مسعود شومان.. الوردة بتقدر تتكلم.. وتقول الصح المغني خارج سرب الكتلة

مسعود شومان ومجدى نجيب
مسعود شومان ومجدى نجيب

ما الذى يجعل مجدى نجيب شاعرا مختلفا عن أبناء جيله، وهل ينتمى إلى جيله الذى أطلق عليه العرف النقدى شعراء الستينيات، وهو الذى لم تضمه دراسة معهم، ولم يلحق اسمه بالسطر المتواتر الذى يبدأ بوالد الشعراء فؤاد حداد، ثم صلاح جاهين، وبعدهما فؤاد قاعود المنسى من الدرس الجمالى الذى يستحقه، ثم يأتى الأبنودى وسيد حجاب بشكل متكرر، وأحياناً يلحقون بهما سمير عبد الباقى، لكن الذاكرة التأريخية والنقدية تتجاهل ضم مجدى نجيب، ليكتمل السطر مؤكداً على وجوده الشعرى المغاير، فهل كان ذلك استبعاداً مقصوداً من بعض عرّابى هذا اللون الجمالى المُتحقق بقوة الحضور الاجتماعى، والموجة المحمومة لاستثمار شعراء العامية فى كتيبة التعبير عن الجماهير، وثقلها السياسى، فى بلد يرفع شعارات الاشتراكية والقومية العربية، وتختفى بالكتل الإنسانية، ويتباهى بأفكار الجموع متواشجة مع الأفكار المطروحة آنذاك، والانشغال بالتمايزات الاجتماعية، فتتناثر فى القصائد، مفاهيم كتلية؛ الفلاحين - العمال، وتشع الكتابة بجمل تنتصر للشعرية باستحضار الفلاحين، المقهورين، الغلابة، الصيادين، ولم تنتصر - إلا قليلاً - لأشخاص، أسماء بعينها، فنقف على ملامحهم الإنسانية وتفاصيلهم التى تتجلى من خلالها الذات الفردية بأحلامها وقوامعها، وآلامها، وأحزانها الخاصة.

ومن أين نعثر على التمايز بين الشعراء - نؤكد أن الفوارق الجمالية فى هذه الفترة كانت حاضرة بقوة ومركزة فى السمات اللهجية، والاستلهامات الفلولكلورية، وجماليات الشفاهة - والدافع الأساسى فى عدد كبير من القصائد كان للأجواء السياسية منحازة ومؤمنة، أو مختلفة ومعارضة، وفى هذا السياق كان لابد من حذف اسم مجدى نجيب من فكرة الكتيبة، مع اختلاف بعض أفرادها إنسانياً، بل وتصارعها على مكانة الأول فى الساحة، بوصف الفن - الشعر هنا - أحد سلالم الترقى الاجتماعى، مع إدارك عميق لدى عدد من شعراء هذا الجيل بتغير مفهوم الشعرية، الأمر الذى يمكننا معه إطلاق لقب الشاعر الحديقة على التنوع الشعرى الذى تنقل فى أرضه معظم شعراء الستينيات، ورائدهم العظيم فؤاد حداد، ولأن مجدى نجيب بداية أول دواوينه لم يكن ابناً للشعار، وظلت تجربته تحفر لنفسها مساراتٍ مشغولة بالذات الفردية، وبالتصوير الجمالى الذى ينحو للبساطة العميقة، فلم نلمح عنده المباشرة فى التوجه للجماهير الغفيرة، ولم يطمح أن يكون منشداً فى الشوادر، أو معارضاً صلباً ليقف فى خانة شعراء النضال الثورى الذى صدقه البعض فأخذنا الحماس معهم، وبكينا معهم من أوجاع الهزائم، وركبه البعض الآخر فنال جائزته فى الحضور الشعرى والاجتماعى، وبالرغم من أن مجدى نجيب قد أصدر ديوانه الأول «صهد الشتا» قبل بعض شعراء الستينيات، إلا أنه كان يمثل مفارقة جمالية بعيدة عن الحملة القومية لاستلهام التراث والمأثور الشعبى، وكان علامة واجبة لحذفه من الطابور:

اقرأ أيضاً

 ياسر عبد الحافظ ..جنة مجدى نجيب!

باشرب عمرى لفحة شرد
باتمدد على كتف العود الدبلان..
أحزان.. أحزان.. فى خريف الأرض
أنا عايش على ضهر خريف
مش عايش على عود الورد
ولكن بيسقينى الحرف العرقان

وحين يستدعى مجدى نجيب فارساً، لن نجده مثل فرسانهم من الأبطال الأسطوريين، أصحاب القدرة على تخليص الجموع من فقرهم، وآلامهم، ففارسه ذاته الذى تتجلى فى معية الصحبة التى يعرفها، ويحلم معها بعالم جديد، لا عالم خارج الواقع، فارس نتخيله معه، ونمسك بملامحه ونعرفه كما نعرف أصحابنا حين يعودون معه للحلم، حلمه الممسوك باليد، ليتولى به زراعة الأرض، مهشماً اللغة التى لا تركن لقداسة، بل يهشمها بمزاجه الذى اعتاد على اللعب عبر التقطيع، والتقفية، والموسيقى الداخلية، والتخلى عن الجمل الطويلة التى يجرها الذهن سعياً وراء الإمساك بالمضمون الحكيم.

بارجع فارس.. حارس..
للحلم الطالع، الزارع لجميع الأرض 
بانده أصحابى 
ييجوا.. على بابى
من.. شرقًا.. غربًا.. بيشوفوا
دمعاتى عذابًا فى عيون أحبابى 
إنه الشاعر الذى يمسك بالكلمة، فيشكل بها جملته مع قريناتها، لنقف على مفارقاته التى تتجلى فى معانقه الكلمة للصمت، والحكمة مع الرعب، والأجراس التى تعلن عن صمتها، وتتأكد هذه المفارقات حين يعلن فى فصحاه الساخرة وسؤاله: ما اعرفشى هؤلاء الناس!!
صهد ولافف راس الكلمة فى صمت وحكمة
بيبخ فى سدرى تخديرة رعب
أجراس.. حراس.. بمداس:
اسمك.. ما اسميش.. ما اعرفشى.. هؤلاء الناس..؟؟
حتى الأجراس العالية
صامتة.. صامتة 
فى ودان الناس العاقلين
العقد.. صراخ
السدر.. صراخ
والجرح بينزف كلمة حب
كلمة حب وشابت..
واتحرقت فى حنك الصهد
صهد.. وناس.. حراس
اسمك.. ما اسميش.. معرفش..؟!
وتغيم الدنيا ف رمش..
وف نظرة..
هنا يتحول العالم/ الدنيا لنراه فى التفاصيل الذى يستدعيه
المفتاح الفاعل للنص ممثلاً فى الصهد صانع الصور، فالصهد هنا، يغلف الكلمة فتتغير لتصبح فعلاً، وتغيم الدنيا فى لحظة الصهد الإنسانى، وفى النظرة، هذه التفاصيل التى تدرك ما لحركة أجزاء الجسم المدركة لأغوار الذات، وهى ترى تكوم الأحلام لتصبح شيئاً مهملاً، مجرد حزمة قش، قابلة للاحتراق بفعل الصهد المحيط، إنه يصف الذات فى عمقها البعيد وهى تمسك بمصيرها وأحزانها حين تنتصر على الصهد، لنلمح التحول المفارق حين تتشكل الأحلام الميتة لتصبح فرعة، ولنتأمل المفردة التى تحيل على التفرع، وكونها واحدة فى تفرعها لتنثر عطرها لتغطى جبين الفاعل للقسوة والحزن والموت، وتتكاثر المفارقات اللغوية صانعة للصور المدهشة، القش.. الورد، الصهد.. التلج، الشمسية.. الضل، أنها صورة لا تعتصر اللغة فحسب، لكنها تنصهر مع ما يعتملُ فى الذات، لنرى الوردة التى تفرعت رغم الغيم دون أن تعرف الخوف من البرج، بما يحيل على الارتفاع والعلو، ولا الشمس بمكانها المرتفع، وكونها مصدراً للصهد، ولا ناس البرج الذين يدركون أو لا يدركون الوردة/ الذات من مكانها المتعالى، كل هذه المفارقات ندرك أن الوردة «بتقدر تتكلم.. وتقول الصح»
تتكوم أحلامى.. حزمة قش
لكن كبرت فرعة ورد وغطى العطر جبين الصهد
مشيت على كل ضفاف التلج
ما خافتش الشمسية الى ف راس البرج
ولا ناس البرج
ولا ضل البرج
الوردة بتقدر تتكلم.. وتقول الصح
إننا أمام ذات خاصة، تتحصن بتشكيلها الجمالى، وتدرك حين يأتيها ذكرى الألم حين كبا الفارس وكان مصيره أن يلقى الهزيمة، فيكون درها أنها مثل كل الذوات التى نعرفها وترضى بحكمة الوجود، المتمثلة فى أنها مثلهم قد تكبو، ولابد أن تقاوم هزيمتها فى مواجهة الصهد:
إن جالها ذكرى الفارس لما حصانه انداس
بتقول: ياما ناس قد راحوا مع غيرهم ناس
وإن جالها ذكرى الفارس والجرح
تفضل تحلم بالصبح
والجرح منوّر
وبينعس بين الأحضان اللى بلون الفجر
تفضل تحلم على سدر الناس
وتغنى الصفح 
ما أحلى تواريخنا
وكمان.. مواعدينا
وعيدنا..
مواعيدنا لينا فى ليالينا الجرح..
ولغيرنا شربات الفرح
ان الجرح الذى تعيشه الذات الفردية ليس بمعزلٍ عن أحزان الناس، وجراحهم، فالجرج حواره مستمر طالما تدركه الذات، وتحلم باستعادة حلمها فى معيتهم «تفضل تحلم على سدر الناس» ولا تبرح أحضانهم، وأن وعيها بالصهد وقدرتها على مقاومته لن يكون إلا بالتعرف عليها وعلى تفاصيلها فى الواقع الذى تدركها بوعى متوقد بفهمها للسياق الذى تحياه، هكذا يأتى اختلاف شعر مجدى نجيب، وجوابه الذى يضمره الشعر ومفارقته على سؤال طال انتظار إجابته، لماذا كان يغنى خارج السرب.