كنوز| الشناوي يروي قسوة الحرمان في حياة أنور وجدي

كامل الشناوي
كامل الشناوي

69 عاما مضت علي رحيل أنور وجدي فتي الشاشة!الأول ونجم نجوم عصره  الذي لفظ انفاسه في مستشفي بأستكهولم يوم 14 مايو عام 1955 بعد صراع مرير مع المرض ، وقالت زوجته ليلي فوزي التي كانت ترافقه في رحلة علاجه بالخارج أنه أصيب بالعمي  قبل رحيله بثلاثة أيام !! 
حكاية نجم النجوم أنور وجدي من أغرب حكايات الإنسان مع القدر ، عاني لم يعانيه أحد.

كان لا يجد اللقمة التي يأكلها بعد ان طرده والده من البيت ، ذاق المر والفقر وعمل في فرقة يوسف وهبي بك بقرش في الليلة ، وتمني  ان يعطيه الله الشهرة والمال علي حساب الصحة ، ولبي له الله ما تمني فوصل لقمة النجوم والثراء الذي كان يتمناه ، وداهمه مرض غامض وهو في عز مجده ،  تمني ان يأخذ الله كل ثروته ويعيد إليه صحته ، لكنه مات بعد معاناة بعيدا عن الوطن  ، ويروي  الشاعر الكبير كامل الشناوي  مشهد النهاية في حياة نجم النجوم  قائلا : 

كنتُ في طريقي إلى دار أحد أصدقائي في الزمالك، وكان معي الفنان محمد عبد الوهاب ، فأشار إلى «فيلا» أنيقة وقال لي : هذه هي «الفيلا» التي كان المرحوم أنور وجدي قد اشتراها قبيل وفاته وأعَدَّها لمسكنه، وقد مات — رحمه الله — قبل أن تطأها قدماه! وفي المساء قابلتُ الأستاذَ جليل البنداري أمام وزارة الأوقاف، وكان يحمل ورقة وقلمًا، فلما رآني أخفَى الورقةَ في جيبه وصافحني بيده، وسألته عن الورق الذي أخفاه، وهل يتضمن أغنية جديدة، أو قصة سينمائية، أو عقدًا بينه وبين فنانين أو مقالًا صحفيًّا؟ فجليل البنداري مؤلِّف أغاني وقصصي ومنتج سينمائي ومحرر في دار «أخبار اليوم»، وانفتح فم جليل عن ابتسامةٍ أو تكشيرة، لا أدري! فمن العسير أن تعرف تكشيرة جليل من ابتسامته، إلا إذا قال لك بصراحة : هذه تكشيرة، وهذه ابتسامة!

وفهمتُ ممَّا قاله جليل أنه حزين، وروى لي أنه كان يُسجِّل في الورقة التي دسَّها في جيبه معلوماتٍ عن أنور وجدي.
وأردتُ أن أضيف إلى معلوماته أن الفيلا التي بناها أنور ليسكنها لم يدخل بابها ، فقال لي : بل إن هذه العمارة التي دفع فيها معظم ثروته ، والتي جذبت إليه عيون الحاسدين لم يدخلها وهي كاملة البناء، ثم قال : هل تعلم أن أنور صاحب هذه العمارة وصاحب فيلا الزمالك ، لم يجد بعد موته غرفةً يبيت فيها جثمانه إلى الصباح؟! لقد ظلَّ جثمان أنور فوق الرصيف في حراسة موظف عنده يُدعَى «ليون».

واستطرد يروي القصة : على إثر وصول الطائرة التي تقلُّ جثمان أنور وجدي، وتقلُّ قرينته السيدة ليلى فوزي تجمَّعَ الناس حول ليلى، وتركوا الجثمان في حراسة الخواجة «ليون» ، وجاء أهل أنور وصحبوا ليلى معهم في عربة ، وأخذوا يتحسَّسون جسدها بأيديهم للاطمئنان على صحتها الغالية ، وأكدت لهم ليلى أنها لا تحمل مرضًا ، ولا تحمل لهم حقدًا ، ولا تحمل أي شيء! وذهب ليون بالجثمان إلى مكتب أنور فوجده مغلقًا ، فذهب إلى البيت فوجده مغلقًا ، فبقي مع الجثمان فوق الرصيف حتى الصباح ، ثم استقلَّ عربةً إلى المقابر ، ولم يكد أهل الفقيد يصلون إلى المقبرة ، حتى جاءهم مَن يقول إن مندوب إدارة التركات قد وصل إلى مكتب أنور ، فترك أهلُه المقابِرَ وعادوا إلى المكتب ليقابلوا مندوبَ التركات!
وتولَّى ليون وحده دفْنَ الجثة هو وبعض أصدقاء أنور ممَّن ليس لهم في تركتِه أدنى نصيب!

كم لقي أنور وجدي من قسوة الحرمان ! عاش يكافح الفقر والإخفاق ، فلما أثرى ونجح أخذ يكافح المرض والموت إلى أن مات محرومًا ، العمارة التي شيَّدَها لم يستمتع بها ، والفيلا التي اشتراها لم يسكنها ، والمال الذي جمعه بصحته وحياته لم ينفق منه إلا على مرضه وموته.
ما أعجب حكمة القدر ! عندما نستطيع الحياة لا نجدها، وعندما نجدها لا نستطيعها!

كامل الشناوي من كتاب ( زعماء وفنانون وأدباء )

بكل بجاحة يسرقون رغيفك ..ثم يعطونك منه كسرة .. ثم يأمرونك أن تشكرهم علي كرمهم .. يا لوقحتهم !! 

غسان كنفاني
 

عروسة للإيجار 

بقلم : أبو السعود الأبياري

فى عام 1946 كانت أزمة الإسكان على أشدها، القاهرة تختنق بساكنيها ،الوافدون عليها يحتلون مبانيها الجديدة بحيث أصبح أصحاب البيوت هم أصحاب السعادة ، كنت أبحث عن شقة متسعة بدلا من التى ضاقت علينا ، وكانت تقع في بيت أشبه بعجوز متصابى  مدهون بطلاء أبيض لا يخفى التجاعيد التي تهدده بالإنهيار، ولهذا ظللت ثلاثة أيام أبحث عن الشقة المرادة حتى وصلت للعباسية ووجدت عمارة عليها اللافتة الحبيبة شقة للإيجار! 

اندفعت إلى البواب فابتسم في وجهي ابتسامة من يريد "السمسرة" أولا ، وقال أن من حسن حظى أن صاحب البيت يسكن في الطابق الأخير، صعدت إليه وطرقت الباب فظهرت فتاة صبيحة الوجه حلوة التقاطيع ، وسألتها " السيد .. موجود ؟" ، فأجابت في حياء" ايوه .. أتفضل " تفضلت في حجرة صالون واسعة انتظارا لصاحب البيت ، نظرت للحوائط فوجدت صورا تثير الضحك لرجل له شارب تقف عليه مملكة الطيور، وسيدة ذات وزن يملأ حجرة ، وشاب تشع من عينيه نظرات «عشماوية» نسبة الى عشماوى منفذ الاعدامات .

فتح الباب ودخل الرجل وقدرت ان صورته أخذت له وهو مريض ، لأن حجمه تضاعف عما رأيته في الصورة ، وبعد السلامات والطيبات قلت له : "ممکن اشوفها " فضحك وقال : " أهو انتم کده يا شباب ، دايما مستعجلين، أطمن كل اللي شافوها قالوا أنها كويسة " فقلت مجاملا " كفاية أنها من وشك " ، فقال " ربنا يسترك يابني ويهنيك بيها " ، وفتح الباب ودخلت الزوجة ترحب بی وهى تقول " والله المعلم شكر في حضرتك قوي ، وده يوم المني يابني ".

فقلت " الله يحفظك بس أنا مستعجل ".

فقالت " مش لما نشرب الشربات الأول " ، واستطردت قائلة " دى صغيرة وحلوة ومحندقه ، وحاتريحك خالص " ، فقلت " والله ياهانم كفاية اني حاتعامل مع ناس محترمة زيكم " . 

فقاطعتنى قائلة " انت تقدر تسأل على عيلة المعلم ، حسب ونسب " ، وفجأة فتح الباب ودخلت الفتاة التى استبدلت ثيابها تحمل صينية عليها ثلاثة أكواب شربات ، وكان وجه والدها ووالدتها ينطق بالفرح، وقدمت الفتاة كوب الشربات قائلة " اتفضل" ، فقلت لها " نقدم لك الشربات وانت عروسة" ، ضحك الأب والأم ، واحتسيت كوب الشربات ثم نظرت لساعتي وقلت للمعلم : " افتكر دلوقت أقدر أشوفها .. هى في أنهى دور بالعمارة ؟ " ، فصاح المعلم في دهشة " دور إيه ..

ماهي قدامك" ، وأهتز شاربه ووضعت زوجته يديها في خاصرتيها وهى تقول " انت جای تشوف ايه يا ادلعدی؟ " ، فقلت " الشقة ياهانم" ، فصرخت في وجهي " شقة في عينك يا قليل الحيا .. ياحرامي العرايس" ، بدأت أرتجف وأدركت ان سوء الفهم الذي حدث قد يغتفر عند أناس يفهمون الأمور ، أما المعلم وحرمه فلا يمكن أن يغفرا لي ، فقلت للمعلم " والله البواب قال لي أن عندكم شقة فاضية فطلعت أشوفها " ، ازداد غضبه وهو يقول" وماقلتش ليه  كده من الأول " ! ، بدأ العرق يتصبب من جبيني ، وانسحبت الفتاة من الحجرة مولولة ، ولحقتها أمها وهي تقول "معلهش یابننی .. کسر بخاطرك ربنا يكسر رقبته " .

أحمرت عينا المعلم وهو يقول " طيب انا حافرجك يا أفندى" ،خرج من الحجرة كالعاصفة وتوقعت انه سیعود بساطور "یوضبنى" به، وكان الصالون مفتوحا ، وفى ثوانى كنت أقفز الدرج كما الكونجر، ووجدت البواب يبتسم أبتسامة بلهاء وهو يقول : "ان شاء الله تكون عجبتك يابيه" ، قفزت بداخل أول تاكسى قابلنى ،وأستوحيت من هذه القصة  فيلم "عقبال البكاري" الذي اعتبره واحدا من أنجح الأفلام التي كتبتها في حياتي.

"الكواكب" 8 مايو 1956

أبو الواقعية السينمائية في مرآة تلميذه لينين الرملى 

في العاشر من مايو الجارى مرت علينا ذكرى ميلاد أبو الواقعية السينمائية صلاح أبو سيف ، صفحة " كنوز " تضيئ 109 شمعة للزملكاوى العتيد الذى خرج للحوارى والشوارع والأزقة ليرصد حياة المهمشين بواقعية رمزية عميقة المضامين، عايشناها في " القاهرة 30 - الفتوة - شباب امرأة - بداية ونهاية - ريا وسكينة - السقا مات - الزوجة الثانية - لا أنام - بين السماء والأرض - لك يوم يا ظالم " ، 40 فيلما من كنوز السينما المصرية قدمها خلال 50 عاما من بينها 11 فيلما ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصرى، 50 عاما أعطاها للسينما مخرجا ومدرسا بمعهد السينما، تتلمذ على يديه عدد كبير من المخرجين الذين تأثروا بمدرسته ، وكباركتاب القصة والسيناريو والحوار، من بينهم تلميذه لينين الرملي الذى يقدم قراءة لأستاذه في مقال نشره بمجلة " الهلال " .. يقول فيه : 

كان أول مخرج تعاملت معه هو الهرم السينمائي صلاح أبو سيف في خمس مشروعات سينمائية ظهر منهم ثلاثة ، كنت خريجا حديثا في معهد الفنون المسرحية " قسم النقد وأدب المسرح " وكان أستاذى صلاح أبو سيف شاهد بعض أعمالي التليفزيونية ، كانت لديه فكره لفيلم باسم "مدرسة الجنس" يعتزم إنتاجه وإخراجه واختارني لأشاركه كتابة السيناريو وأكتب الحوار ، كان عمره ضعف عمري لكنه غاية في التواضع ، كانت الجلسات تتم في منزلي، يناقشني بهدوء وصبر حول الموضوع الذي يعالج المفاهيم الخاطئة التى تسبب تعاسة الناس في موضوع الجنس ، رأيته يشترى مراجع الموضوع ويستشير الأطباء ويأتي بالفتاوى من الشيوخ ، وكأنه يعد لرسالة دكتوراه ، لكنه عندما هم بدخول الأستوديو اصطدم بحائط الرقابة التي رفضت الفيلم بأكمله ، كان الخطأ الأول أنه سمي الفيلم " مدرسة الجنس" وكلمة "الجنس" علي أفيش في الشوارع مرفوضة علي أعتبار أن حياتنا تخلو من الجنس تماما !  

كان الفيلم يتعرض لمشكلة فشل العلاقة الجنسية بين زوجين نتيجة اختلاف تربية كل من الرجل والمرأة في مجتمعنا، ولم يكن به أية مشاهد عرى لأننا قصدنا أن نخاطب عقل الجمهور لا إثارة غرائزه ، وكان التركيز على مناقشة المشكلة من وجهة نظر علميه ، وكانت هذه غلطته الثانية !
ظل يعيد تقديم السيناريو للرقابة كلما تغير مديرها وظلت الرقابة ترفض لخمس وعشرين عاما حتى أنه عرض على فكرة نشر السيناريو في كتاب لكن حالت ظروف انشغالي دون إعداده. وخلال ذلك صرحت الرقابة بعشرات الأفلام التي عرضت مواقف جنسية عارية مثيرة لكن ميزتها أنها لم تناقش أي شيء ! وعندما وافقت الرقابة تم عرض الفيلم بنفس السيناريو عام ٢٠٠٢ باسم "النعامة والطاووس".

من إخراج ابنه لأن الأستاذ صلاح كان قد تقاعد ثم توفي. وبعد عشر سنوات جاءني الأستاذ صلاح أبو سيف بفكرة فيلم " البداية" وعملنا لمدة عام حتى تمت كتابته وانتظر 4 أعوام حتى يجد المنتج الذي يجرؤ على إنتاجه ، وقبل بدء التصوير بأيام كنت في الإسكندرية مع إحدى مسرحياتي وفوجئت به يأتي ليعرض على بعض تعديلات خطرت له ، وإذا به يطلب شطب جمله وإضافة كلمه ثم حذف حرف "واو" من كلمه أخرى ، ذهلت وسألته كيف تقطع هذه المسافة وكان يمكن أن تخبرني بهذه التغييرات تليفونيا أو تفعلها دون الرجوع إلي؟ رد بهدوء كان قائلا " كان لابد ان نتناقش " !

ظهر الفيلم في عام ١٩٨٦ فكتبت مذيعه تليفزيونية نالت الدكتوراه في السينما تنصح المخرج أن يعود إلى أفلامه الواقعية ولا يرتكب مثل هذه الأفلام الكوميدية التافهة مرة ثانية ، وفي العرض الخاص سأل كاتب صحفي شهير المخرج هل استعنت بطائرة هليكوبتر عسكرية تنقذ شخصيات الفيلم لتوحي بأن مشاكلنا تحتاج إلي حل عسكري؟! ورد الرجل بأدب أنه لا توجد طائرات هليكوبتر إلا عند الجيش وقد دفع الإنتاج ثمن إيجارها ، ذهبت إلي اجتماع جمعية الفيلم الأهلية التي ستعلن جوائزها متوقعا أن يفوز "البداية" بجائزة في أي فرع ..ولم يحدث ! 

بعد شهور نال الفيلم جائزة أحسن فيلم كوميدي في رأي الجمهور في مهرجان "فيفاي" للأفلام الكوميدية بسويسرا ، اندهشت فالجمهور شاهده بترجمة فرنسية على الشاشة ، وبالتالي فاتهم معاني كثيرة تثير الضحك ولكنها تستعصي علي الترجمة ، وبما أنهم ضحكوا أكثر مما ضحكوا في الأفلام الأمريكية والأوربية فمعني هذا أنهم فهموا ما يكفي ليتجاوزوا التباين الثقافي بيننا وبينهم.

كان عندي قصة عن مؤسسة للمكفوفين تستغل إدارتها عاهة نزلائها فتسرق حقوقهم بدلا من أن تخدمهم وتحمس الأستاذ صلاح لإخراجها ، رحنا نزور أطباء العيون، وأخذني في جولات لزيارة معاهد ومؤسسات المكفوفين نلتقي بهم وبمديريها لندرس الموضوع ، ثم فوجئت به يعتذر عن إخراج الفيلم ، قال برقه أنه لم يلحظ أن أي إدارة تسئ للنزلاء أو تستغل عاهتهم ولذلك لا يطاوعه ضميره أن يظلمهم ، حاولت إقناعه أن فكرتي لا تقصد عملا واقعيا يعالج مشكلة المكفوفين وإنما الاستغلال بوجه عام ، وعاهة العمى هنا تعادل الجهل بما يدور حولهم وهو ما يمكن أن يحدث للمبصرين، وعندما لم يقتنع عالجت الفكرة كمسرحية فظهرت باسم " وجهة نظر" وكتبت له إهداء المسرحية المطبوعة في كتاب وحضر العرض وظل يصفق بإعجاب .

استمر التعاون بيننا فعرض على فكره كتبها من عشرات السنين باسم "السيد كاف" وبعد أن كتبتها انتظرنا طويلا فلم نعثر على منتج يتحمس لفيلم بلا نجوم فالبطل الحقيقي "كلب "، وأقنعته أن ينتجها التليفزيون وكان الفيلم هو أخر ما أخرجه للسينما، ثم عملنا معا للمرة الخامسة عندما أقترح علي أن أكتب قصة وسيناريو لفيلم يتناول مشاكل البيئة ، لكنه فشل في العثور على منتج يتبنى العمل وسط أزمة السينما، ورأيته وقد كبر يائسا لأول مره يفكر في الاعتزال !

لقد تعاملت مع نخبه غير قليلة من مخرجي السينما والمسرح والتليفزيون وأستطيع أن أقول أن الأستاذ صلاح أبو سيف لم يكن رائدا في مجاله فقط ، أو مخرجا كبيرا ، لكنه كان نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه المخرج، ولهذا اعتبر نفسي محظوظا لأني عرفته وأنا ابدأ أولى خطواتي فى الكتابة ، واشعر أنى اشد الناس إحساسا بالبؤس والتعاسة لأنه لن تتاح لي ثانية فرصه أن أواصل معه التفكير والحلم بأفلام كثيرة ، لا يهمنا أن تظهر أو لا تظهر، ترفضها رقابة ضيقة الأفق أو توافق، يمتدحها النقاد آو يسخروا منها، لقد كان فارق العمر بيننا كبيرا، وكان بيننا بعض الاختلافات الفكرية وأحيانا الفنية ، ولكني استمتعت بالعمل معه كما لم استمتع مع أي شخص أخر، كنت أناقشه بحماس الشباب ولم يكن اقل منى حماسا رغم هدوئه ، كنت أنسى انه فى سن أبى وأتعامل معه كزميل عمل، واشعر الآن بأنني صرت يتيما. كان نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه المخرج .


لينين الرملى  مجلة " الهلال " ٥ ديسمبر ٢٠٠٥

كلام الصور : صلاح أبو سيف رائد الواقعية السينمائية - لينين الرملي - جميل راتب وأحمد زكى فى لقطة من فيلم " البداية " الذى جمع بين صلاح أبوسيف وتلميذه لينين الرملى

ماذا فعل أنيس منصور لقلبه ؟!

محمد عبد الوهاب يتساءل : " قل لي عمل لك إيه قلبي " ! ولا أظن أن محمد عبد الوهاب يعرف الإجابة ، لكن أنا أقول له عمل لي إيه قلبي ، فأنا أدرى به ، وأكثر معرفة وأقرب إحساسا وأعمق قلقاً وأرقاً وقرفاً وحزناً ويأساً بعد ذلك.

قل يا قلبي ماذا حدث ؟ فأنا رأيت وفكرت ثم رأيت وأعجبت فقررت ، ولما قررت تجمدت عند هذه الصورة ، وهذا الوجه ، وهذا الشكل ، وهذا الشخص ، هذا ما حدث ويحدث لأي واحد ، وليس هذا كل ما في الحياة وإنما هذه هي بداية الحياة معاً . كانت حياتي قبل ذلك عزوفاً وعزفاً منفرداً ، وكنت أنا المؤلف والملحن والمطرب والجمهور أقول عن نفسي : آه.. وأقول لنفسي الله.. ثم أواجه الدنيا وفي أذني كل الذي همست به لنفسي ، وليس في أذني مكان لكلام آخر ، ولا في عقلي ، ولا في قلبي ، ولا في طول حياتي وعرضها. 

ثم أطلقت عيني في أحوال الناس ، و"فنجلت" أذني ، وعايشت الضوضاء العاطفية والشوشرة العقلية ، وانزويت أفرز الذي أعجبني عن الذي لم يعجبني ! وكنت أنا أول الذين لم يعجبوني فقد استشعرت الهزيمة وواجهت نفسي كعدو لها ! وأنت عندما تختار نفسك عدواً لك فأنت قد اخترت أسوأ الأعداء ، لأنه يسكن تحت جلدك ولا يفارقك لا ليلا ولا نهارا. 

إنه وجع القلب ، وصداع الرأس ، والحيرة بين الشواطئ والوديان ، بين الذئاب والحملان ، ولا بد أن تمضي . فما الحل ؟

ليست هذه مشكلة ، فأنا قررت ، وأنا ملزم ، فالقلب أحب ولا بد من الانتظار طويلا لكي ينفتح قلب آخر، ثم ينفتح قلبان في وقت واحد، ويصب أحدهما في الآخر حتى تتساوى الهموم وتتوازى ، هنا فقط تكون إنساناً عادياً ، أحبَّ ثم صار محبوباً وهذه هي البداية لكل شيء، وبعد ذلك يكبر كل شيء وتختفي براءة الأطفال ونضارة الشباب ، وتستخرج سلاحك السري الوحيد وهو الصبر على الذي تغير في العين وفي الأذن وفي القلب وفي العقل وفي الناس ، فما هذا ؟ 

هذا هو الحب الناضج ، والعقل السليم توأم القلب السليم ، قلبك صار يدق في جسمين ، وعقلك يضيء في رأسين ، وتتواريان في قبر واحد ثم تنفصلان ، واحد في الجنة وواحد في النار.

أنا في النار! أنيس منصور من كتاب " من نفسي "

 

" الأخبار " بريشة " مصطفي حسين "