القاهرة في مرأه باريس

القاهرة فى مرأه باريس
القاهرة فى مرأه باريس

تمثل قضايا الاستشراق شاغلها الأكبر، ولهذا كتبت العديد من الدراسات لمحاولة فهم العلاقة بين الشرق والغرب، وطرحت الكثير من التساؤلات حول طبيعة هذه العلاقة التى لا يزال يُنظرُ إليها، حتى اليوم، فى عالمنا العربى بنوعٍ من الريبة والخوف.  

وقد صدر مؤخراً للدكتورة كندة السمارة، المُحاضِرة فى اللغة والثقافة العربية بالجامعة الوطنية الأسترالية بكانبرا، دراسة بعنوان «القاهرة فى مرآة باريس.. كتابات بعض أدباء القرن التاسع عشر»، نُشِرت ضمن كتاب «القاهرة مؤرخة» الذى أشرف على إعداده الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمران وتاريخ المدن بجامعة كاليفورنيا بيركلى. 

تقدم كندة فى دراستها رؤية جديدة تخصُّ جيل الرواد والشخصيات المصرية من المثقفين والمفكرين -ممن سافروا لأوروبا خلال القرن الـ19- إذ ترصد خلالها محاولاتهم وسعيهم نحو الحداثة الأوروبية أو ما أطلقت عليه كندة فى دراستها اسم «التمدن الجديد». كانت رغبة هؤلاء الرواد إحداث تغييرات جوهرية داخل القاهرة، لكن على الجانب الآخر لم تكن هذه الرغبة مدفوعة أبداً بالتسرع أو التهور، بل كانت رؤية متأنية واعية بضرورة التغيير إذا ما أردنا أن نلتحق بهذا «الآخر» حضارياً، وثقافياً، وعمرانياً. فقد أسهمت هذه الـ«حالة» فى نهاية الأمر بتغيير شكل وجوهر المدينة بشكل كامل. لكن على الجانب الآخر لم يكن هذا التغيير مبنياً على رؤية استشراقية أو ناقلاً حرفياً لما يحدث فى الداخل الأوروبى، بل كان مبنياً على مشاهدات حقيقية تتناسب مع احتياجاتنا فى تلك الفترة.   
 

تعتّبر القاهرة موطنًا لعدد لا يحصى من المعالم والآثار التاريخية التى تصوّر الثروة المعمارية والتاريخ الغنى للمدينة. لذا فإن هذا الفصل سيقدّم القاهرة ليس على أنها مجرد عاصمة إسلامية عالمية، بل كمركز حضرى مدنى. حيث سيتناول المقارنات التى أجريت بين القاهرة وباريس فى أدب القرن التاسع عشر على اعتبار أنّ هاتين المدينتين كانتا فى تلك الحقبة رمزًا للحداثة والمدنية، فعلى الرغم من اهتمام العديد من الدراسات والأبحاث بالدور العلمى والأدبى الذى لعبه رواد القرن التاسع عشر للتعريف بالأفكار المدنية الجديدة إلا أنّ الأبحاث التى تناولت إقبال رواد القرن التاسع عشر على أفكار التمدن الجديد رغم الطموحات الاستعمارية بقيت ضئيلة.
سنحاول الخروج عن المألوف وذلك عبر إعادة النظر للعلاقة بين الغرب والعرب وكيف أن روّاد القرن التاسع عشر قد رحبوا بمفهوم الغربى «للتمدن الجديد». لقد كان مفهوم المدينة واسعًا بالنسبة لهم حيث شمل جوانب مادية وثقافية للحياة الحضرية الجديدة كما تضمن جميع تفاصيل شكل المدينة الجديدة.

اقرأ أيضاً | كفاح المقريزى.. الصراع على المناصب

سيكون محور التركيز فى هذا الفصل على أعمال أبرز مفكرى تلك الحقبة كرفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وغيرهما من الكتّاب المؤثرين ممن زاروا وعاشوا تجربة تلك المدينتين وقارنوا بينهما فى أعمالهم مما أسهم بشكل أو بآخر إلى ظهور مصطلح «التمدَن الجديد» كنتيجة للتفاعلات العربية الأوروبية بغض النظر عن أجندتها ودون الشك بأنّ تلك الأفكار لا تنسجم مع المبادئ والقيم الدينية.

ضرورة التغيير

أشار العالم والمجدد والطبيب حسن العطار (1766-1835) إلى ضرورة التغيير فقال «إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها». (عمارة، الطهطاوى، رائد التنوير، 24). فالعطار هو من أبرز مشايخ الأزهر ممن لا يرى بأسًا فى  من أخذ العلم عن غير المسلمين، بل إنه دعا إلى طلب المعرفة والتغلب على الركود الفكرى، فوجّه تلاميذه إلى قراءة كتاب الأغانى فى حقبة لم يكن يشغل فيها الأدب حيزا (جابر عصفور، للتنوير، 14).



كما حثّ بدوره المفكر أحمد فارس الشدياق (1804-1887) فى كتاباته بعد أن عاين التمدن الأوروبى إلى ضرورة التغيير:

كنت دائم التفكر فى خلو بلادنا عما عندهم من التمدن والبراعة والتفنن ثمّ تعرض لى عوارض من السلوان بأن أهل بلادنا قد اختصوا بأخلاق حسنة وكرم يغطى العيوب..... ثم أعود إلى التفكر فى المصالح المدنية فى أوروبا والأسباب المعاشية وانتشار المعارف العمومية. (أحمد فارس الشدياق، الرحلة، 3).

راهن المؤرخ المصرى الشهير عبد الرحمن الجبرتى (1753-1825) وهو الذى عاين الحملة الفرنسية على أن الشعب سيتطلع حتما إلى التغيير فيروى لنا وبشكل مفصّل فى كتابه عجائب الآثار فى التراجم والأخبار عن مقرّ علماء الحملة الفرنسية والمجمع العلمى الذى كان يتردد إليه. (عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار، 3:59).

كان الجبرتى يرتاد المكتبة التى أوجده الفرنسيون للاطلاع والتثقيف «ملتقطا صورة معبرة تنم عن شدة وعيه بحدوث هذا التفاوت القيمى الحضارى على مستوى المكانة الخاصة التى أضحت تحتلها قيم العلم والتعلم لدى الدول والمجتمعات الغربية حينما تحدث عن نظام المكتبة وشيوع القراءة بين جنود الحملة على اختلاف مراتبهم». (محمد حواش، منظومة القيم الغربية بعيون عربية إسلامية، ص316-317).



كما أبدى الجبرتى انبهاره بالكتب والذخائر العلمية والجغرافية والفنية واسترسل فى وصفه للكتب المباحة للجمهور من العامة الذين يمكنهم قراءتها دون حرج فذكر أنّ الفرنسيين إذا ما جاءهم أى من المسلمين لينظر فى ابتكارات المجمع العلمى لم يمنعوه من الدخول، بل إنهم إذا وجدوا فيه أى رغبة فى المعرفة أظهروا له صداقتهم وحبهم له فيقول:

وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر فى المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير، وكرات البلاد والأقاليم [يقصد الخرائط] والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم مما يحير الأفكار. (عبد الرحمن الجبرتى، عجائب الآثار فى التراجم والأخبار، 2).

لم يكن انفتاح الجبرتى وهو الذى جاء من بيئة تقليدية على الآخر الغربى بالأمر السهل، لكنه كان يعى معنى التحرر من المعتقدات الدينية المغلوطة والتحرر من الخرافات وأهمية الاستفادة من العلوم العقلية والوصفيّة فالحملة الفرنسية وعلى الرغم من قصر مدتها إلا أنها كانت قد ألقت ببذور الليبرالية ووضعت اللبنة الأساسية للتغيير (آمال سعد زغلول، المثقفون المصريون ودورهم فى ثورة 1919، 8).

استرسل الجبرتى فى وصف آلات العلماء الفرنسيين وأدواتهم الفلكية وقدراتهم على الرسم والتصميم كما كان حريصاً على رصده للملاحظات التى يشاهدها عن سلوك الفرنسيين التى كان يدونها بشكل يومى فيقول بلهجة الاعجاب حول كتاب رسمت فيه صور للرسول الكريم وأصحابه الأئمة:



من جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبى صلى الله عليه وسلم ومصورون به صورته الشريفة وهو قائم على قدميه ناظرا إلى السماء كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف وفى اليسرى الكتاب، وبجواره الصحابة رضى الله عنهم، بأيديهم السيوف، وفى صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين وفى الأخرى صورة المعراج والبراق، وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليه من صخر بيت المقدس، وصورة بيت المقدس والحرم المكى والمدنى، وكذلك صورة الأئمة المهتدين وبقية الخلفاء الراشدين.

(الجبرتي، عجائب الآثار، 3:57)
فوصفُ الجبرتى لصورة النبى محمد عليه الصلاة والسلام كما جُسّدت فى الكتب الأوروبية ما هو إلا بالتحوّل الكبير فى تفكير الجبرتى فهو الذى جاء من عائلة تقليدية محافظة وشهد الاحتلال الفرنسى لمصر، بدا مفتونًا بالأفكار الغربية الجديدة، وبدا إعجابه بتلك الصور واضحا «وكأنهم يشبهون الحياة لدرجة أن الجسد بدا على قيد الحياة تقريبًا كما أنّ رسم الشيوخ كان كل واحد على حدة فى دائرة» ففى الكتب جميع أنواع الصور والخرائط والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء والأمم وحكايات الأنبياء. (الجبرتى، عجائب الآثار، 3:59).

لم يقتصر وصف الجبرتى للتغيير الحاصل بالنسبة للأدوات الفكرية والعلمية التى جاءت مع الفرنسيين إلا أن النساء كان لهن نصيب من ذلك الانفتاح، فيروى الجبرتى أنه حين دخل الفرنسيون ومعهم نسائهم:

لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون فى الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميرى والمزركشات الصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة. (الجبرتي، عجائب الآثار، 2:436).

على الرغم من أن الجبرتى لم يكن يدعو إلى التبرج وكشف الرأس إلا أن ملاحظاته لرؤية النساء ما هو إلا دليل على أن المجتمع قد بدأ بالتغيير فبدأت تتشكل مشاعر مختلطة تتأرجح بين الانبهار بالجديد الغربى والمخاوف بشأن تأثيره.



كان المفكرون الليبراليون العرب يدركون تمامًا الحاجة إلى التغيير وأبدوا رغبتهم الجادة فى تغيير مجتمعاتهم ومواكبة التطورات الغربية حيث انعكس هذا التغيير فى تبنى الملابس الغربية والمأكولات والممارسات الاجتماعية فى الفضاءات العامة إلى جانب التغيير فى الشكل المعمارى للمدينة الذى بدأ يتأثر بالعمارة الغربية فى المنازل والقصور والمبانى العامة حتى المساجد أصبحت غربية فى أشكالها وبنائها.

أدى الانفتاح المتزايد على التمدن الجديد إلى إدخال مفاهيم ومصطلحات جديدة كما ظهرت مجموعة من الأدوات الفكرية الجديدة التى غيرت بدورها ملامح وتوجهات التفكير التقليدى.

التفاعل مع أوروبا فى القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر

عند دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 جلب الفرنسيون معهم القوة العسكرية إلى جانب العلوم والتكنولوجيا والأفكار الليبرالية المتقدمة. وحين زار المؤرخ المصرى الجبرتى المجمع العلمى للحملة الفرنسية كان من الواضح إعجابه الشديد بما شهده من العجائب الحديثة فقد فطن الجبرتى منذ دخول الفرنسيين إلى مصر أنه فى «حضارة جديدة أرقى من حضارة الترك والمماليك، لا فى مقوماتها المادية وحسب، ولكن فى كثير من قيمها ونظمها السياسية.»

(الجبرتى، عجائب الآثار، 3:58-59).
لقد توخى الجبرتى الدقة فى وصفه لمشاهداته يذكر المؤرخ لويس عوض عن كتابات الجبرتى اتسامها بالموضوعية والتى ندر أن اتسم بها أى عمل تاريخى فى زمانه أو زمان سابق وهو أمر لم يخف على الذين تناولوا سيرة الجبرتى، كما على الذين كتبوا عن الحملة الفرنسية، حيث عُرف عن الجبرتى، سواء فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» أو كتابه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» بأنه وعلى الرغم من تنديده بالجانب العسكرى أو السياسى من الحملة لكن لم يفته أن يتحدث بإيجابية عن جوانبها العلمية والمدنية محاولا أن يصف الأشياء التى رآها.

يذكر الدكتور عبد العظيم رمضان فى تقديمه لكتاب العجائب للجبرتى أنه «يكاد ينفرد بالعناية بتاريخ الحياة الاجتماعية فى مصر الأمر الذى جعل له أهمية خاصة.... كان للجبرتى ملاحظاته القوية على ما يطرأ على الحياة الاجتماعية فى مصر من تغيير.» (الجبرتى، عجائب الآثار، ح 1:) حيث «استطاع أن يصور أصدق تصوير أنواع المظالم التى عاناها الشعب المصرى خلال القرنين 17 و18، من الحاكم المستبد الجاهل، وموقف المصريين ومقاومتهم الحكام البغاة، وكيف أن شيوخ الأزهر كانوا وسطاء لوقف طغيان المماليك، وكيف أن الأزهر يحتل مكانة مرموقة فى الحياة المصرية.» (الجبرتى، عجائب الآثار، ح 1:). 

بعد فشل الحملة الفرنسية فى مصر عام 1801 أرسلت الحكومة العثمانية قوات لتمثل سلطتها فى مصر وكانت تلك القوات تحت القيادة العسكرية لمحمد على باشا (حكم من 1805 إلى 1848). كان محمد على ضابطًا من سلالة ألبانية تعود إلى بلدة (قَوَلَة Nezar AlSayyad, Cairo,172) كانت إحدى مهام محمد على هى حماية مصر من عودة نابليون خصوصا بعد الفراغ الذى حصل فى السلطة فى مصر بعد الإطاحة بالفرنسيين. استخدم محمد على خلال هذه الفترة أنصاره الألبان لاكتساب الهيبة والنفوذ وفى عام 1805 اعترفت بتوليته الحكومة العثمانية ليكون واليًا على مصر وبقيت أسرته فى الحكم بينما كان لسلطان الإمبراطورية العثمانية السيادة الفخرية على مصر حتى عام 1914.( AlSayyad, Cairo, 174) لاحظ محمد على باشا التطور الغربى وبات اللحاق بالتطور الغربى حاجة ملحة بالنسبة له كان جلّ تركيز محمد على هو إدخال التعليم والعلوم الجديدة يحاكى بها النمط الأوروبى - وعلى الرغم من أن محمد على نفسه لم يتلق أى تعليم مدرسى إلا أنه حثّ على طلب العلم - فقام بإرسال مجموعات مختارة من العلماء البارزين فى مهمات تعليمية إلى أوروبا حيث عادوا محملين بالأفكار الإصلاحية محاولين نقل شكل الحياة المدنية الجديدة. فقد رأى محمد على أن وسيلته للإصلاح هى النقل عن الغرب، و«كل ما هو مفيد من النظم الغربية قد كتبَه أصحابُها، فإذا ترجم إليه استطاع أن يسير طبقًا له» فقاموا ــ علماء القرن التاسع عشرــ بنقل وكتابة ملاحظاتهم وما شاهدوه من وجوه التمدن الحديث والتطور فى أوروبا. (عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم فى مصر، 329).

وجَّه محمد على البعثات إلى مختلف الدول الأوروبية إلا أن العدد الأكبر من البعثات كان قد أرسلها إلى فرنسا وذلك لدراسة مختلف أنواع العلوم والفنون كان من أوائل البعثات ورائدهم عثمان سقه باشى زاده (عثمان نور الدين باشا فيما بعد) كما أن إيطاليا كانت من أوائل بعثات محمد على إلى أوروبا وكان نقولا مسابكى من أعضائها والذى عيّن مديرا لمطبعة بولاق لاحقًا. (عمر طوسون، البعثات العلمية فى عصر محمد على 11-10، وتاريخ التعليم فى مصر فى عصر محمد على 435-434).

كان محمد مظهر باشا (1809-1873) من أوائل المبعوثين إلى فرنسا حيث مكث فى باريس لعشر سنين وتخصص فى الرياضيات والهندسة أثناء إقامته فى باريس كوفئ محمد مظهر باشا بهدية من علماء فرنسيين، سلط محمد مظهر باشا الضوء على الاختلافات بين المجتمعين الفرنسى والمصرى فى إشارة واضحة منه إلى شكل المدنية الجديد (عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد علي، 476). يقول مظهر باشا فى وصفه للتمدن الجديد:

رأيت منظرًا لم أره من قبل من جمال الأبنية الشاهقة والشوارع المرصوفة الواسعة والمستقيمة.... ثم سمعت أصواتًا غريبة وحين استدرت وجدت عربات تجرها الخيول بالنسبة لى كانت المرة الأولى التى رأيت فيها وسمعت شيئًا كهذا.

يمكنك أن تجد تلك العربات تتحرك ذهابًا وإيابًا طوال اليوم كما تأثرت كثيراً عندما رأيت النساء فى الشوارع والساحات والحدائق دون غطاء كانوا يمشون بحرية بفساتينهن الجميلة المحظورة فى تقاليدنا وثقافتنا، عندما رأيت باريس تأثرت بمنظر الأشخاص الذين يقومون بنزهات فى البساتين كما زرت قاعات كبيرة بها صور جميلة لرسامين مشهورين. (عمر طوسون، البعثات العلمية، 20-19).

بذل محمد على جهودًا كبيرة لتحديث مصر وبنائها على أسس غربية كما زاد اهتمامه بإدخال العلوم الجديدة والتعريف بمبادئ التمدن الجديد والذى أدى بدوره إلى تغييرات جذرية لم تغير فى مسار التاريخ المصرى وحسب، بل أثرت على رسم تاريخ جديد للمنطقة بأكملها.

مفهوم التمدن
قبل البدء بالحديث عن مبادئ التمدن لابد لنا من التعريف والمعنى المقصود بمصطلح «التمدن الجديد» الذى تبناه رواد القرن التاسع عشر. فقد طرح أحمد فارس الشدياق (1887-1804) فى كتابه «كنز الرغائب فى منتخبات الجوائب» أن لفظ «التمدن» مأخوذ من كلمة «المدينة» وأن كلمة «مدينة» ما هى إلا مشتقة من «مَدَنَ» بمعنى «أقام» وليس من كلمة «دانَ» كما ورد فى قاموس المحيط.

(أحمد فارس الشدياق، كنز الرغائب فى منتخبات الجوائب، 3-1). كما أضاف الشدياق أنّه مهما كان أصل الكلمة فإن مرادف كلمة التمدن فى اللغات الأجنبية والتى لها علاقة بمعنى المدينة هو فى الظاهر عبارة عن استجماع كل ما يلزم لأهل المدينة من اللوازم البدنية والعقلية، فقولهم رجل متمدن، ينزل منزلة قولنا: «متأدب، كيس، خبير، وما أشبه ذلك. (أحمد فارس الشدياق، كنز الرغائب، 3-1).

وبحسب وصف الشدياق فإنّ مقابل كلمة التمدن «الحالة الهمجية، وهى الخالية من الترتيب والنظام». ثم يعود الشدياق ليؤكد بأن لفظة «التمدن لم يزل عليها ظالم الالتباس والإبهام» فصحيح أن الرجل المتمدن «متأدب كيّس خبير صاحب صنعة» إلا أنّ هذا الفهم لا يوضح إلا جانبا ضيقا من المعنى الحقيقى لهذا المصطلح العميق الدلالة. (الشدياق، كنز الرغائب، 3-1).

أما فى المعاجم العربية فترانا نجد أن مصطلح «التمدن» قد ورد فى قاموس المحيط للفيروز أبادى ولسان العرب لابن منظور إلى تاج العروس للزبيدى وجميعها تشير إلى أنّ مفردة «تمدن» تعنى فى الأصل «تمدُّن البدو» أى عيشهم عيشة أهل المدن والتكيف مع جوهم» أما تمدّن شعب ما فتعنى «دخوله فى مرحلة الرقى والحضارة والعمران» والحضارة وقد استعملت مرادفا من مرادفات التمدن التى شاع فهمها على أنها «الإقامة فى الحضر».

واعتبرت الحاضرة والحضارة فى مقابل البادية، وعادة مفهوم الحضر ما هو إلا خلاف للبدو، والحاضر خلاف الباد أى خارج العمران. ومنه نجد ارتباط كلمة التمدن بمفاهيم التقدم والعمران والاستقرار الجغرافى الذى يؤدى بدوره إلى الاستقرار فى العلاقات الاجتماعية فتفاعل المصالح وترابطها يؤديان إلى التعاون وإلى تنظيم العلاقات الاجتماعية وتطويرها فتنشئ الجماعة عمرانها وحضارتها الخاصة بها. وبهذا، فإن التمدن، بالمعنى اللغوى هو الانتقال من الحالة البدوية أو الريفية إلى الحالة المدنية ويرافق ذلك تحول وتغير فى الطبيعة الحياتية من خلال التأثر بروح المدينة وقيمها وثقافتها فالتمدن يوجد ذلك الفضاء الاجتماعى الذى يبث روح العصر التى هى مركز قوته (أى قوة التمدن).

وبغض النظر عن المعنى الحرفى للمصطلح إلا أننا نجد أن رواد القرن التاسع عشر قد أدركوا المعنى العميق للتمدن الجديد. فالتمدن الجديد وتبنى مفهومه المنهجى والإصلاحى لا يعنى التخلّى عن التراث الإسلامى العريق، بل القيام بغربلة نتخلص فيها من أعباء لا جدوى منها إلا أن تعيق انطلاقنا نحو الحداثة وذلك من خلال أحدث المناهج التعليمية والفكرية.

فتجازر عند هؤلاء المفكرين مفهوم التمدن من معناه الشكلى للمدينة ليتضمن معناه المعنوى بما تتضمنه من بيئة اجتماعية وفكرية وثقافية. فالتمدن الجديد لم يقتصر على مفهوم urbanity new فقط وإنما تجاوز ذلك المعنى ليتضمن civility new، أى ممارسة حياتية قائمة على نمط وقيم وثقافة وبيئة مدنية جديدة. وبذلك يكون مفهوم واسع متعدد الجوانب والأبعاد يتمحور بشكل رئيسى حول مفاهيم الحريات الشخصية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية والتعايش الدينى جميعها المفاهيم التى روّج لها فكر التنوير الأوروبى التى ألغت المطلق التقليدى وهمّشت سلطته القائمة على الماورائيات الدينية حيث سعت النخبة المثقفة العربية الــذكورية والأنثوية إلـــى تغيير أوضاع مجتمعاتها فيقول المؤرخ جرجى زيدان (1914-1861) عن مفهوم التمدن:

البحث فى تمدن الأمة يتناول النظر فيما بلغت إليه من سعة الملك والعظمة والثروة ووصف ما رافق تمدنها من أسباب الحضارة وثمارها ويدخل فى ذلك تاريخ العلم والأدب والصناعة ولــوازمــهــا كالمدارس والمكاتب والجمعيات وبسط حــال الــدولــة ومناصبها ومــا انتهت إليه من الرخاء وما هو مقدار تأثير ذلك فى هيئتها الاجتماعية، وذلك يستلزم وصف عادات الأمة وآدابها الاجتماعية ومناحيها السياسية وإسناد ذلك إلى أسبابه وبواعثه. (جرجى زيدان، تاريخ التمدن الإسلامى، 15).

شقّا التمدن: المعنوى والمادى
مثّل الشق المعنوى عند المثقفين العرب التطورات المجتمعية المعنوية بجوانبها كافة من عدالة ومساواة وحريات وديمقراطية سياسية وتعايش دينى وجميع القواعد التى تحدد سلوك الأفراد فى المجتمع تجاه الآخرين، فعلى سبيل المثال ركز المفكر بطرس البستانى (1883-1819) على مفاهيم «الوطن» و «الوطنى» و«الحريات» و «الأمة» وما إلى ذلك من العبارات والدلالات المعنوية والمستعارة من التجربة الأوروبية. (Albert Hourani, Arabic Thought, 91) فى حين ركّز المثقفون على الشق المادى فمثلا وصف الــشــديــاق مـعرض لندن الدولى عام 1851 وجــنــاح إنجلترا «Crystal Palace» الذى رأى فيهما التمدن الجديد فوصف نهر التايمز «هذا النهر مبنى عليه عدة جسور أحدها وهو أول ما يراه القادم إلى لندره الجسر الذى يقال له جسر لندن. مبنى من حجر صلب ويشتمل على خمس قناطر عــنــده عــامــود شاهق مــن حجر وتمثال للملك ولـيـم الرابع من رخام».

حظيت شوارع المدينة وتقسيم طرقها وأنماط البناء باهتمامٍ كبيرٍ من الشدياق فأورد فى وصفه اللفظ الفرنسى «البلفار» كما استعمل «الشانزليزية» وقــدم مقارنة لمظاهر المدينة من شوارع واسعة وما يحيط بها من أشجــار تحيط بجوانب مدينة بــاريـس وما يماثل تلك الأمــاكــن فــى لـندن فبحسب رأيه، يتميز «البلفار» الموجود فى باريس عن لندن بحدائق مستديرة مخصوصة. فى حين ربط جرجى زيدان بدوره مظاهر العمران الجديد بطرق تزيين المدينة، واصفا البعد الفنى والجمالى لشوارع لندن «لا يستطيع المار فى شوارعها وساحاتها غير الإعجاب بما يراه منصوبا هناك مــن التماثيل الفخيمة.» فالبعد المادى للمدينة يشمل الجوانب الطبيعية والبيئة للمدينة الحديثة ومدى الاختلافات بينها وبين المدينة القديمة من حيث التوسع الحضارى والبنيانى وطــرق البناء الجديدة واعتمادهم على التمدن الجديد بما يتضمنه من تقنيات جديدة من طرق مواصلات وأشكال بناء وخدمات وعمران.

(رفاعة الطهطاوي، مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية، 6، 1912).

يعتبر رفاعة الطهطاوى (1801-1873) واحدًا من «الجيل الأول» من المثقفين الليبراليين البارزين فى القرن التاسع عشر من الذين قدّموا الأفكار التنويرية الليبرالية الفرنسية إلى العقول العربية. تمّ إيفاد الطهطاوى إلى فرنسا مع البعثة العلمية التى تمّ إرسالها لدراسة المجتمع والثقافة الفرنسية وإعادة العلوم والتطورات إلى مصر. أدرك الطهطاوى أهمية الفرصة فبدأ بدراسة المجتمع الفرنسى فرحلة هذا الشيخ الأزهرى إلى فرنسا قلبت مجرى حياته وصنعت له تاريخًا مختلفًا فالطهطاوى بعد فرنسا هو غير الطهطاوى الذى كان قبلها.

(عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد علي، 433-431). عاد الطهطاوى إلى مصر بعد قرابة خمس سنوات (1826-1831) بعد أن قام بتدوين كل ما رآه وسمعه فجمعه فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» الذى روى فيه انطباعاته ومشاهداته عن فرنسا فوصف الطهطاوى فى كتابه «الأفكار الليبرالية الحديثة»، وأعطى أهمية كبيرة للعلاقات التى أقامها مع العلماء الفرنسيين حيث أشاد بالتطور العلمى وأعجب بتنظيم الباريسيين الذين كانوا يسعون باستمرار للتقدم فى علمهم وعملهم كما لم يخف انبهاره بهندسة العمران وطريقة تعامل الرجال مع النساء والمساواة بين الأغنياء والفقراء أمام القانون. (عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد علي، 439).

فالطهطاوى الذى يعود أصله إلى صعيد مصر كان قد تلقى تعليمه فى مدرسة الأزهر حيث تتلمذ على يدى الشيخ حسن العطار الذى عايش الحملة الفرنسية بشكل مباشر حيث زار العطار المجمع العلمى الفرنسى فى مصر وعاين التقدم الغربى وسمع الطهطاوى منه عن علوم الفرنسيين وفنونهم وأهمية الوقوف على حضارة الغرب وثقافته. (الطهطاوى، تخليص الإبريز، 226).

وذلك بعد أن أدرك أهمية التمدن الغربى خاصة فى المجال العام أو ما سماه فيما بعد «بالمنافع العمومية». كان رفاعة الطهطاوى من أوائل من استخدم فى كتاباته مفهوم «التمدن» بمفهومه الجديد إذ تبنى الفهم الفرنسى فــى تفكيك المصطلح وتقسيمه بشكل مباشر إلــى قسمين: التمدن المعنوى وهو التمدن فى الأخلاق والعوائد والآداب، والقسم الثانى هو التمدن المادى أى التقدم فى المنافع العمومية بالزراعة والتجارة والصناعة ويختلف قوة وضعفا باختلاف البلاد وهو لازم لتقدم العمران. (الطهطاوى، تخليص الإبريز، 81-80).

كما أكّد على مدى الحاجة إلى العلوم والفنون وضرورة الاستفادة منها «وهذه الفنون إما واهية فى مصر أو مفقودة بالكلية.» (الطهطاوى، تخليص الإبريز، 17).

وبما أن الطهطاوى شيخ أزهرى فإنه يعى بما قد يعترض موقف الاقتباس من الغرب من حساسيات وإشكاليات فحاول تــبــديــد تلك الــهــواجــس والمخاوف وذلك بإيـضـاح المفهوم للعامة من خلال شرح مشاهداته التى أتيحت له عبر الاطــلاع على المدنية الأوروبية فحـاول تعريف مفهوم التمدن بالمعنى الشمولى:
«إن» للتمدن أصلين، معنوى وهو التمدن فى الأخلاق والعوائد والآداب ويعنى التمدن فى الدين والشريعة وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة التى تسعى باسم دينها وجنسها للتميز عن غيرها. والقسم الثانى تمدن مادي، وهو التقدم فى المنافع العمومية». (الطهطاوى، مناهج الألباب، 6).

فبحسب رأى الطهطاوى البعد المعنوى للتمدن يتضمن على جوانب إنسانية نبيلة كالأخلاق الحميدة والآداب الدينية والتأدب والدبلوماسية والخبرة وجميع المبادئ التى تحدد السلوك الأخلاقى الجيد فى المجتمع:
تمدن الوطن عبارة عن تحصيل ما يلزم لأهل العمران من الأدوات اللازمة للتحسين حسّا ومعنى وهو فوقانهم فى تحسين الأخلاق والعوائد وكمال التربية وحملهم على الميل إلى الصفات الحميدة واستجماع الكمالات المدنية والترقى فى الرفاهية. (محمد عمارة، الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوى، 469).

كان لفلسفة الأنوار تأثير واضح فى تشكيل وعى جديد لدى الطهطاوى فاستخلص أن الأسس والمبادئ التى قام عليها التمدن الأوروبى يتمثل فى تحقيق العدالة والمساواة والحرية والتى لا تصح البلاد بدونها كقاعدة أساسية لكل نظام سياسى فيقول:
«إن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد وانقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم..... والعدل أساس العمران». (الطهطاوي، مناهج الألباب، 96).

أوضح الطهطاوى أن البعد المادى للتمدن يشمل كل شيء من تصميم الملعقة إلى تصميم المدينة كما يشمل جوانب كالصناعة ووسائط النقل والهندسة المعمارية والبيئات المبنية وطرق البناء الجديدة.

وبين الطهطاوى أن الشق المادى فى مقومات المدينة الجديدة الأوروبية يتمثل فى عمران مدينة باريس التى مكث فيها فهى كما وصفها «من أعمر بلاد الدنيا ومن أعظم مدائن الإفرنج.... الأمة الفرنساوية. ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعلقها بالفنون والمعارف، فهى أعظم أدبا وعمرانا».

(الطهطاوي، تخليص الإبريز، 129). فالتأمل فيما حققه الغرب من تطور والتفاعل مع ما حققه من إنجازات ليس زيغا دينيا «فمخالطة الأغراب لاسيما إذا كانوا من أولى الألباب تجلب للأوطان من المنافع العمومية العجب العجاب». (الطهطاوي، مناهج الألباب، 94).

وقد اقترنت كتابات الطهطاوى بالإعجاب حينًا وبالدهشة أحيانًا أخرى فما شملته المدينة الجديدة من العمارة وتخطيط الشوارع والمتنزهات له بالفجوة بين ما آلت إليه المدينتان ففرنسا بلاد محكمة التنظيم فيها وسائل نقل متنوعة «الأمنيبوسة معناها لكل الخلق وهى عربات كبيرة تسع كثيرا من الخلق مكتوب على بابها أنها تمشى إلى الحارة الفلانية فكل الناس ذاهبون إلى حارة واحدة يركبونها... وهى موجودة فى أمهات خطط باريس». (الطهطاوي، تخليص الإبريز، 169).

 كما أنه هناك «من العربات جنس ينقل أمتعة البيوت،... وقد يسحبها حصان، وقد يسحبها حمار، وقد يسحبها شخص واحد أو مع كلبه.» (الطهطاوي، تخليص الإبريز، 169).

ومن العمران الجديد فى المدينة الباريسية هو المطاعم «الرسطوطورات.... بيوت الأكل وفيها سائر أنواع الطعام والشراب.» كما أسرف الطهطاوى فى وصف مقاهى باريس حيث اعتبرها مكان تجمع الأغنياء فهى مزينة بأشياء براقة مزودة بالتحف الغالية وطاولات مصنوعة من خشب فاخر فتتسم بالاتساع وهى مملوءة بالمرايا والزجاج فيظهر له منها رونق عظيم واندهاش طريف:

بدا جماعة داخلها أو خارجها ظهرت صورهم فى كل جوانب الزجاج، ظهر تعددهم مشياً وقعوداً وقياماً، فيظن أن هذه القهوة طريق، وما عرفت أنها قهوة مسدودة إلا بسبب أنى رأيت عدة صورنا فى المرآة، فعرفت أن هذا كله بسبب خاصية الزجاج. (الطهطاوي، تخليص الإبريز، 54).

أما فى وصفه للمسارح فقد رأى الطهطاوى أنه يقدم مشاهد من واقع الحياة بشقيها الجدى والهزلى فيقول فى وصف هذه التياترات «بيوت عظيمة لها قبة من داخله وفى جانب من البيت مقعد متسع يطل عليه من سائر هذه الأرض.... وهو منور بالنجفات العظيمة.» (الطهطاوي، تخليص الإبريز، 170). 

ولم ينس الطهطاوى فى وصفه للتمدن المادى تصميم المنازل والشوارع التى جعلت المياه تتدفق فى الأبنية وتشق طريقها إلى القنوات بشكل فريد. كما كان الفرنسيون يدفئون أنفسهم أثناء الطقس البارد بالمدافئ داخل منازلهم وفنادقهم ومصانعهم ومتاجرهم فالتصاميم المعمارية الفرنسية والحرفية المزخرفة للمبانى تسر الناظرين دون بذخ أو تفاخر «إلا أنه لا يوجد... من الأحجار الكريمة كما يوجد ببلادنا ببيوت الأمراء الكبار بكثرة، فمبنى أمور الفرنساوية فى جميع أمورهم على التجمل لا على الزينة وإظهار الغنى والتفاخر.» (الطهطاوي، تخليص الإبريز، 123).

وحمل مفهوم «التمدن» أبعادا عميقة تصف التقدم العمرانى والاجتماعى الذى كان يحدث فى أوروبا وبدأ بدوره يتسلل إلى القاهرة ومنها إلى العواصم. ذهب العديد من هؤلاء المفكرين لأوروبا ليعودوا وهم مشبعون بالأفكار الحديثة حاملين رؤيتهم الجديدة ليصبحوا مؤرخين وعلماء ومهندسين وباحثين داعين إلى التغيير الحتمى الذى سيوصلهم إلى التمدن الجديد حيث قدم هؤلاء المفكرون ومنهم الطهطاوى والشدياق وغيرهما من رواد القرن التاسع عشر مفهوما مختلفا عن التمدن كما أبدوا رغبتهم بمواكبة الحياة الحضرية الجديدة التى ساهمت بفرض واقع لمعنى التمدن والعمران. أدّت هذه التحولات إلى ظهور أسلوب جديد للحياة الحديثة ساعد العواصم العربية وأولها القاهرة إلى التحول من مدن العصور الوسطى إلى مدن عالمية حديثة.

العمران الجديد 
يذكر المستشرق النمساوى غوستاف جونبوم (Gustave Von Grunebaum) أن السبب الرئيسى لعدم الاتساق فى التخطيط الحضرى فى المدينة فى ذلك الوقت هو عدم وجود هيئة إدارية تدير تطوير هذه المدن فلم تكن هناك قوانين، أو لوائح بناء، أو إرشادات، أو لوائح لاتباعها «فى المدينة عدة فسحات عظيمة تسمى المواضع يعنى الميادين، كفسحة الرملية بالقاهرة، فى مجرد الاتساع لا فى الوساخة». (الطهطاوي، تخليص الإبريز، 81).

فى حين أن المدينة الفرنسية فيها «أبنية محكمة البناء والإتقان وامتلائها و«اتساع السكك والطرق اتساعا مفرطا لمرور جملة من العربیات معا فى طریق واحد».

(الطهطاوي، تخليص الإبريز، 62).  يذكر المؤرخ والمستشرق الفرنسى أندريه ريموند «أن عرض الشوارع يزداد تناقصا بسبب تعديات السكان المقيمين وبناء مصاطب أمام الحوانيت وشرفات المنازل بارزة نحو الشارع».

(أندريه ريموند، المدن العربية الكبرى فى العصر العثمانى، 161) حتى إن هذه الشوارع أصبحت متعرجة ومليئة بالعواطف حيث يذكر المستشرق Torres Balbás أن الشوارع كانت متعرجة لدرجة أن أحد أزقة المدينة كان اسمه «زقاق الاثنى عشر عطفة» وآخر اسمه زقاق «السبع عطفات».

(ريموند، المدن العربية، 161). وهذا لا يعنى أن قاطنى هذه المناطق لم يكونوا على دراية بتلك الأخطاء لذلك كان أول ما لمسه الطهطاوى هو الفجوة الحاصلة بين تنظيم المدينتين.

يعتبر على مبارك (1823-1893) من الرواد المثقفين فى مصر فى القرن التاسع عشر وهو من الشخصيات البارزة التى ساهمت بشكل كبير بإعادة إعمار القاهرة وتحديث نظام التعليم فى مصر وذلك ليصبح على غرار النموذج الفرنسي.

وُلِد مبارك فى بيرنبال وهى إحدى القرى المصرية ثم التحق بمدرسة حكومية إعدادية قبل أن يصبح طالبًا فى المدرسة الأولى للهندسة المهندسخانة. تمّ اختيار مبارك بسبب نجاحه وتميزه ليكون ضمن البعثة الطلابية التى أرسلها محمد على إلى فرنسا عام 1844.

درس مبارك فى باريس واستطاع إتقان اللغة الفرنسية فى وقت قصير وحين عودته عُيّن للخدمة فى مدرسة لضباط المدفعية والمهندسين العسكريين ثم أصبح فيما بعد مديرًا للنظام التعليمى بأكمله فى مصر.

فكانت حياة مبارك المهنية غنية فى الخدمة العامة التى شملت وزارة التعليم والأشغال العامة والسكك الحديدية فانتقد حالة التخطيط والعمارة فى مصر ولم يخفِ رغبته فى نسخ النماذج الفرنسية وتبنى الأفكار الأوروبية. (عبد الرحمن الرافعى، عصر إسماعيل، 210-208).

قدّر على مبارك أن هناك حوالى 1290 شارعًا فى مدينة القاهرة الشوارع الكبيرة منها هى 133 شارعًا والباقى ما هو إلا عبارة عن أزقة متعرجة صغيرة وحارات نافذة وغير نافذة صُممت لمدينة صغيرة ذات شوارع ضيقة كان عرض تلك الشوارع يتراوح بين 75 سم إلى 4.5 متر والتى كانت تلائم بدورها لمرور الحيوانات وليس العربات. (على مبارك، الخطط التوفيقية القاهرة، 1:82).

كان ضيق هذه الشوارع العامل الرئيسى وراء حالة الفوضى العمرانية التى تعيشها المدينة فالمصاطب الحجرية التى نُصبت أمام المحلات التجارية جعلت من هذه الشوارع ضيقة جدًا.

ومن المفارقات أنه خلال انتفاضات الشعوب فى العديد من المدن العربية على الحال البائس التى هم عليها منعت تلك الشوارع والأزقة الضيقة الجيش العثمانى من نقل مدافعه لقمع المنشقين. وفى عام 1814 ضمّ موكب زفاف ابنة محمد على (على 91 عربة)، حيث كانت من المفترض أن تقوم تلك العربات بعرض أفضل أعمال الحرفيين فى المدينة لكن بسبب ضيق تلك الشوارع تعذر مرور ذلك الموكب لذلك وقبل يومين من الزفاف بدأت شرطة محمد على بإزالة جميع الكراسى والمصاطب الحجرية الموجودة أمام المحلات. بسبب هذه الواقعة قرر محمد على إنشاء طرق جديدة فاقترح على مستشاريه أن تكون واسعة بما يكفى للسماح لجملين بالمرور دون عوائق.

يذكر مبارك أن عدد سكان القاهرة لعام 1882 قد بلغ 374838 فى حين أن عدد السكان كان قد وصل بحسب الإحصاءات لعام 1872 إلى 349883 فى حين أن تعداد سكان القاهرة بحسب الخطط الفرنسية قد بلغ 260000 وبمقارنة بين الإحصائيات التى قامت بها الحملة الفرنسية والإحصاءات اللاحقة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر يتبين أن تلك الزيادة السكانية بحسب رأى مبارك كان سببها التحسينات والتوسع العمرانى للمدينة.

(مبارك، الخطط التوفيقية، 1:98). ومع حلول عام 1897 وبظل التوسع العمرانى فقد زاد عدد سكان المدينة ليصل إلى 590000 وعلى الرغم من أن مصر كانت لا تزال تحت الحكم العثمانى إلا أ نها كانت تحت الحكم البريطانى لمدة خمسة عشر عامًا تمتع المواطنون الأوروبيون خلالها بالإعفاءات والامتيازات وأسلوب حياة فاخر وذلك بسبب احتكارهم للمناصب المهمة داخل الحكومة فأصبحت مصر وأوروبا متشابكة العلاقات فى هذه السنوات الحرجة إضافة إلى التغيير الزراعى والديموغرافى فتغير وضع مصر عالميا وتوسعت عاصمتها القاهرة وتطورت لأول مرة منذ القرن الرابع عشر.

نماذج من العمران الجديد
كان الطهطاوى «أول عين عربية تأملت فى وعى عميق من موقع المحب الناقد لحضارة الغرب الحديثة متمثلة فى حضارة الفرنسيين.» (عمارة، الأعمال الكاملة، 93). فقدم الطهطاوى مفهوما جديدا للتمدن أطلق عليه اسم «المنافع العامة» حيث قام بشرح تفصيلى عن هذا المفهوم وفروعه وأقسامه فى كتابه «مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية» الصادر عام 1869م.

دافع الطهطاوى عن هذا النهج الذى كان بالفكرة الجديدة فى ذلك الوقت فصاغ المصطلح ليعكس معنى الكلمة الفرنسية «الصناعة» وذلك بتحويل الموارد الطبيعية التى خلقها الله إلى مواد مفيدة للبشر.

اعلم أنّ ما عبرنا عنه هنا بالمنافع العمومية يقال له فى اللغة الفرنساوية: إندوستريا، يعنى التقدم فى البراعة والمهارة ويعرف بأنّه فن به يستولى الإنسان على المادة الأولية التى خلقها الله تعالى لأجله، مما لا يمكن أن يُنتَفع بها على صورتها الأولية فيجهزها بهيئات جديدة يستدعيها الانتفاع وتدعو إليها الحاجة كتشغيل الصوف والقطن للباس الإنسان وكبيعهما فبهذا المعنى يقابل الإندوستريا وتكون عبارة عن تقديم التجارة والصناعة فيقال: الملك الفلانى يشوق الزراعة والإندوستريا أى التجارة والصناعة، يعنى يسعى فى تقديم المنافع العمومية».

أدرك الطهطاوى أن المنافع العامة تعبر عن الكلمة الفرنسية «الصناعة» والتى تعنى التقدم والبراعة والمهارة لكنها تعنى أيضا التقدم فى الصناعة والتجارة والتى جميعها ستساهم فى تطوير التمدن الجديد.

وشرح أنه على سكان المدن أن يستفيدوا من الإدارة المنظمة للأموال العامة التى بدورها ستوفر الراحة للجميع فالمنافع العامة تتطلب إقامة العدل ونظام مدنى واقتصاد مزدهر.

وتطلق بمعنى آخر أعم من الأول، فتعرف بأنّها فن الأعمال والحركات المساعدة على تكثير الغنى والثروة وتحصيل السعادة البشرية، فتعم التشغيلات الثلاثة الزراعية والتجارية والصناعية وتقديمها، فتكون مجمع فضائل المنافع العمومية، وكثرة التصرف والتوسيع فى دائرتها، ثم إنّ براعة المنافع العمومية بالمعنى العام، متولدة من كون الإنسان له اختيار وميل إلى ما فيه نفعه، وإلى قضاء وطره، وإلى تحصيل حوائجه المعاشية، وأنّه محل لهذه الفضائل.

على الرغم من افتتان الطهطاوى بفنون الحكم والتخطيط الحضرى والنظام المدنى الجديد والمدينة المنظمة والتخطيط العمرانى لمدينة باريس إلا أن كلامه كان يشوبه الحسرة لعدم انتظام الشوارع فى مصر والطرق المسدودة والأوساخ المتراكمة.

وبما أن الطهطاوى كان شيخا أزهريا فقد كان حريصًا على تأطير خطابه حول الأفكار الليبرالية الغربية وذلك من خلال النظر بعين التقاليد الإسلامية وجعل المجتمع يناقش الجوانب المختلفة مما يتيح لهم التعرف على الأفكار المدنية الجديدة.

فكان الطهطاوى مفكرًا ليبراليًا مبكر النضوج طوّر العديد من الأفكار المدنية الحديثة فشدد الطهطاوى على أن مفهوم المنافع العمومية هو الركيزة الأساسية للتمدن والتى تقوم بدورها بتحسين الزراعة فحينما تكون الزراعة واسعة ومزدهرة فإننا حينها نصل إلى التمدن لأنها تسير جنبًا إلى جنب مع الازدهار فإن ما وصل إليه الغرب من تقدم ما هو إلا لفهمهم لمعنى المنافع العمومية حيث بحسب رأى الطهطاوى «بلغت أقصى مراتب البراعة والعلوم الرياضية والطبيعية وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها». (الطهطاوي، مناهج الألباب، 96).

على الرغم من أن الطهطاوى قد شهد على أمثلة عن التنمية الزراعية فى المناطق الريفية فى مصر إلا أنه ذكر أن الزراعة المزدهرة لا تكفى لتحقيق التمدن والعمران فيجب على الزراعة أن تسير جنبًا إلى جنب مع الصناعة من أجل النهوض وتحقيق مركز حضرى كما بين على أهمية الجمع بين الزراعة والصناعة معا مستخدما الصوف والقطن كمثال حيّ: يمكن غزل الصوف أو القطن إلى خيوط والتى يمكن تحويلها بدورها إلى ملابس ثم يمكننا بيع هذه الملابس مقابل المال ويمكن استخدام الأموال لشراء سلع أخرى.

(الطهطاوي، مناهج الألباب، 101). وأوضح الطهطاوى أنه يمكننا تحقيق «المنافع العمومية» من خلال الفطنة التجارية وزيادة الوفرة الإنتاجية، ففى رأى الطهطاوى يمكن استخدام ثروات البلاد لتحسين أوضاع الناس كما يتعين التضحية والتنازل عن بعض المنافع الشخصية من أجل تحقيق مكاسب كبرى تعود على الأمة بأكملها. فالصناعة توظف العديد من العمالة التى تساهم بدورها وبالمهارات المتخصصة لإنتاج سلع وتقديم خدمات قيمة فى الأسواق فالأرباح ستأتى من بيع هذه السلع أو الخدمات فيستفيد الناس بدورهم من تلك الموارد التى يتم تداولها مقابل المال والتى بدورها سيتم استبدالها بمنتجات وخدمات أخرى. فعمل الزراعة والصناعة والتجارة معا سيؤدى حتما إلى نمو وازدهار الاقتصاد الوطنى وهى من أهم السمات للوصول للتمدن الجديد.

خلاصة
شهدت مصر خلال القرن التاسع عشر سلسلة من التطورات فى البنية العمرانية والتى أثرت بدورها على شكل المدينة الجديد. ساهم جزء كبير من الشخصيات البارزة والمحورية فى ذلك الوقت من الذين سافروا إلى أوروبا حاملين معهم إلى أوطانهم أنماطًا جديدة لمفهوم التمدن الحضرى الأوروبى الجديد. كان العديد من تلك الشخصيات منفتحًا ومرحبًا بتلك الأنماط الغربية الحديثة وكانوا حريصين على تطبيقها فى مدنهم وتحديداً فى القاهرة.

لقد تأثر هؤلاء العلماء كثيرًا بالتطور المدنى الجديد الذى عاينوه فى أوروبا وأرادوا تطبيق مشاهداتهم فى أرض الوطن وهو ما أطلقوا عليه اسم «التمدن الجديد».

على الرغم من أن العديد من الدراسات كانت قد أظهرت عن إحجام رواد القرن التاسع عشر عن تبنى الأفكار الغربية إلا أن هذه الدراسة قد كشفت مدى حماسة المثقفين لقبول المدنية الجديدة، بل ورغبتهم فى الوصول إلى التمدن الغربى.

دافع مفكرو القرن التاسع عشر بمن فيهم الطهطاوى ومبارك وغيرهما عن تلك المبادئ الجديدة للوصول إلى الحداثة والتغيير. تتبعت هذه الدراسة ظهور التمدن الجديد كل بحسب مشاهداته وفهمه للتطور الأوروبى فى القرن التاسع عشر حيث حاولوا نقل التجربة الغربية كل بحسب رؤيته.

كان التمدن مرحلة جديدة من التطور الحضرى الذى أدخله مفكرو القرن التاسع عشر إلى مدينة القاهرة، فأحدث تغييرات مجتمعية على العديد من المستويات. كان الفن والعمارة بشكل خاص مجالين مهمين لتحقيق التنمية حيث قرّبا العالم المصرى العثمانى من أوروبا وذلك من خلال إيجاد أرضية مشتركة تعتمد على الفنون والعلوم العقلانية. بدأ مفهوم التمدن فى الانتشار من خلال تسجيل أولئك المفكرين مشاهداتهم لرحلاتهم إلى أوروبا فى القرن التاسع عشر واستكشاف الآثار الواسعة التى يمكن أن تجنيها البلاد من خلال تبنى مفهوم «التمدن الجديد» الذى ساهم بشكل أو بآخر بتغيير وجهات النظر التقليدية وتغيير وجه المدينة ككل.