حديث الأسبوع

التلويح بالحسم فى صراع مناطق النفوذ بالعودة إلى أساليب الماضى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

دفعت التطورات السياسية المتسارعة فى منطقة الساحل الأفريقى نحو إفراز معطيات جيواستراتيجية جديدة، بعدما قدرت أوساط كثيرة، أن هذه التطورات ستكون لها ما بعدها من تداعيات، ستلقى بظلالها على الحرب المحتدمة على مناطق النفوذ فى العالم، وتمثل منطقة الساحل الأفريقى مخاضا حقيقيا كمرحلة انتقالية لما سيترتب على هذه التداعيات. 


ووجدت فرنسا نفسها فى صلب هذه التطورات، بأن فاجأتها التطورات بالدخول فى مرحلة الضياع التدريجى لعمقها الأفريقى الذى فرضته بمد استعمارى تاريخى، مكنها من إخضاع مناطق وأقطار كثيرة على امتداد خريطة القارة السمراء، وبمواجهة تسلل الخصوم الاستراتيجيين إلى هذا العمق. وتجلى ذلك فى إجبارها على انسحاب قواتها العسكرية من مالى وبوركينا فاسو والنيجر، وهو الانسحاب الذى أخذ شكل طرد مذل للغاية، مقابل تغلغل هادئ للمنافس الإستراتيجي، روسيا، وهو التغلغل الذى مثل استمرارا لمسلسل تمدد روسى فى أعماق معاقل فرنسا التاريخية، كما كان عليه الحال بالنسبة لإفريقيا الوسطى. ولم يقتصر إطار ومساحة هذه التطورات على فرنسا، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية وجدت نفسها هى الأخرى فى مواجهة مصير مماثل لباريس فى النيجر، وقبل أيام معدودة من اليوم كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن القوات الأمريكية  ستنسحب من النيجر، مما يطرح أسئلة مقلقة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية حول مصير القاعدة العسكرية الأمريكية فى هذا البلد، التى كلفت الخزينة الأمريكية أكثر من مائة مليون دولار؟ ولم تقف التطورات عند هذا الملف الشائك، بل إن إدارة البيت الأبيض تراقب بحذر شديد التقارب بين القادة الجدد فى النيجر من جهة وروسيا وإيران من جهة ثانية، وأكدت مصادر وثيقة الاطلاع أن واشنطن حذرت صراحة  قادة النيجر من التقارب مع روسيا وعقد صفقة اليورانيوم مع إيران. 
كل هذه التطورات ظلت للسنتين الماضيتين فى صلب اهتمامات كثير من الحكومات الغربية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا، وفى عمق النقاشات المستفيضة التى لازمتها من طرف الأوساط السياسية والإعلامية والاقتصادية، لأن مدى هذه التطورات لن يقتصر على المجال الجغرافى الترابي، بل إنّ تداعياته الرئيسية والخطيرة ستطال المصالح الاقتصادية لقوى النفوذ التاريخية فى هذه المنطقة، خصوصا بالنسبة لفرنسا التى مثل عمقها الإفريقى خزانا ماليا واقتصاديا نابضا بالمنافع المتحصلة من اتفاقيات إذعان فرضتها مقابل التوقيع على الاستقلال الترابى لكثير من الأقطار الإفريقية. 


ويبدو أنه لم يعد نافعا ولا مفيدا لبعض الأوساط الأوربية بالخصوص حصر إطار التعامل مع ما ترتب عن هذه التطورات بالمسالك الديبلوماسية، ولا بالنقاشات العمومية، ولا حتى بالتلويح بتهديدات خفيفة ومحدودة، بل قدرت هذه الأوساط حتمية الانتقال إلى مستوى آخر يكون أكثر وضوحا فى ممارسة التهديدات. ويبدو بالنسبة إلى فرنسا أنه وقع التدقيق فى اختيار الشخصية التى ستعلن عن هذا الانتقال، وعن الوسيلة ذات الخلفية الإيديولوجية فى الكشف عن ذلك.  وهكذا لا يبدو أن التصريحات العنيفة التى أدلى بها قائد القوات المسلحة الفرنسية السابق الجنرال فرانسوا لوكوانتر لقناة يوتوب التابعة لصحيفة (لوفيجارو) الفرنسية اليمينية، جاءت من قبيل الصدفة ولا هى حتى مجرد اجتهاد شخصى من شخصية عسكرية فرنسية، بل الواضح أن مصدر هذه التصريحات وتوقيتها تم اختيارهما بدقة كبيرة لتوجيه رسائل واضحة لمن يعنيه الأمر.
اختيار هذا الجنرال للإعلان عن هذا الانتقال دقيق ومعبر، لأن الأمر يتعلق بشخصية فرنسية عسكرية قاد القوات الفرنسية فى الجابون ثم فى رواندا، وهو بذلك مرجع موثوق للمعلومات والمعطيات المتعلقة بجزء مهم من المجال الاستعمارى الفرنسى السابق فى إفريقيا، ثم إنه حينما تناط مهمة التصريحات بشخصية عسكرية، فإن معنى ذلك أن شرعيتها تستمدها من القوة والعنف. 
الجنرال الفرنسى الحديث العهد بالتقاعد، دعا عمليا من خلال تصريحاته أوروبا «إلى وجوب أن تعيد إرسال جيوشها إلى القارة الإفريقية للدفاع على مصالحها» وإن غلف ذلك «بالتزام أوروبا بالعودة إلى إفريقيا من أجل المساعدة فى استعادة الدولة وعودة الإدارات والتنمية.» وللتصدى إلى «تدمير أجهزة الحكومة والدولة، والحرب الأهلية فى العديد من البلدان والصعوبات المتعلقة بتغير المناخ» وكأن تحقيق هذه الأهداف رهين بعودة دول أوروبية، وكأن الأمر يتعلق بوصاية على قاصرين ليسوا قادرين على تدبير قضاياهم الإدارية والتنموية. وكأنه قبل مغادرة القوات الأجنبية لأقطار إفريقية كانت تنعم فعلا فى بحبوحة التنمية والإدارة الرشيدة القوية والنافعة. وكأن الماضى الاستعمارى القديم والذى تلاه ليس مسئولا عما لحق كثير من الدول الإفريقية من أعطاب وانتكاسات وتخلف. 


ولم يتخف الجنرال المتقاعد وراء اللبس هذه المرة، بأن قال بصراحة «أعتقد أن هذه المصلحة المشتركة يجب أن تجعل أوروبا فى يوم من الأيام تقرر التصرف ككيان سياسى يدافع عن مصالحه بنفسه، بما فى ذلك عن طريق التزام جيوشها بذلك» وهى دعوة صريحة إلى إعادة إنتاج المد الاستعمارى بصيغته القديمة بعدما لم تنفع مختلف البدع والأشكال  فى الحفاظ عليه فى صيغته الحديثة المعدلة، التى مكنت القوى الاستعمارية التقليدية من امتصاص دماء كثير من شعوب العالم بوسائل لينة لا تتسبب فى آلام مباشرة  أثناء الامتصاص، لكنها تفضى إلى آلام وأوجاع بسبب التشوهات والأمراض المزمنة التى تتسبب فيها.