من فعل ثقافي إلى جولة ملاكمة!

ياسر عبدالحافظ
ياسر عبدالحافظ

شهدت القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية، حدثًا ثقافيًا مهمًا كان من المنتظر أن يسفر عن طروحات جوهرية وجذرية في حال اكتماله، خاصة أنه ينطلق من مشروع طه حسين الفكري، ليطرح عبره ما يخص الحاضر من أسئلة، غير أنه لسبب غير مفهوم، حاد المؤتمر الأول لمؤسسة «تكوين الفكر العربي»، عن هدفه، وبدلًا من فتح ملفات وقضايا ملحة لها علاقة بالتراث الإسلامى والدينى بشكل عام، إذا بالأمر يتحول إلى ساحة للاتهامات والتشكيك.

المؤتمر الذى أقيم تحت عنوان: «خمسون عامًا على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟» لم يكن ليخرج إلى العلن بالشكل الذى خرج به لولا أن د. يوسف زيدان مارس هوايته المعتادة فى إثارة الرأى العام، تلك الهواية التى يمارسها باحتراف وهدوء من درس طباع هذا المجتمع بدرجة كافية تسمح له أن يغضبه أو يثير استفزازه متى ما أراد، يفعل هذا بالكثير من اللا مبالاة بما يمكن أن ينتج عن تصرفاته وأقواله، بل إنه يمضى خطوات أبعد بتوجيه الانتقادات لمخالفيه فى الرأي، ليبدو كمن يسحب خصومًا عشوائيين، ليسوا أندادًا له، إلى حلبة ملاكمة، يستغلهم كأكياس تدريب ولا يتركهم قبل أن يسقطهم أرضًا. 



وإذا كان البعض يتفق مع أسلوب زيدان باعتباره إحدى طرق حث الجمهور على إعادة التفكير فى المسلمات، إلا أن ضربته هذه المرة لم يمكن لأحد تصنيفها وفق هذا المنطق، وهو ما اتضح من ردود الأفعال المجمعة على رفض كلماته، على عكس المرات السابقة التى انقسم فيها الناس بين مؤيد ومعارض، بين من يقول بحرية الرأى والتعبير وبين من يحذر من هدم الرموز، بين من يرى أنه يمارس فعل التفكير الحر بشجاعة وبين من يتهمه بالاستعراضية والرغبة فى البقاء دومًا فى بؤرة الضوء.

لم يعلم الكثيرون عن مؤتمر مؤسسة «تكوين الفكر العربي» إلا عندما انفجرت الأزمة، كان ليمر وقد اقتصرت المناقشات حوله على المهتمين من أهل الثقافة والفكر والمتخصصين فى دراسات الأديان، وهو الأمر الطبيعى غير أن زيدان حول «تكوين» ومجلس أمنائها إلى خبر الساعة على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى بعد سؤال عجيب وجهه إلى الكاتب والباحث الباحث السورى فراس السواح:
أنت أهم أم طه حسين؟
ليجيبه السواح بعد لحظات من التردد:
لا، أنا أهم وأنت أهم.
وصمت السواح كأنما يعيد التفكير فيما قاله. فيما بعد سيتبين لنا أن إجابته كانت عفوية وردًا على سؤال باغته، هذا ما أكده فى مقطع فيديو قصير جمعه بزيدان ضمن محاولات تهدئة ردود الفعل الغاضبة، نفى السواح تهمة تعمد الإساءة لطه حسين واصفًا نفسه بأنه «كاتب عاقل» ومن هذه صفته لن يقدم على ما اتهمه به الجمهور موجهًا عتابًا إلى زيدان، صاحب السؤال: «أنت من ورطنا»!

لماذا أثار السؤال وإجابته كل تلك التداعيات؟ تستحق حالة الغضب العامة التى ثارت بعض التوقف والدراسة، أتنادى الناس انتصارًا لطه حسين؟ لم يسحب زيدان خصومًا قلائل إلى حلبة الملاكمة كما فى المرات السابقة بل كان ثمة ما يشبه السباق للتحلق حولها استعدادًا للنزال. أناس من أطياف مختلفة ومتنوعة، ومن معسكرات معادية لبعضها، اليسارى واليمينى والإسلامى واللا ديني، سقطت الخلافات، أو تمت تنحيتها مؤقتًا فى سبيل هدف واحد هو يوسف زيدان الذى وجد نفسه وسط أزمة تضخمت بصورة تنذر بالخطر حتى أنه وصف ردود الفعل على الحدث، فى مداخلة هاتفية لأحد البرامج، بأنها تخطت الحد، من دون أن نفهم ما الحد الذى كان يتوقعه أو من الذى عليه وضعه.

سعى زيدان، ومعه أطراف أخرى من مجلس أمناء المؤسسة الوليدة (مكون من: إسلام بحيري. إبراهيم عيسى. يوسف زيدان. فراس السواح. نايلة أبى نادر. ألفة يوسف) إلى احتواء الغضب سواء عبر تصريحات إعلامية، أو منشورات وردود على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن المحاولات لم يكن لها من فائدة إلا إبقاء الأمر مثارًا ومتداولًا لفترة أطول، ربما لأن استراتيجية الدفاع لجأت إلى التلاعب فقد تمسك زيدان، ومعه بشكل أساسى فاطمة ناعوت وإسلام بحيري، بترديد أن ما جرى لم يكن إلا مزاحًا وجملة عابرة وسط سياق كامل احتفى بالعميد. 

سعى زيدان لمحو الكلمات التى بناها فوق جملة السواح «أنا أهم وأنت أهم» تناسى فى ردوده على مهاجميه أنه استرسل مؤكدًا على مغزى سؤاله للسواح برأى كشف به عن نمط تفكير هو جوهر المشكلة كلها ولهذا فقد تم حذف مقطع الفيديو الذى تسبب فى الأزمة لكن بعد أن سجل آلافاً من المشاهدات التى دونت ما قاله زيدان وعملت على تفنيده: «طه حسين كان بيطبع ألف نسخة من كتاب من كتبه ويقعد عشر سنين على ما تتوزع، وانت بتطلع كتاب من كتبك ويتوزع بسرعة، يبقى أنت أهم من طه حسين»!

لكن المطلوب منا الآن ليس الرد على ما قاله يوسف زيدان بل نسيانه والاقتناع بأن ما جرى لم يكن سوى مزحة، وإن لم نفعل فإننا سنكون واقعين فى دائرة «خبل عام» كما وصف صاحب «عزازيل» المشهد مع خيرى رمضان منتقلًا من الدفاع إلى الهجوم، من تلقى الضربات إلى صدها وتوجيه أخرى محاولًا إيجاد نقطة التوازن داخل حلبة الملاكمة التى اعتاد الخروج منها بالمكاسب.

لكننا إن صدقنا أن ما حدث ليس إلا مزحة (سيكون علينا لاحقًا أن نشرح للجمهور العام أن الطريقة التى يمزح بها المثقفون مختلفة قليلًا عن المعتاد، وأنهم فى مزاحهم يعتمدون بشكل أساسى على عقد المقارنات لإثبات من الأهم بينهم!) وإن تناسينا ما قيل حول نسب المبيعات، لن نتمكن من ترميم الضرر الذى أحدثته الكلمات بفعل ثقافى جاد متمثل فى مؤسسة «تكوين الفكر العربي» وإثارة الشكوك حوله والإساءة إلى القائمين والمشاركين فيه.

ردًا على الهجوم قال زيدان فى تصريحاته الصحفية إنه ومع مجلس أمناء «تكوين الفكر العربي» وفريق العمل يعدون لهذا الأمر منذ عام ونصف العام، وأن هذه الحملة تنسف ذلك الجهد، وهو للحق يبدو صادقًا هنا، فمن يتصفح الموقع والمواد التى تم نشرها يتضح له أن ثمة عملًا ضخمًا تم بذله، وأن المشروع واسع ويضم أساتذة وباحثين من دول عدة، وأنه يصلح كنقطة انطلاق لأى باحث متخصص فى المجال، وبالطبع للقراء المهتمين بشكل مغاير من المعرفة شرط التمتع بالانفتاح والملكات العقلية المناسبة التى تقود صاحبها عبر الدروب المتشابكة للأفكار من دون الشعور بخوف أو تهديد لمعتقداته. 

وما يقال عن أهمية الموقع لا بد أن يقال مثله أيضًا على المؤتمر، فعلى الرغم من أن أبحاثه لم تنشر بعد، والدعوات لم توجه إلا لمجموعة محددة من الأسماء فإن ما علمناه عما دار داخله من مناقشات وما ألقى من أبحاث يشى بأنه كان مؤتمرًا واعدًا تبنى الدراسات المقدمة إليه فوق المعطيات التى تركها العميد ولا تقطع الصلة معها، مثلما تبنى فوق التراث ولا تقطع الصلة معه، وذلك على العكس تمامًا من كل ما أثير حوله من شكوك أثارها الأعداء التقليديون للفكر الحر واستغلوا فى ذلك الأزمة التى أثارتها كلمات د. زيدان ليتحول الأمر كله من فعل فكرى ضرورى إلى جولة جديدة من جولات حلبات الملاكمة التى أصبحت كأنها المنهج لفعلنا الثقافي!