«سيزا قاسم» السيدة الحديدية علما وإنجازا وكمالا

سيزا قاسم
سيزا قاسم

منذ أن كنتُ، طفلًا، وقبل أن أعرف من هى سيزا قاسم، وأنا أسمع من حين إلى آخر اسم سيزا قاسم يتردد على لسان أبى وصديقه عبد المنعم تليمة، وبالطبع وبحكم ندرة وغرابة الاسم؛ فما كان لهذا الاسم أن يسقط من ذاكرتي، أو يتوه فى زحام الأسماء المألوفة والمكرورة. لكن أول معرفة مباشرة لى بسيزا قاسم كانت عام 1980 وأنا فى السنة الأولى فى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، حيث رأيتها وجهًا لوجه فى مدرج (78) فى حفل تأبين الراحل الكبير عبد العزيز الأهواني، تحديدًا فى ذكرى أربعينه.

وكان فى الحقيقة تأبينًا جليلًا ومَهِيبًا، وقد ألقت فيه سيزا قاسم كلمة مؤثرة وشاجية تنم عن إجلال كبير لأستاذها، هذا العالم الكبير الشامخ. وكانت هذه أيضًا أول مرة استمع فيها لعبد الرحمن الأبنودى وجهًا لوجه على الرغم من أنه كان حينها طالبًا فى ليسانس اللغة العربية. وقد أنشد ليلتها رائعته البديعة ’’الخواجه لامبو العجوز مات فى إسبانيا‘‘ مُهدِيًا إيَّاها إلى روح الأهوانى بحكم اشتغال الأهوانى بالأندلسيات وبحكم علاقته بإسبانيا فى نوع من المُمَاهَاة والمُمَاثَلَة بين ما كان يحمله الأهوانى من قيم نبيلة ورفيعة وما تحمله شخصية لامبو أيضًا من قيم سامية ونبيلة. 

اقرأ أيضاً| خيري دومة.. سيزا قاسم ونيكوس كازانتازاكي

فى هذا السياق الجليل عرفتُ سيزا قاسم، وهى تُؤدِّى طقسًا من طقوس الحب والوفاء تجاه واحد من أحب أساتذتها إليها وأحب أستاذ لكل من أحبَبْتُهم واحترمْتُهم من أساتذتى أنا شخصيًا. ثم أخذت المعرفة تتزايد وتتعمق تدريجيًا عبر لقاءات عديدة ومتواترة داخل قسم اللغة العربية وأنا معيد مع أساتذتى عبد المنعم تليمة، وعبدالمحسن بدر، ونصر حامد أبو زيد، وجابر عصفور، وكذلك فى سيمنارات القسم والتى كان منها سيمنار باسم عبد العزيز الأهواني، وهو السيمنار الذى قدَّمت فيه دراستها البديعة عن «توالد النصوص وإشباع الدلالة: تطبيقًا على تفسير القرآن». ثم أخذت تدعونى بعد ذلك لزيارتها وتوثَّقت علاقتى بها وكنت كثيرًا ما اتصل بها لأسألها عن معلومة أو عن مرجع، وأخذت العلاقة تتعمق وتتوثَّق مع الزمن.

والحقيقة أننى منذ أن عرفتُها وهى تمثل لى نصًا إنسانيًا وأكاديميًا حافلًا بالقيم والمبادئ الجليلة والجميلة والراقية هذه القيم التى تتمثل في:
الجدية، الإخلاص، الدأب، المثابرة، الإتقان، دفع أجيال جديدة للعمل والمشاركة ونقل منظومة القيم الجادة إليهم، الصرامة فى العمل، وعدم المساومة على القيم العلمية والأكاديمية بأى صورة من الصور، عدم خلط القيمة العلمية بالمصلحة الشخصية، أو بالمجاملة مهما كانت علاقة الأفراد بها ومهما كان ما تَكِنُّه من حب لهؤلاء الأفراد.

فهى فى هذا الجانب سيدة حديدية بكل معنى الكلمة، ولا شك أن حديديتها تلك حديدية موجبة ومحمودة؛ لأنها ليست حديدية القسوة أو التسلط والتعالي، وإنما هى حديدية الجدية والرغبة فى التعلم والعمل والإنجاز والكمال، ودفع الآخرين أيضًا نحو هذه القيم، وبالطبع شتَّان ما بين كلا النوعين من الدوافع، دوافع الإتقان والكمال ودوافع التعالى والتسلط. 

وقد ظلت سيزا قاسم تُجسِّد هذه القيمة منذ أن عرفتُها وحتى آخر عدد صدر من مجلة ألف، وهو العدد الخاص بالموت، وكانت هى المُشْرِفة على تحريره، وكانت لى دراسة بعنوان «مرثية لاعب سيرك والخواجة لامبو العجوز: قراءة نصية مقارنة فى شعرية السقوط والموت»، وهى دراسة سبق لها أن قرأتها وقيَّمتها تقييمًا إيجابيًا جدًا وأثنت عليها ثناء جعلنى فى قمة السعادة والفرح، ولكن لأننى لم ألتزم بإجراءات التقدم ومساراتها، نتاج عدم معرفتى بأن هناك عددًا عن هذا الموضوع؛ فإنه لم يُتح لى نشر هذا المقال فى هذا العدد من ألف. 

وبالطبع ما كان لى أن أفكر، ولو لحظة حتى، فى أن أطلب منها أن تتغاضى عن هذا الأمر، أو أن أمارس دلالًا عليها بحكم ما أعلمه من محبة لى لديها، ربما لو كان شخص آخر هو المسئول عن العدد، ربما كنتُ قد فكرتُ فى أن أطلب منه أو منها هذا، ولكن معرفتى بها جعلتنى لا أفعل، ولا ألمِّح لها حتى عن الأمر؛ ذلك لأننى أعلم علم اليقين أنه لا مجال لديها للمجاملة فى أمور من هذا النوع، رغم معرفتى الأكيدة من مدى محبتها وتقديرها لي.. ولكنى أعلم أيضًا أنها لا تُساوِم ولا تُساوَم على مبدأ، ولا تقبل أن تتغاضى عن قيمة تؤمن بها، أو أن تُوصَم للحظة بأنها تميز أحدًا على أحد لقربه منها. هذه هى سيزا الأستاذة التى عرفتها معرفة وثيقة منذ أن كنتُ معيدًا والتى ظلت تمثل لى قيمة من القيم العلمية الرفيعة القليلة التى ظللتُ أحترمها على مدار حياتى العلمية والأكاديمية. هذه هى سيزا قاسم الأستاذة والنجمة الشامخة على صعيد القيم الأكاديمية، والإنسانة الشديدة الرقى والتواضع على الصعيد الإنسانى أيضًا، إنها سيزا قاسم المُحبِّة والمُحْتَضِنَة والمُشجِّعة دومًا للطلاب المُبشِّرين الذين ترى فيهم بارقة اجتهاد ما أو علامة صدق وطموح معرفى حقيقي.

 إننى لا أنسى أبدًا موقفها مع أحد أصدقاء عمرى الأحباء، المرحوم محمد عبد الحميد، وهو يُعِد رسالته للماجستير فى علم اجتماع الأدب فى منتصف الثمانينيات بعنوان «البناء السياسى فى أعمال يوسف إدريس»، وكيف احتضنته، رغم أنها لم تكن مشرفة عليه، وكيف كانت تمده بالمراجع والأبحاث والمقالات الأجنبية فى مجال علم اجتماع الأدب الذى كان مجالًا جديدًا تمامًا على الثقافة العربية فى تلك الآونة، كيف كانت تُشجِّعه، كيف كانت تدعمه، ومدى سعادتها به لاقتحامه هذا المجال الجديد، وقد ناقشتْهُ فى النهاية وكانت مناقشة مشهودة فى أواخر الثمانينيات، رحمه الله هذا الصديق الجميل الراقي.

 كما لا أنسى أيضًا ما فعلتْه معى وأنا أقترب من إنهاء الماجستير؛ إذ فُوجِئتُ بأستاذى الحبيب والعزيز على قلبي، الأب والصديق الجميل عبد المنعم تليمة، رحمة الله عليه، يعطينى ظرفًا مُغْلقًا ويقول لى «هذه هدية د. سيزا لك لطباعة رسالتك». هكذا، إنها لكى لا تحرجنى تركت هذا المبلغ مع أستاذى العزيز الراحل عبد المنعم تليمة وحين قاومت الدكتور عبد المنعم، ورفضتُ أن آخذ المبلغ، زجرنى وقال لى ’’سيزا سوف تزعل جدًا لو رددتَ هديتها لك، أنت فى مقام ابنها‘‘، تلك هى سيزا قاسم كما عرفتها، فضلًا عن مودتها واطمئنانها الدائم على أصدقائها وتلاميذها، وأسعد بالطبع لكونى واحدًا منهم رغم أنها لم تُدرِّس لى يومًا، ولم أتتلمذ على يديها بشكل مباشر، إلا أن المُؤكَّد هو أننى تعلمتُ منها أكثر مِمَّا تعلمتُ من كثيرين درَّسوا لي. إن سيزا قاسم سيدة تحمل من قيم العلم والمعرفة والثقافة بقدر ما تحمل من القيم الإنسانية السامية والراقية.

وهى تجمع فى إهاب واحد معًا نموذجين تربويين مع طلابها وتلامذتها، نموذج الأم الصارمة الحاسمة تجاه أى تراخٍ أو تقصير علمى أو ميوعة فى شئون العلم والمعرفة، ونموذج الأم الراعية الحانية والحاضنة على الصعيد الإنساني. وهى تجمع بينهما باقتدار لافت، وسلاسة مُدهِشة،  دون أدنى تعارض. وقد شهدتُ هذا معها بأشكال مباشرة وغير مباشرة.

أتذكر أيضًا أننى فى أحد اللقاءات معها إبان عملى فى المجلس الأعلى للثقافة، تقريبًا عام 2013، سألتُها، بحكم علمى بدأبها ومتابعتها الدائمة للإنتاج الجديد فى مجال النقد والبلاغة عن أحد المقالات الإنجليزية الحديثة، وكان عن الكناية، فقالت لى لا، وإذا بي، بعد حوالى أسبوعين، تصلنى رسالة منها، وفيها المقال؛ وبالطبع فقد اشترته لترسله إلي، وبقدر ما استشعرت الحرج حينها، بقدر ما سعدت بالمقال وبما فى لمستها الإنسانية من مودة وحب وحنو، وحين قلت لها لِمَ كلفتِ نفسك أستاذتنا؟ كان ردها أنت ابنى يا طارق. هذه سيزا قاسم التى تعلمت وتعلم كثيرون منها من أبناء جيلى ومن غير أبناء جيلى الكثير.

ولعل من أبرز ما يميز شخصية سيزا قاسم هو قدرتها الدائمة على التعلم والتساؤل.
وفى الحقيقة، فإننى قد ظللت أتعجب طويلًا بينى وبين نفسي، ويتعجب معي، أيضًا، آخرون كثيرون سواي، كيف لم تُعيَّن سيزا قاسم بعد حصولها على هذه الدكتوراة الاستثنائية بكل معنى الكلمة فى توقيتها عضو هيئة تدريس فى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، كيف؟ أكثر من علامة استفهام تفرض نفسها بالتأكيد، وأكثر من علامة تعجب كذلك. ولا شك أن الجواب على مثل هذا السؤال لا بد له من أن يدين كثيرين، وربما على رأسهم جميعًا الراحلة العظيمة أستاذتها الدكتورة سهير القلماوى رحمة الله عليها.