مقطعان من عيون ريغيل

روى ياكوبسن
روى ياكوبسن

تبدو بارأوى من السماء مثل دعسة قدمٍ فى البحر، وبعض أصابعها المشوّهة تتجه نحو الغرب. لا أحد رأى بارأوى من السماء من قبل، باستثناء ملّاحى الطائرات القاذفة، الذين لم يفهموا ما شاهدوا، والربّ الذى يبدو أن لا هدف له من هذا الختم الذى تركه فى البحر هناك.

يتساقط الثلج بغزارة على الجزيرة. يستمر أربعاً وعشرين ساعة، ويحوّلها إلى كرة بيضاء. ثم تبدأ خطوات أهل الجزيرة فى رسم دروبٍ سوداء متقاطعة عبر الثلج الأبيض، أعرضها بين بيت المزرعة القديم المتداعِى على قمة الجزيرة، الذى تحفّ به حفنةٌ من الأشجار، والبيت الجديد فى كارفيكا، الذى يبدو فخماً وبرّاقاً، وفى الصيف يبدو مثل ورقة سقطت بعيداً عن شجرتها.

اقرأ أيضاً| زاهي حواس ..فليحفظه خِنُومْ!

تظهر مساراتٌ جديدة بين بيت المزرعة والحظيرة، وبين الأرصفة وسقائف القوارب، بين بُركِ التورڤ ومخزن البطاطس، وبين البيوت المرتفعة والمَراسِي، بين أماكن العمل وغرف التخزين، ثم يجرى سحق هذه المسارات لاحقاً فى مجموعة متشابكة من التطريزات المُبتكرة الفضفاضة التى لا معنى لها سوى أنها مسارات لعب وعبور الأطفال بين تلك الأماكن. ويوجد فى بارأوي، فى هذه السنة الأولى من السلام، عددٌ كبير من الأطفال لم تشهده الجزيرة من قبل.

باتجاه الجنوب الغربي، يتخلّل المشهد نهرٌ بنّيّ قذر تصنعه وتحدّد مسارَه الأغنامُ التى ترعى الأعشاب البحرية فى جنوب الجزيرة. تقودها باربرو، وهى تعرج، مع مِذراتها، وتغنّى بأعلى صوتها، رافعةً وجهها بين نُدف الثلج المتراقصة، ثم تمسحها عن وجهها على إيقاع نغمات أغنيتها.

قد يسأل المرء لماذا لا تسوق الأغنام لترعى بين الرصيف وسقيفة القارب السويدية، وهذه أقصر مسافة بين الحظيرة والبحر. لكنّ باربرو تعرف ما تفعله، فالوقت أواخر الشتاء والأعشاب البحرية كثيرة فى الجنوب، وقد التفَّت بعضها على بعض، مثل حبال بنّيّة مسودّة، بسبب العواصف ودحرجة الماء، حتى جاء المدُّ فدفعها فوق السهول وتركها هناك، مثل حبال جليدٍ مخيفة.

تضع باربرو أسنان المذراة بين الأعشاب، وتحرّكها جيئةً وذهاباً، فتنفصل الأعشاب بعضها عن بعض، وهكذا تحصل الأغنام على وجبة نصف متجمّدة. وعندما تشعر بالدفء ويبدأ جسدها بالتعرّق تجلس على جذع الشجرة التى وجدوها على شاطئ الجزيرة، ذاتَ جيل، فرفعوها وثبّتوها بأوتاد وحبال كى لا يجرفها البحر، ويأخذها منهم ثانية، لأنهم أملوا أنها ستكون ذات قيمة فى يومٍ ما، وربما تدرُّ عليهم ثروة. ثم تتساءل ما إن كانوا قد اقتنوا أغناماً كثيرة هذه السنة، وما إذا كانت الأغنام، التى تعانى من المجاعة، ستنجح فى وضع حملانها فى شهرَى نيسان وأيار. هذا ما تشغل نفسها به دوماً فى هذا الوقت من السنة - فجميع الفصول لها شجونها حتّى فصل الصيف، إذ يمكن أن يستمر هطل المطر طيلة أشهره الثلاثة.

تشعر باربرو بوخزة حارقة خلف أذنها اليسرى، تمتدّ نازلةً عبر مؤخّرة الرقبة إلى الكتف، وعبر الذراع إلى كفّها المستندة إلى جذع الشجرة. ثم يسرى تيّارٌ داخليّ حارق من رأسها إلى كفّها ويخرج من إصبعها الوسطى، التى تتيبَّس فجأة، وتنعقف، كما لو أنها قُدّت من زجاج.

تفتح باربرو عينيها وتدرك أنها مستلقية على ظهرها، وندف الثلج تستقرّ على وجهها، ترمش عيناها وتشاهد الغنمة ليا واقفة بجوارها وهى تحملق فى البحر الذى لم يكن أكثر بياضاً فى يوم من الأيام، إنه مثل بحر حليب ساكن، ولا طيرَ فى السماء، هناك فقط ثلاثة طيور غاق جاثمة بصمتٍ على الشعاب التى سُمِّيت على اسمها.

تدفن باربرو أصابعها فى صوف الغنمة الرطب، تتشبّث بها ثم تنهض واقفة. تقف بقية الأغنام وتنظر إليها. تلتقط باربرو المذراة، وتشعر بوخزة ألم طويلة تسرى نازلةً عبر وسطها. تقود الأغنام أمامها صاعدةً المسار ذاته إلى المستنقع حيث يقطعون التورڤ فى فصول الصيف. تفتح ثغرةً فى طبقة الجليد كى تستطيع الأغنام شرب الماء، ومن ثم يخضن فى الثلج واحدةً بعد الأخرى ويصعدن التلة ويتجهن غريزياً إلى الحظيرة.

بعد ذلك تنطلق باربرو، وأصابعها لا تزال ممسكةً بصوف الغنمة ليا، ولا تتركها قبل أن تختفى هى أيضاً فى عتمة الحظيرة. تُغلق باب الحظيرة، وتبقى واقفةً شاخصةً ببصرها إلى بيت المزرعة، لكنّها لا ترى اليد التى تلوّح لها من نافذة المطبخ. تستدير وتنزل المسار الذى يقود إلى الرصيف الجديد، تدخل إلى سقيفة الطعوم، وتنظر إلى ثلاثة ثقوب فى قعر قفّة أشراك فارغة بينما الريح تهزُّ طاولةً متدليةً من الحائط الجنوبي. تجلس، تتناول إبرةً وخيطاً وتبدأ بحياكة شبكة. ينفتح الباب، ويسألها صوتٌ لماذا هى جالسة هنا؟

«ألا تتجمّدين من البرد هنا؟!».

إنها إنغريد، التى لوّحت لها من وراء نافذة المطبخ وتساءلت لماذا سلكت باربرو المسار النازل إلى الرصيف، رغم أنها غالباً ما تفعل ذلك، لكنّها أطالت المكوث هناك اليوم، فالمساء على وشك الهبوط وباربرو لم تصعد إلى البيت بعد.

تلتفت باربرو، وتنظر إليها بتمعّنٍ، ثم تسأل: «من أنتِ؟!».

تقترب إنغريد وتحدّق إليها، تعيد بعض خصلات شعرها إلى تحت الشال، وتدرك أنها ينبغى أن تأخذ هذا السؤال على محمل الجدّ، وتجيبها بأدقّ التفاصيل.

إنه صيف عام ١٩٤٦. لقد جمع سكّان بارأوى ريش العيدر، ووضعوا بيض النوارس فى البراميل، جمعوا السمك عن سقالات التجفيف، وزنوه وحزموه، كما زرعوا حقل البطاطس؛ وتركوا الأغنام تسرح فى الحدائق، وجرى فصل العجول الوليدة عن أمهاتها. بقى عليهم قطع التورڤ، وطلاء البيت القديم كى لا يبقى يشعر بالخجل أمام البيت الجديد. وعلى التلّة وراء الحظيرة، تقف إنغريد بارأوى وتنظر إلى الباخرة فى الخليج تحت سحابة من طيور الخرشن، إنها باخرة صيد الحيتان، سالتهامِّر، التى اشتروها بعد إفلاس مالكها السابق، لقد أصبح سكّان بارأوى صائدى حيتان.

يوجد على مقدّمة سالتهامّر مدفعٌ رمحيّ لصيد الحيتان، وعلى الصارى عشّ غراب أبيض وفى وسطه حزام أسود (1)، وفيها صوارٍ وأشرعة مثل السفن الشراعية، ودفّة قيادة فى أعلى الباخرة داخل غرفة القيادة، المحاطة بقماش مشمّع أبيض، كما يوجد فيها حجرة خاصة بالطعوم وخيوط الصيد الحديثة، إنها باخرة قوية لجميع الفصول والمناسبات. تستطيع إنغريد أن تسمع أصوات مطارق، وأن ترى لارس وفيليكس اللذين يقومان بالتحضيرات من أجل رحلة صيد الحيتان الأولى، والأولاد الصغار الذين يركضون جيئةً وذهاباً على سطح الباخرة، وتستطيع أن تسمع أصواتهم تعلو وتنخفض فوق البحر، وفى اللفافة وراء ظهرها تنام كايا.

تستيقظ كايا. تُنزلها إنغريد من اللفافة وتتركها تحبو حولها بين نباتات الخلنج حتى تشعر بالملل، ثم تهلع من نظرة عينيها السوداوين، فتحملها بين ذراعيها وتنزل بها إلى الحديقة حيث بدأت براعم التوت بالظهور. تجلس على الغطاء المُحْكم لبراميل الطلاء والفُرُشِ التى اشتروها مؤخراً؛ هناك أعمال كثيرة ينبغى إنجازها فى بارأوي، التى لم تعرف مستقبلاً أكثر إشراقاً من قبل، ولم تشهد هذا العدد من السكّان سابقاً، كما أنها لم تعد جزيرتها.

تدخل إنغريد إلى المطبخ، تضع كايا فى حضن باربرو، ثم تخرج وتنزل إلى الرصيف. تركب قارباً وتجدّف إلى سالتهامّر. تنتظر حتى يطلّ لارس من فوق درابزين سالتهامّر ويسألها ما إن كانت قد جاءتهم بالقهوة.

تقول إنغريد إنّ لديهم قهوة على متن الباخرة.

يضحك لارس ويقول إنهم قد وجدوا رمّاحاً لصيد الحيتان، وسوف يلتقونه فى ترانا خلال أسبوع من الآن، وهذا يتوقّف على الطقس.

تستند إنغريد على المجدافين، وتقول إنّها ستجدّف هذا المساء إلى أدولف فى مالفيكا، وستأخذ الطفلة معها.

يسألها لارس عن سبب زيارتها لأدولف.

تهزّ إنغريد كتفيها. فيقول لارس إنه لا مشكلة فى ذلك، فلديهم ما يكفى من القوارب.

تعتقد إنغريد أنّ فى كلامه مبالغة عن مخزون الجزيرة من القوارب، فتقول إنها قد تغيب لبعض الوقت.

«لا بأس».

يأتى الأولاد أيضاً ويصطفّون بجانب لارس: هانس، ومارتن، ومن ورائهما فريدريك النحيل، الذى نما طوله خلال فصل الشتاء أكثر مما يناسب عمره. يكتشف الأولاد وجود إنغريد، لكنّهم سرعان ما يفقدون الاهتمام ويبدؤون بالنقّ على لارس كى يسمح لهم بالرمى على مدفع الصيد، يمكنهم أن يتدرّبوا بالتسديد على صناديق السمك القديمة.

يضحك لارس ويرفع أوسكار ذا السنوات الثلاث كى يرى إنغريد فى قاربها تحت سالتهامّر. تلوّح له إنغريد. ثم يظهر فيليكس، وبين أصابعه الملوّثة بزيت المحرّك الأسود خيوط تنظيف، هكذا يصطفّ رجال بارأوى كباراً وصغاراً مثل لجنة وداع جاهلة على متن مستقبل بارأوى الاقتصادي، بينما تنحنى إنغريد ماريا بارأوى فوق المجدافين وتبدأ بالتجديف ثانيةً، وهى تشعر براحة عميقة لأنّ الأمر كان أسهل بكثير مما توقّعت.

تصعد إلى البيت وتخبر باربرو وسوزانا، أيضاً، أنها مسافرة، تقولها وكأنها تخبرهما أمراً يومياً بسيطاً. لكن فى عالم النساء هذا تأخذ الأشياء أكبر من حجمها الحقيقي. فتسألها باربرو عن وجهتها، ولماذا، وكم سيطول غيابها؟ لكنّ سوزانا تفهم ما يجري، وتعلّق بازدراء إنّ إنغريد محظوظة لأنّ لديها من تفتقده وتبحث عنه، ثم تخرج لنشر الغسيل على سقالة التجفيف.

تحزم إنغريد الحقيبة الصغيرة التى تأخذها معها فى كل مرّة تحاول فيها مغادرة بارأوي. تنزل إلى الرصيف حاملةً الحقيبة بيد، وكايا باليد الأخرى، وقد وضعتها فى كيس من القماش، تضع الكيس على جلد الخروف فى مؤخّرة القارب، وتضع الحقيبة فى مقدّمة القارب. لم يأتِ لوداعها إلا باربرو، التى تغيّرت الآن، مدفوعةً بإحساسها بخطورة ما تفعله إنغريد. تقف مقاطعةً ذراعيها فوق صدرها، وهى ترتدى فستانها الأزرق السماوى الجديد، من عائدات موسم الشتاء، وعليه زهور بيضاء كبيرة.

تقول باربرو: «كان يُفترض أن نطلى البيت، أليس كذلك؟».

«بإمكانكم فعل ذلك»، تردُّ إنغريد.

تُنقِّل باربرو قدميها بصعوبة وتقول إنه من غير الممكن أن يطلوا البيت دون وجودها. فتضحك إنغريد وتقول إنّ بوسعهم الانتظار حتى تعود.

«حسنٌ»، تقول باربرو، ثم تسأل: «متى ستعودين؟».

«فى يوم من الأيام».

تردّد باربرو عبارة «فى يوم من الأيام»، وقد شعرت بالإهانة، بينما تناور إنغريد بالقارب حول اللسان البحرى الشمالي، ولا تستطيع حمل نفسها على التلويح لباربرو إلا بعد فوات الأوان. فى هذا الوقت تكون الشمس فى الشمال، بيضاء ومنخفضة، والبحر من تحتها مثل بلاطة رمادية اللون.

________________________________________

1- مأوى أو منصة مثبتة على أحد صوارى السفينة كمكان يقف فيه من يقوم بالمراقبة والاستطلاع.

[المترجم]