خارج النص

طريقنا إلى المستقبل

د.أسامة السعيد
د.أسامة السعيد

إذا قررت أن تستخدم محرك البحث «جوجل» لتسأله عن أكبر 10 شركات فى العالم من حيث القيمة السوقية، فستجد إجابة حاسمة بأن معظم الشركات على تلك القائمة تعمل فى مجال تقنية المعلومات وما يرتبط بها على اختلاف صورها، بما فيها «جوجل» نفسه الذى يعد أحد منتجات شركة «ألفابيت» الأمريكية.


بعض تلك الشركات تتجاوز قيمتها السوقية اقتصادات عدة دول حول العالم، وأرباحها تفوق ما تحققه دول ثرية بالموارد الطبيعية، وهو ما يبرر تلك المقولة التى باتت شائعة فى عالم الاقتصاد اليوم، بأن المعلومات هى «نفط العصر الحديث»، فإذا كانت الثروات الطبيعية وموارد الطاقة قد حددت فى القرن العشرين مسارات الثروة فى العالم، فإن قطاعات التكنولوجيا والمعلومات- دون أدنى شك- هى العامل الحاسم فى ثروات الأمم فى القرن الحادى والعشرين.


لذلك، كانت كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال افتتاحه مركز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية أمس، أكبر من مجرد تصريحات فى مناسبة وطنية هامة، إذ كانت تأكيدًا على مسار متكامل تخطوه الدولة بثقة ويقين نحو المستقبل، وهو مستقبل ملىء بالفرص، تبدو حدود الطموح فيه بلا نهاية، والاستثمار لتحقيقه يعتمد على أغلى ما تملكه مصر، ثروتها البشرية، أو الإنسان المصرى، بتعبير الرئيس.
دخول مصر مجال «الحوسبة السحابية»، وهو مصطلح قد يبدو صعبًا على غير المتخصصين، لكنه يعنى ببساطة القدرة على تخزين المعلومات الضخمة عبر أجهزة تتيح توفيرها للمستخدمين من أى مكان فى العالم مع تأمين كامل لتلك البيانات، يشير بشكل حاسم إلى وجود إرادة سياسية لاقتحام مجال تكنولوجيا المعلومات بجرأة وجسارة، ليس فقط كمستخدمين مثل كثير من دول العالم النامى، ولكن كلاعبين قادرين على امتلاك الأدوات لصناعة المستقبل.


والأهم - فى تقديرى- لم يكن قرار الدولة بالاستثمار فى هذا المجال الواعد، وهو أمر عظيم بالفعل وتطلب إرادة صلبة لمواصلته فى وقت واجهنا فيه ضغوطًا جراء أزمات إقليمية ودولية، لكن الأهم هو تلك الرغبة التى عبّر عنها الرئيس السيسى، بألا يقتصر الأمر على كونه «قرار دولة»، بل أن يتحول إلى «إرادة مجتمع» عبر تغيير ثقافة طالما سيطرت على عقولنا، وتتعلق باختيار مسارات التعليم المتاحة لأبنائنا، خاصة الصغار منهم، الذين يبدون أكثر تفاعلًا واستخدامًا للتكنولوجيا، ولديهم فرص غير محدودة للحصول على فرص عمل مستقبلًا ترتبط بأدوات العصر من تقنيات ومعلومات.


حديث الرئيس عن ضرورة أن يكون لدينا جيل من المبرمجين وصناع التقنية بالملايين، جاء نابعًا من قلب إنسان وأب مصرى قلق على مستقبل أبنائه، بقدر كونه تعبيرًا عن اهتمام قائد مشغول بمستقبل وطنه، والأمران مرتبطان ولا يفترقان.
فليس من المقبول فى شعب تعداد سكانه يتجاوز 106 ملايين نسمة، ألا يزيد عدد من يعملون فى مجال تصدير البرمجيات فى مصر على 150 ألف شاب، معظمهم، كما أوضح وزير الاتصالات الدكتور عمرو طلعت، يندرجون ضمن الفئة الأولى من المصدرين الذين لا يتجاوز سقف صادراتهم حاجز 60 ألف دولار سنويًا، بينما الأقلية منهم (15% فقط) يدخلون ضمن فئة مصدرى البرمجيات عالية المستوى الذين تبلغ قيمة صادرات كل واحد منهم فى المتوسط 300 ألف دولار سنويا.


بالتأكيد هناك أسباب متراكمة قادت إلى هذا الموقف، بعضها يتعلق بمستوى ما حصلت عليه أجيال متعاقبة من مستوى تعليمى ركز على الإتاحة قبل الجودة، وهو أمر فرضته تلك المعادلة الصعبة بين الموارد والنمو السكانى المتعاظم، لكن المؤكد أن أسبابًا أخرى ترتبط كذلك بثقافة المجتمع التى تحتاج إلى تغيير حقيقى وعميق، خاصة فيما يتعلق بقضية الزيادة السكانية، وطبيعة الفرص التى نريدها لأبنائنا فى المستقبل، ونظرتنا إلى الشهادات العلمية التى يحصلون عليها، فالمسألة يجب أن تكون محل نقاش مجتمعى حقيقى ومفتوح، حول المستقبل الذى نريده لهؤلاء الأبناء، ومسارات التعليم التى ينبغى أن نركز عليها، لنتخلص من شوائب ثقافية متراكمة وصور ذهنية آن الأوان أن تتلاشى من عقولنا، حالت دون أن يحظى التعليم الفنى والتخصصى فى مجتمعنا بالمكانة اللائقة.

 


الأمر لا يبدو مستحيلًا إذا توافرت الإرادة السياسية، وهى متوافرة بقوة، وتفعيل الإدارة الفنية، وقد بدأنا طريقها بالفعل، بينما يتبقى أن يتحول الأمر إلى ثقافة مجتمعية، وهذا هو الأهم، والأصعب أيضًا، إن شئنا الحقيقة.


لكن علينا أن ندرك أن صناعة المستقبل ليست بالأمر السهل، لكنها تستحق بذل الجهد والتضحيات، كما تتطلب أفكارًا خلاقة، تدرك طبيعة تحولات العالم من حولنا، فدولة مثل الهند، التى يسهم قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بأكثر من 13% من الناتج المحلى الإجمالى بها، وتستهدف تنميته إلى تريليون دولار بحلول عام 2025، بما يعادل 20 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى المتوقع، بدأت هذا المسار منذ تسعينيات القرن الماضى، وقتها لم يكن حجم صادرات البرمجيات بها يتجاوز 100 مليون دولار، الآن قفز هذا الرقم ليقترب من 100 مليار دولار. 
علينا أن نتحرك سريعًا، فالمستقبل لا ينتظر أحدًا، والمنافسة فى العالم ومن حولنا على أشدها، واليوم لدينا قيادة سياسية تمتلك القوة والقدرة والطموح الكافى لوضع مصر فى مكانتها اللائقة، ليس فقط فى الحاضر، ولكن أيضًا فى المستقبل.