرآن الكريم في الخلفية! أي أنها جريمة مزدوجة يتضاءل أمامها الإيحاء الجنسي خجلا، إذا قورن بالسلالم الخلفية لطب المشعوذين باسم الدين، وهوما لايشغل جهاز حماية المستهلك! ولاتشغله أيضا الضجة التي أثارها إعلان»حلق الحاجة زينب»، وماتعرضت له السيدة الكريمة من انتقاد، وهي لم تفعل شيئا سوي أنها تبرعت بحلقها (الذي لم ترثه عن جدتها كما جاء في الإعلان، وإنما اشترته من مالها الخاص) لصندوق «تحيا مصر» فاستحق تبرعها لقب «أغلي تبرع» والتقي بها رئيس الجمهورية مقبلا رأسها، إلي هنا والحكاية، تقدم قدوة، ممثلة في امرأة مصرية تحب بلدها، ترسل رسالة عميقة لأبناء وطنها، وتعزز من قيمة التضحية، ولو بالقليل. ما الذي فعله المُنتَج الإعلاني الرديء بالرسالة النبيلة؟ لاشيء سوي إفسادها عبر إرباك السياقات، فالسيدة الفاضلة تبرعت «لمصر» لا لرئيس الجمهورية، وإن كان رمزا لها، لكن الإعلان الموجه لصالح صندوق «تحيا مصر» تحول إلي «يحيا رئيس الجمهورية»، عبر الطريقة التي قُدّم بها، ولا أظن أن هذا ماهدف إليه رئيس الجمهورية نفسه بإنشاء الصندوق! تحكي الحاجة زينب «المُصطنعة»، قصة حياتها في الإعلان، الصوت المصاحب له يقلد صوت «أمينة رزق» في المشهد الشهير في فيلم «ناصر 56»، حين قدمت له «توب» جدها الشهيد في حفر قناة السويس، وتلقت العزاء، بعد أن أخذ بثأرها بتأميم القناة. يشحذ الإعلان مشاعر المتلقي، بفجاجة، عبر استعادة التأثيرالعاطفي للمشهد القديم لتظهر «الجدة» المختفية في لاوعي المتلقي:»أمينة رزق»، وينكشف سر ما أضافه الإعلان للقصة الحقيقية، علي سبيل «التوابل» الإعلانية! الحالة المصطنعة التي أضافها تقليد الصوت لاعلاقة لها بالتبرع، فالسياقان مختلفان تماما، لايربطهما إلا ابتزاز مشاعر المتلقي وإرباكها حين يصطدم داخله شعوران وقيمتان لاصلة بينهما. الإعلان، أبيض وأسود، فيما عدا «الحلق» الذهبي الملون، كأنه «القيمة» الوحيدة التي ظلت باقية من حياة امرأة مصرية كافحت وربت أبناءها ورأت أياما حلوة وأياما مرة، لكن هذه الأيام لا قيمة لها لصانعي الإعلان، مايهمهم هو إبراز الحلق الذهبي، الذهب هو القيمة المسلط عليها الضوء، بينما تختفي الحياة «الذهب الأصلي» في ظلال الأبيض والأسود، ثم تنبثق الألوان في الشاشة كلها حين تقابل رئيس الجمهورية، وكأن حياتها بالأبيض والأسود لالون لها، ولاطعم لبهجتها إلا بالحلق ولقاء الرئيس! وبدلا من تعزيز قيمة تضحيات نفوس كبيرة لاتضن علي الوطن بقليل ماتملك، رغم قسوة الحياة، وتعزيز قيمة حياة الكادحين، في هذا الوطن، ترتبك السياقات، فيرتبك تلقي المجتمع للرسالة، لالشيء إلا لرداءة المنتج، واستخفافه، تماما كما يرتبك أمام تناقض «دليفر»» توصيل البحر للتجمع، و«كوفرتة الأسمرات»!
(وللحديث بقية).