طوباوية مخيمات الاحتجاج فى الجامعات الأمريكية

احتجاجات الطلبة داخل Mit-  تصوير ناصر الرباط
احتجاجات الطلبة داخل Mit- تصوير ناصر الرباط

ناصر الربَّاط

هناك تاريخ طويل للطوباوية السياسية في الجامعات الأمريكية، ولكن اللحظة الفاصلة، كانت في حركات الاحتجاج ضد حرب فيتنام التى توجت بمصرع أربعة طلاب على يد الحرس الوطنى في جامعة ولاية كنت فى أوهايو قبل ٤٥ عاماً بالضبط في ٤ مايو ١٩٧٠ (أنا أكتب هذا المقال يوم ٤ مايو ٢٠٢٤).

كانت وتيرة التظاهرات الطلابية التى بدأت عام ١٩٦٨، قد تصاعدت إثر إعلان الرئيس ريتشارد نيكسون أنه قد سمح للجيش الأمريكى بتوسيع نطاق عملياته ضد الڤيتكونغ لتشمل كمبوديا، أى أن نيكسون قد سمح بغزو بلد لاعلاقة له بالحرب لكى يتتبع أعداءه هناك. وهو بذلك قد قضى على أى أمل بنهاية قريبة للحرب التى استنزفت طاقات الولايات المتحدة ونخرت فى بنيتها الاجتماعية والأخلاقية، وعاثت خرابًا وتدميرًا فى ڤيتنام. شكل طلاب الجامعات رأس حربة الاحتجاجات ضد الحرب ومثلوا تهديدًا للسلطات فى سيطرتها على الرأى العام وعلى سردية الحرب الظالمة التى كانت تشنها فى ڤيتنام بدون أى وجه حق سوى مواجهة «التهديد الأحمر». 

البعبع الذى استخدمته الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتبرير الحرب الباردة التى قادتها ضد الاتحاد السوفييتى الشيوعى لأكثر من خمسة عقود. حركة الاحتجاج ضد الحرب الطلابية تلك ترافقت مع تغيرات كبيرة فى تفكير وسلوك ووجهات نظر الطلاب الأمريكيين وزملائهم فى الغرب الذين ثاروا عام ١٩٦٨ للانعتاق من التقاليد الجامدة التى حكمت حياتهم ونشاطهم وحرياتهم السياسية والاجتماعية والجنسية.



هذه الحركة عرفت بالحركة الهيپية، وهى قد دعت للحب بدل الحرب (كما كان شعارها المفضل)، وتمثلت مظاهرها فى كسر الشباب الأمريكيين لكل القواعد التى فرضت عليهم واعتناقهم بدل ذلك مجموعة من المفاهيم الثورية الجديدة فى المظهر والملبس والتصرفات والسلوك الجنسى وموسيقى الروك الجديدة والمكيفات من أمثال الحشيش والـLSD. 

هل أقول ما أشبه اليوم بالبارحة؟ لا أظن ذلك هناك بعض أوجه الشبه بين الاحتجاجات الطلابية ضد حرب ڤيتنام واحتجاجات اليوم الطلابية ضد حرب إسرائيل على غزة، ولكن هناك اختلافات كبيرة أيضًا، أهم هذه الاختلافات أن الحرب فى فيتنام كانت حرباً أمريكية على حين أن حرب اليوم حرب إسرائيلية ولو أن للولايات المتحدة دوراً مفصلياً فى سيرورة الحرب على غزة وفى صيرورتها من خلال الدعم المالى والعسكرى والسياسى الذى تقدمه إدارة جو بايدن لحكومة نتانياهو من دون أى تحفظ.

هذا العامل هو فى الحقيقة أساس الاحتجاجات اليوم: لو كانت الحكومة الأمريكية راغبة فعلاً فى وقف حمام الدم فى غزة لأمكنها ذلك ببساطة، ولكن التعنت الصهيو-أمريكى الذى تبديه إدارة بايدن، والذى تعود جذوره لعقود من العمل الدؤوب للوبى الإسرائيلى للتأثير على القرار السياسى الأمريكى خاصة فيما يتعلق بإسرائيل، تجعل أى تغيير حقيقى فى السياسة الأمريكية من دون حركة احتجاج شعبية واسعة مستحيلاً. 




هناك أيضاً الاختلاف الكمي. حركات الستينيات، على الغالب بسبب من ترافقها مع صعود الحركة الهيپية ورفض الشباب الأمريكيين للخدمة العسكرية الإلزامية فى بلاد بعيدة لاتشكل تهديداً حقيقياً لبلادهم، كانت شاملة وعامة لمئات الجامعات ومئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من الطلاب. حركة الاحتجاج المؤيدة لفلسطين اليوم، وعلى الرغم من توسعها مؤخراً ومن وضوحها الأخلاقى وأحقيتها، مازالت نسبياً صغيرة. إذ إن المحتجين المشاركين فى المخيمات الاحتجاجية فى أكثر قليلاً من مئة جامعة أمريكية (هناك على الأقل ثلاثة آلاف جامعة فاعلة فى الولايات المتحدة) لايتجاوزون فى أحسن الأحوال ١٠٪ من عدد الطلاب فى جامعاتهم.

أما بقية الطلاب فهم على الغالب والأعم لا مبالون فيما يجرى فى فلسطين وغزة ومشغولون بدراستهم وحياتهم الاجتماعية ولهوهم. الاستثناء الوحيد هو فى المجموعة الصغيرة، ولكن المنظمة بطريقة هائلة توحى بتدخل خارجى ورؤوس أموال معتبرة، من الطلاب المؤيدين لإسرائيل، من يهود وإسرائيليين وأمريكيين محافظين أو مسيحيين إنجيليين، الذين تسمع الطبقة السياسية ووسائل الإعلام لأصواتهم العالية دوماً متيحةً لهم المنابر الحقيقية والافتراضية مما يوحى بأنهم أكثر تواجداً وفاعلية ًمن عددهم القليل.


 
وهناك أيضاً الاختلاف الثقافي: معظم المحتجين فى الستينيات كانوا بيضاً أمريكيين، أما المحتجون اليوم فهم بغالبيتهم العظمى من أبناء وبنات المهاجرين الجدد السمر، بشكل خاص من العالم العربى وجنوب آسيا، بالإضافة إلى تشكيلة واسعة من الأفارقة والأفارقة-الأمريكيين والآسيويين، طبعاً من دون أن نغفل وجود أعداد لا بأس بها فى مخيمات الاحتجاج اليوم من اليهود والبيض المسيحيين الأمريكيين المتنورين أوالتقدميين الذين تجذبهم فى حركة الاحتجاج عدالتها والظلم المتطاول الذى نال الفلسطينيين على يد إسرائيل من ١٩٤٨ وحتى اليوم.

هذا التجمع المتنوع لمحتجى اليوم يعطى لحركتهم زخماً لم نعهده فى الحركات الطلابية فى العقود الأربعة السابقة التى لم تبلغ قط درجة الاتحاد فى الرؤية وفى الهدف الذى بلغته حركة التأييد لحقوق الفلسطينيين، وبخاصة حقهم فى العيش الكريم والآمن على أرضهم.

وهذا أيضاً مما يصل مابين حركة الاحتجاج من أجل فلسطين وقضايا تقدمية عديدة أخرى بدءا من حرية التعبير والاحتجاج للجميع داخل الجامعة وخارجها وفى وسائل التواصل والإعلام، وانتهاء بحق كل الشعوب فى تقرير مصيرها.

حركة احتجاج اليوم حقيقة فى طريقها لكى تتبوأ مركز الصدارة فى الكفاح التقدمى والمتحرر فى كل الأصعدة، من العمل إلى حرية التعبير وإلى مقاومة السيطرة الرأسمالية المتغولة فى الولايات المتحدة وربما خارجها أيضاً.

هذا هو فى الآن نفسه سبب جاذبيتها المتصاعدة ومبرر الهجوم الوحشى الذى تلاقيه فى وسائل الإعلام الرئيسيية فى الولايات المتحدة، وفى الغرب بشكل عام، ومن قبل إدارات الجامعات والطبقة السياسية وكبار المتمولين، الذين يكونون القاعدة الأساسية لدعم إسرائيل والذين بدأوا يشعرون بالخطر الذى تمثله حركة احتجاج واعية وأخلاقية وغير مهادنة كحركة احتجاج المخيمات.

> > > 
بعد هذه المقارنات المبدئية بين احتجاجات الستينيات واحتجاجات اليوم، أعود إلى التركيز على الخصائص المميزة لاحتجاجات المخيمات اليوم كما أراها عياناً فى MIT وجامعة هارفارد. الملاحظة الأولى هى البراءة أوالطوباوية.

لا أريد من استخدامى لهذين الوصفين أن أقلل من قيمة الوعى السياسى والتنظيمى الذى تبديه الحركة الطلابية والتى عاينتها فى أكثر من حالة بين طلاب من مشارب وأصول مختلفة.

ولكن ما أود أن أبرزه فى ملاحظتى هذه هو براءة هؤلاء الطلاب الأخلاقية، الذين لم يتلوثوا بعد بحسابات الربح والخسارة التى تحكم عالم الكبار والتى تحول الأخلاق لديهم من معيار مطلق إلى آخر نسبى تبرر فيه الغاية المنفعية أى وسيلة.

الطلاب المحتجون يغامرون بحياتهم ومستقبلهم العلمى والمهنى فى سبيل قضية بعيدة عنهم ولا تربط الكثير منهم بها سوى ذكريات الأهل أو الإحساس النقى بالعدل الذى تشربوه فى تعليمهم.

الطلاب المحتجون يكافحون فى سبيل شعب تخلى عنه إخوته من الشعوب العربية والإسلامية وفى سبيل قضية تخلى عنها حتى بعضا من أبنائها سعياً وراء منافع سهلة وراحة بال صعبة المنال.

الطلاب المحتجون يحلمون بعالم أفضل، ويسعون إلى تحقيقه من خلال احتجاجهم وسرديتهم التى يحاولون نشرها بكافة الطرق المتاحة لهم (وسائل الإعلام الأمريكية المهمينة لم تمنحهم أى مساحة للتعبير ولا تقابل أىاً منهم مما يرسخ الاعتقاد بأنها كلها تسمع لأوامر سيد واحد).

الطلاب المحتجون يخاطرون بسمعتهم وربما بأمنهم وحياتهم لكى يطالبوا بقدر من المسئولية الأخلاقية من جامعاتهم التى تمول مشاريع أبحاث للجيش الإسرائيلى (كما فى حالة MIT)، أوالتى تستثمر أموالها فى شركات إسرائيلية، خاصة منها التى تستنزف اقتصاد الأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة الغربية (كما فى حالة جامعة كولومبيا و UCLA).

من هنا يتبدى الوعى التنظيمى لدى هؤلاء الطلاب المحتجين، فهم قد بحثوا فى مصادر التمويل والبحث فى جامعاتهم وفى منابع ومواقع الاستثمار المالى الذى تملكه هذه الجامعات وتوصلوا إلى صورة متكاملة للتشابك الكبير بين المصالح المالية الرأسمالية والعقيدة الصهيونية أو الكولونيالية الجديدة التى تميز الطبقة الحاكمة فى الولايات المتحدة (أصحاب رؤوس الأموال والشركات العابرة للقارات وصناديق الاستثمار هائلة الحجم التى تسيطر على وسائل الإنتاج والإعلام والترفيه وعلى الطبقة السياسية الفاعلة فى البلاد من كلا الحزبين الديمقراطى والجمهوري).

وقد توافق المحتجون على التركيز فى طلباتهم على فك الاشتباك بين جامعاتهم، والتى يريدونها صروحاً علمية أكاديمية ملتزمة، وبين المتمولين النافذين وشركات الاستثمار الضخمة الذين أصبح لهم فى العقود الأخيرة دور أساسى وعميق فى إدارة وتوجيه الجامعات مما أفقد هذه الجامعات استقلاليتها وحريتها فى البحث والتعليم.. طبعاً يبقى أساس الاحتجاجات هو الهجوم الوحشى الإسرائيلى على غزة الذى دمر البلاد والعباد، فكل المحتجين فى كافة الجامعات المنتفضة يطالبون بالوقف الفورى والنافذ لإطلاق النار وخروج الجيش الإسرائيلى من غزة، ولكن لكل من جماعات الطلاب المحتجين طلبات خاصة بجامعاتهم وبدرجة ارتهانها لرؤوس الأموال عديمة المسؤولية والتى تعمل فى المناطق الرمادية فى القانون الدولى (كما فى الاستثمار فى شركات تعمل فى المستوطنات اللا قانونية فى الضفة الغربية). 

كما فى وعيهم السياسى والتنظيمى الواضح فى ترتيب مطالبهم من جامعاتهم، فقد أثبت هؤلاء الطلاب المحتجون أيضاً إنسانيتهم فى التحامهم بقضية عادلة ولكن مهملة من أكثر الشعوب قرباً لها ومن المجتمع العالمى الغربى المهيمن، بدون كبير انشغال بالثمن الذى سيتطلبه منهم التزامهم هذا، حتى أن غالبيتهم لم يفكروا حتى بالتحدث إلى محام لفهم المخاطر القانونية التى تحيط بهم، وهم أيضاً قد أثبتوا فى تلاحمهم الاحتجاجى وفى بنائهم لمخيمات احتجاجهم فى قلب جامعاتهم تنظيمهم وإنسانيتهم فى آن بطريقة تذكر ربما بالكومونات الطوباوية فى حركات احتجاج سابقة اشتراكية وڤابية، فمخيم MIT على سبيل المثال فراغ جميل وهادئ وودود، فيه طاولة طعام مشتركة يضع الطلاب عليها كل ما يأتيهم من تموين وأكل ويتشاركون بها، وفيه خيم للجميع الذين يرغبون بقضاء الليل فى المخيم، وفيه طاولات للطلاب لكى يعملوا إما على فصولهم وامتحاناتهم التى ستبدأ بعد أيام أو على بحثهم لأجل مطالبهم أو على رسم وتلوين الشعارات الكثيرة التى يعلقونها على السياج الذى أقامته حول مخيمهم إدارة الجامعة.

بل إنهم قد بدأوا بزراعة أصص أعشاب لتطييب طعامهم وربما كرمز لأحرف اسم تجمعهم: مخيم العلماء ضد الإبادة الجماعية (SAGE: Scientists Against Genocide Encampment)، بما أن كلمة Sage تعنى أيضاً نبات المريمية أو الشيح.

فهؤلاء الطلاب لايخلون من روح الدعابة والمرح على الرغم من أن التزامهم بقضية كبيرة ربما أثر سلباً على مستقبلهم كأفراد.

ولكنهم كجماعة يخطون درباً لعالم مختلف: عالم أكثر عدالة وأكثر إنسانية.