مجمع اللغة العربية يواصل انعقاد جلساته بمؤتمره التسعين

أ.د.بسمة أحمد صدقي الدجاني (أستاذة اللغة العربيّة وآدابها في كلّيّة الآداب بالجامعة الأردنيّة)
أ.د.بسمة أحمد صدقي الدجاني (أستاذة اللغة العربيّة وآدابها في كلّيّة الآداب بالجامعة الأردنيّة)

واصل مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة برئاسة أ.د. عبدالوهاب عبدالحافظ (رئيس المجمع) انعقاد جلساته اليوم الثلاثاء 23 من أبريل 2024م تحت عنوان "اللغة العربية وتحديات العصر: تصورات، واقتراحات، وحلول"؛ حيث ناقش السادة أعضاء المؤتمر في جلسته المغلقة المصطلحات المقدمة من لجان: الأحياء وعلوم الزراعة، التربية وعلم النفس، والبيئة. وفي جلسته العلنية ألقت أ.د.بسمة أحمد صدقي الدجاني (أستاذة اللغة العربيّة وآدابها في كلّيّة الآداب بالجامعة الأردنيّة) بحثًا بعنوان "النظرةُ المجتمعيّةُ للغةِ العربيّة: بارقات تفاؤل وبرقيّات توجيه" جاء فيه ما نصه:
تَشغَـلُني في بُحوثي النظرةُ المجتمعيّة للغةِ العربيّة، نتيجةَ تفاعلي مع أقراني وإجابتي لسؤالهم حول اختياري تخصّص اللغةِ العربيّة في الدراسةِ الجامعيّة .. والاستماع لتعليقاتِهم حول اِلتزامِ الوالد د. أحمد صدقي الدجاني -رحمه الله- بالفُصحَى في حديثِه معنا ومعهم وجميعِ مَن يلقاه... فأستمتعُ بِسبرِ أغوارِ هذه اللغةِ الفريدةِ على مرِّ عُصورِها في بُحوثي الدراسيّةِ مركّزةً على عصرِنا الحديث لإجابةِ تساؤلاتِ طلّابي مِن الناطقين بها والناطقين بغيرِها مِن أبناء الثقافات المُتنوّعة الراغبين بالاستزادةِ حول ما تتميّز به لُغـتُـنا وثقافتُنا. 

اقرأ أيضًا| مؤتمر مجمع الخالدين يواصل انعقاد جلساته لليوم الثاني على التوالي
ومِن خِلالِ تعليمِ لسانِنا العربي لثلاثةِ عقودٍ أدركتُ طبيعةَ المرحلةِ التاريخيّة لنشأتي في وطنِنا العربي في النصفِ الثاني مِن القرنِ العشرين. واتّضح لي وجودُ بونٍ شاسع بين العامّةِ والطلبةِ في كافّةِ مراحل الدراسةِ وبين اللغةِ العربيّة والإقبالِ عليها. ولعلّ للإعلامِ المرئي والمسموع دورًا في إذكاءِ ذاك البون..
وهناك أثر للمناهجِ الدراسيّة التي وسّعت الفجوةَ بيننا وبين علومِ لسانِنا الأمّ، ونتج عنها صعوبةٌ لإتقانِ بَيانِه وجهلٌ بثقافةِ لغتِنا المُمتعة.. مِمّا كان له تبعاتٌ فادحةُ في تخلخلِ موازين سيادةِ اللغةِ الأمّ بما يرتبطُ بها مِن هُويّةٍ ومعرفةٍ، وتهاونٍ في رعايةِ جُذورِها الممتدّةِ بين أبناءِ الجيلِ المعاصر. وأستشهدُ بِقَولِ شيخِ العربيّة الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله- مُستَشْرفًا ما كان المُجتمعُ يُواجهُه قائلاً في كتابه "أباطيل وأسمار:"إنّ أسبابَ ضعفِ النشءِ في العربيّةِ ليس يُردُّ إلى المُعلّمِ والكِتابِ، بل مَردُّه إلى المَنهجِ الذي يُقيّد المُعلّمَ بِقُيودٍ كثيرةٍ ترفعُ عنه التبِعةَ في نتيجةِ التعليم، ويُقيّد الكِتابَ بِمثلِها، ويُعطي النشءَ ما لا يَصْلُح عليه لِسانٌ، ولا يستقيمُ به تعليمُ لُغة. فلو أنتَ نظرتَ لَما رأيتَ شَعبًا مِن شُعوبِ الأرضِ المُتعلّمة، يفعَلُ بلُغتِه ما نفعلُ نحنُ، مِن التجاهلِ للآثارِ الأدبيّةِ، وقِلّةِ الاحتفالِ بِتزويدِ الناشئ بِمادّتِها التي تحفظها لتكونَ أبدًا على مدِّ الذاكرةِ وفي طلبِ اللسان"....  والحال مستمرّ منذ نُشر الكتاب في عام 1965.
لقد أثّرت منهجيّةُ تعليمِ اللغةِ العربيّة في مناهج المدارسِ والجامعاتِ سلبًا في اكتسابِ أبنائها لِمَهاراتِها، ونتج عنها جفوةٌ لُغويّة خلخلت العلاقةَ الفكريّة، وزعزعت الرؤيّةَ العميقة، وشكّكت في المضمونِ الجوهري، وتسبّبت بِنسيانِ عُذوبةِ المَذاق، وفُقدانِ بُوصلةِ المجاز. * فأجيالُ مُجتمعاتِنا المُعاصرة تُواجهُ صُعوباتٍ لُغويّةً تتّضحُ مَعالِمُها بِشكلٍ خاصّ عند تَخَرُّجِهِم ومُمارستِهم للعمل... ممّا يجعلُهم يلجأون لتعلّمِ العربيّةِ مِن جديدٍ في مراحلَ متقدّمةٍ كأبناءِ اللغاتِ الأجنبيّة!
وتبرزُ اليوم بارقةُ تفاؤلٍ نلحظُها بإدراكِ جُمهورٍ مِن صُنّاعِ القرارِ التربوي في بعضِ الدولِ، وجمهورٍ مِن أولياءِ الأمورِ بين الأهالي والقادةِ لإصلاحِ هذا الخللِ بعد أن فَقَدَ الأبناءُ ارتباطَهم بلسانِهم الأمّ نتيجةَ استمالتِهم لألسنةٍ أجنبيّة، وتوجيهِهم للتعلّمِ بها مناهج ثقافاتٍ خارجيّة، والتفاخر بمُمارستِها وإتقانِها، والوصولِ إلى درجةٍ تزيدُ معرفةَ تلك الثقافاتِ على حسابِ ثقافةِ اللغةِ العربيّة...  ومِن اللافتِ بُروزُ هذه البارقةِ مع ازديادِ إقبالِ أبناءِ اللغاتِ الأخرَى على تعلّمِ اللسانِ العربي، ودراسة فِكره. وقد كان للأحداثِ السياسيّة والعسكريّة التي عاشها مُجتمعُنا العربي الإسلامي خلال العقودِ الثلاثة الأخيرة ردّةُ فعلٍ خارجيّة أثارت فضولَ وعزّزت مُيولَ استطلاع أعدادٍ غفيرة مِن الناطقين بِلُغاتٍ أخرَى لِتَعلُّمِ اللغةِ العربيّة، ومُحاولتهم فهمَ أسبابِ مُجرياتِ الأحداثِ المتتالية.. فكما نعيشُ صَحوةً عالميّةً لِما ترتّبت عليه مأساةِ الاحتلالِ الصهيوني لأرضِ فلسطين العربيّة، واستمرارُها لقرنٍ مِن الغُربة داخل الوطن، كذلك نستشعرُ بواكيرَ صَحوةٍ عربيّةٍ لِما ترتّبت عليه تلك الدعوةِ إلى العامّيّاتِ في نهايةِ القرنِ التاسع عشر. وقد اتّضحت آثارُها على المدَى الطويلِ مع ما بذلتهُ القوَى الاستعماريّةُ مِن جُهودٍ مؤسّساتيّة لتَعُمَّ بلادَنا العربيّة... إلّا أنّ أهلَ العلمِ والفكرِ الواعين في الأمّةِ العربيّة يُواجِهون الهجومَ على اللغةِ العربيّة، ويَرفضون فرضَ سيطرةِ الثقافةِ الإمبرياليّة، ويسلّطون الضوءَ على علاقةِ الفردِ الوجوديّة بلسانِه وكلامِه. * فهل يدرك أبناءُ مُجتمعِنا في نَظرتِهم للغةِ العربيّة حقيقةَ أنّ اللسانَ سلاحٌ أيديولوجي في إثباتِ الهُويّاتِ وتثبيتِ القَوميّات؟ 
مِن الواضح أن جهودَ عددٍ مِمّن دَرَسَ وحَلَّلَ ونَقَدَ وفَسّرَ ملامحَ النظرةِ المجتمعيّةِ للغةِ العربيّة بدأت تؤتي ثمارَها بنشرِ الوعي المجتمعي لمواجهةِ ذلك العدوانِ الجائر على مكانةِ اللغةِ العربيّة بين اللغاتِ، وقيمتِها التاريخيّة، وقُدسيّتِها الدينيّة، وأهمّيّتِها العلميّة، وفاعليّتِها الاقتصاديّة. 
في التصدّي للعدوانِ اللغوي، أستهلّ بالمرجعِ الذي أوصَى به عضوُ المجمعِ الأستاذ محمود شاكر في كتابِه "أباطيل وأسمار" قائلاً: "لا أظنّني قرأتُ في هذا الدهر كتابًا، ينبغي لكلّ عربي وكلّ مسلم أن يقرأه مِن ألِفِه إلى يائه يُضارع كتابَ تاريخ الدعوة إلى العامّيّة وآثارها على مصر". الذي نالت مؤلّفتُه الأستاذة نفّوسة زكريا به درجةَ الدكتوراه مِن جامعةِ الإسكندريّة مع مرتبةِ الشرف عام 1959م، ونُشر عام 1964. * وقد أثبتت فيه بداياتِ زرعِ القوَى الاستعماريّة خصومة بين فروعِ شجرةِ لغتِنا الواحدة وجذعِها، لإدراك تلك القوَى مدَى قوّةِ اللغةِ العربيّة، ودورَها الأساسي في توحيدِ أمّةِ الحضارةِ العربيّةِ الإسلاميّة، وإحاطتهم بمكانةِ مصر في قلبِ الأمّة، وريادتها لشعوبِ الأمّة. 
نحن موقنون مثلما قال الأستاذ الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله- في كتابه محاضرات مجمعيّة: "إنّ هذه الخصومةَ بين الفصحى والعامّيّةِ التي ظهرت في مُجتمعِنا منذ أواخرِ القرنِ التاسع عشر لم تحدث في العصورِ والحِقبِ السالفةِ قبل العصرِ الحديث... فلم يحدث أنّ أحدًا مِمّن كان يكتب الأزجالَ والقصصَ الشعبيّة في العصورِ الوسطى كتب ضدّ الفصحى مطالبًا بأن تحلّ العامّيّة في أدبِ أسلافنا محلّها. وبالمثل لم يَدْعُ أحدٌ مِن أصحابِ الفصحى ضدّ العامّيّة وأعمالها! بل كانت دائمًا الطائفتان مِن الكُتّاب بالفصحى والكُتّاب بالعامّيّة يتعايشان في وئام وسلام"..   
ولحُسنِ حظّنا، نتيجةُ استدامةِ لُغتنا نتمكّنُ وأبناءُ مجتمعنا الحاضر مِن العودةِ إلى مراجع تقويمِ اللسانِ التي خصّص لها مجموعةٌ مِن أعلامِ حضارتنا العربيّة الإسلاميّة كُتبًا شرحوا فيها ظاهرةَ اللحنِ الطبيعيّة، ونبّهوا بها في مجتمعاتِهم لتجنّبِ استعمالِ اللهجاتِ المنحرفة عن سُننِ العربيّة. وبالعودةِ إلى شرح ابن خلدون في مقدّمته لـمكانة السمع أبي الملكات اللسانيّة، وكيف يتأثّر بما يُلقَى إليه مِن المخالفات، ويفسد لجنوحها إليه باعتيادِ السمع.. نجده ينطبق اليوم على مجتمعِنا مع الأطفالِ أبناءِ اللغةِ الذي يتلقّون لُغاتٍ أعجميّة منذ تفتّح وعيهم حيث تتحدّثُ إليهم الأمّهاتُ والآباءُ والمدرّسون والأقرانُ بمفرداتٍ ومصطلحاتٍ وأفعالٍ أجنبيّة متفاخرين بتعليمِهم لهم وتجاوبِهم معهم باستيعابها. 
واجبُنا تحسينُ إنتاجِ لُغـتِنا العربيّةِ الواحدة والمُوَحِّدة، والحثّ على تعليمِها بمناهج جاذبة وبمنهجيّةٍ سليمةٍ، ومُحاسبة المخالفين مثلما تفعلُ الدولُ في شؤونِها العامّة. فعندما نُناقشُ استراتيجيّاتِ التّعلُّمِ الاجتماعي والعاطفي، نجدُ أنّ تلاميذَنا بِحاجةٍ إلى استعادةِ اِرتباطِهم العاطفي بِذاكرتِنا الأدبيّة... والتواصل مع تاريخِنا العريق مِن خلالِ إنجازاتِ الأعلام وأمّهاتِ الكُتُبِ وديوانِنا الشعري الخصب. نُغذّي أبناءنا ونُعلّمُهم الحِفاظَ عليها في ذاكِرَتِهم الجَمعيّة كما نُعلّمُهم الحفاظَ على البيئةِ والاستفادةَ مِن الثروات. ويستمرُّ دورُ فقهاءِ اللغة في مجامع لُغتِنا العربيّة لتوجيهِ نظرةِ مُجتمعِنا المعاصر إلى أهميّةِ الالتزامِ باستخدامِ العربيّةِ الفصيحة في مهارتيّ الكتابةِ والقراءة وتخصيص العامّياتِ واللهجاتِ لمهارتي المحادثةِ والاستماع.
هذه منهجيّة اتّبعناها وأستاذ اللسانيّات د. توفيق قريرة في منهاجٍ رقميّ ألّفناه وِفقَ مُقاربةِ اللغة عبر المنهج،  تقوم على أنّ تعليم اللغةِ لا يقتصرُ على حصصِ تدريسِها، بل يتّسع ليشمل جميعَ الحصصِ التي تستعمل تلك اللغة أداةً. وبترسيخ فكرة أنّ تعلّمَ اللغةِ الفصيحة يُكسبُنا قدراتِ مُعالجةٍ وإبداعٍ مختلفة. وأن نؤمنَ بما للمُتعلّم مِن إمكاناتٍ. * بتعليمٍ مَبنيّ على السؤال مِن أجلِ تفعيل إمكاناتِ الطلّاب مِن خلال مناهج جاذبة نُشركهم في إضافة معلومات صحيحة على تطبيق ChatGPT لإغناء برنامج الذكاء الاصطناعي التوليدي حيث يفتقر إلى دقّةِ البيانات والمحتوى باللغة العربيّة. 
واجبٌ علينا إمدادُ تلاميذنا في مناهِجِهم المدرسيّة مِن المرحلةِ الابتدائيّة بنماذج عمالقة مِن تُراثِنا الثري ليقفوا على أكتافهم، ويستكشفوا قيمةَ ما أنجزوه، ونشجّعُهم على أن يبنوا عليه. وليقتدي أبناؤنا بنماذج عالماتٍ مُفكّراتٍ فصيحاتٍ في حضارتِنا على مرِّ العصور. 
بتطويرِنا أساليبِ التعليمِ والإبداعِ فيها لينعمَ أبناؤنا بالإرثِ الثمين لِهذا اللسانِ المُتميّزِ بين ألسنةِ العالم.. وليكتسبوا مهاراتِ التواصل به بمتعةٍ وسلاسة، وليُحافظوا على ارتباطِ هُويّاتهم به باعتزازٍ حيثما كانوا، ومَهما أتقنوا مِن لُغاتٍ مُتنوّعة. فبيان اللسانِ أساسُ بناءِ الإنسان، وأساسُ ثقافةِ العمران، واستدامةٌ في المكانِ عبر الزمان.