«عفريت خطيبتي» قصة قصيرة للكاتب علاء عبدالعظيم

الكاتب علاء عبد العظيم
الكاتب علاء عبد العظيم

التففنا حول محدثنا ياسر الجنايني، وأرهفنا آذاننا إليه منصتين، وهو يقص علينا قصة صديقه مهندس الطرق الذي توفي منذ ١٥ عاما، واعتدل ياسر في جلسته وقال:

لعل بعضكم يعرف سمير الذي كان شابا أنيقا، قوي الجسد والعقل، تخاطفته الشركات لمهارته وخبرته وهو لم يتعد طور الشباب، وكنت صديقه المقرب، لكن مشاغل الحياة أبعدتني عنه.

ثم ما لبثت أن سمعت بوفاة خطيبته، وكنت أعرف مدى الحب الذي يجمع بينهما، فقد أدركت فداحة المصيبة التي حلت به.

هرولت مسرعا إليه، فوجدته في مكتبه منهمكا في العمل، يخفي اضطرابه وحزنه تحت  ستار من الهدوء، وما إن انفردنا حتى قال لي: أني في أشد الحاجة إليك يا صديقي لعلك تفهمني ولا تتهمني بالجنون والعته.

إن شرا غامضا مريعا يتهددني، فما كان مني إلا أن طمأنته حتى أفضى إلىّ بسريرة نفسه فقال:

لست بالجبان، ولا بالرعديد، لكن لعل قصص الأطفال قد تركت في نفسي خوفا غامضا من كل امرأة وحيدة ألقاها في ساعة متأخرة من ساعات الليل، وكنت أضحك من خوفي هذا، وأتهم نفسي بالاستغراق في الخيال، إلى أن كانت ليلة لا أنساها ما حييت.

كنت عائدا إلى بيتي في الساعة الثالثة صباحا بعد أن خسرت نقودي في نادي للقمار، أفكر بضرورة الالتجاء إلى والدي لاستعارة بعض المال، رأيتها تقف في مدخل إحدى العمارات.. امرأة في الستين من عمرها، طويلة.. ضخمة.. منتصبة لا تتحرك كحائط لا يبين، وفي عيني غرست عينيها كخنجرين وهي تبتسم بسمتها الميتة الصفراء.

عيناها.. عين الشيطان.. وبسمتها لا تنتمي إلى عالمنا، وإنما الى عالم آخر، عالم السحرة، والمشعوذين.

لم أخف يوما مثلما خفت ساعتها، وفي لحظة كنت قد وعيت كل تفاصيل وجهها وملابسها، وخيل إلىّ أنها القدر والمصير.. ولكن أي قدر أو أي مصير لعله قدري ومصيري!

أسرعت خطاياي لأصل إلى منزلي، وأنا أشعر أن هذه المرأة تستطيع أن تفنيني بكلمة، وسرت مسرعا متظاهرا بالشجاعة ثم التفت ورائي فجأة فإذا بالمرأة المخيفة تتبعني وتكاد أن تلمسني، صرخت صرخة مروعة، وجريت إلى بيتي بأسرع ما حملتني قدماي.

وفي البيت وجدت رسالة تنتظرني.. مات أبي، ثم هدأت وسخرت من نفسي، ومن خوفي من المرأة، ومن خيالي الواسع الذي جعلني أصور المرأة التي قد تكون مجرد شحاذة، كشبح ونذير شؤم.. ومرت الأيام.. ثم قابلتها مرة أخرى وأنا في طريقي ولمحتها، ولم يبد أنها رأتني فتركتها خلفي، وأسرعت في الشارع المظلم المؤدي إلى بيتي، لكن الشك عاودني، والتفت خلفي فإذا بها تلمسني بضخامتها، وملابسها وعينيها الشيطانتين.. كأنها لم تفارقني قط، وتحول خوفي إلى غضب ثائر وأمسكت بها، فندت عنها صرخة كالحشرجة وقالت في سخرية باردة:

أتريد الشجار.. لماذا تخشاني؟

قلت: إني أكرهك.. وكرهتك منذ ولدت.. كرهتك لأنك روحي الشريرة، أنت عنصر الشر في حياتي

قالت: وأنا أيضا عرفتك يا بني العزيز من قبل أن تولد، وحينما رأيتك تمر بي قلت لنفسي ها هو..

لكني هززتها وأنا أصرخ: من أنتي.. وماشأنك معي

قالت: أنا شيطانك

وخلصت نفسها من قبضتي بعد أن بصقت في وجهي، وجرت في سرعة عجيبة ثم اختفت حيث لا أدري.

وحينما عدت إلى البيت.. وجدت رسالة تنتظرني أيضا..  ماتت خطيبتي.. ماتت فجأة..  ماتت حبيبتي

ويستكمل ياسر الجنايني حديثه قائلا: وما إن وصل صديقه المهندس إلى هذا الحد من الانهيار والبكاء، حتى هب كالمجنون وهو يصيح: لو قتلت هذه المرأة.. أو قبضت على عنقها بيدي وخنقتها، لأنها سوف تقضي علي..  ستقضي علي حتى لو لم أقتلها، إنه صراع بيننا.. إما أنا.. وإما هي.

وانهار الصديق فوق أقرب مقعد وعيناه مغرورقتين بالدموع، يتساءل، ألا تخبرني يا صديقي من عسى أن تكون هذه المرأة.. أهي روحي الشريرة، أهي الشيطان، أهي الموت،  من هي؟

هدأت من اضطرابه ما وسعني، وخرجت من بيته حائرا.

ويقول ياسر الجنايني: لقد أبعدتني مشاغل عملي عنه مرة أخرى فترة من الزمن، وعلمت بعدها بأن صديقي المهندس طريح الفراش، فأنهيت عملي وتأهبت صبيحة وصولي لزيارته غير أنني قرأت نعيه في الجرائد قبل مغادرة منزلي.

وسرت وراء جثمانه إلى المقبرة، وبكيت وهم يسجون جثته إلى قبره، وفجأة صكت أسماعي ضحكة ساخرة أرسلتها امرأة طويلة ضخمة منتصبة كالحائط، وتبينت من فرط دهشتي أن أوصافها تنطبق على السيدة التي ذكرها صديقي، نفس الملابس، والعينين، والنظرة الشيطانية، والبسمة الباردة.

لاحظت هي أني أطيل النظر إليها فثبتت نظرها علي وكأنها تريد أن أفهم أنها تعرفني، وتعرف أن صديقي قص علي قصتها.

وبنظرات عين احورارية، يتابع بها ياسر الجنايني ردور أفعال قصته على وجوهنا، ويقول: إن خوفي كان أكثر من عجبي، وظهر لي بوضوح صدق صديقي المهندس، وآمنت أن علاقة ما قد جمعت بينه وبين هذه المرأة، علاقة غريبة غير إنسانية، علاقة خارقة للطبيعة، سابقة على الحياة البشرية.

وبوجه تعلوه علامات الخوف والرهبة، وصوت يشوبه حزن دفين يقول ياسر: اعتراني خوف عميق، من أن أرث عن صديقي اللعنة التي كتبت عليه..

أشارت إلىّ المرأة بتهكم وفي ابتسامة صفراء، وكأنها أدركت خوفي واختفت بسرعة بين القبور.

وسكت ياسر لبرهة.. ينفث دخان سيجارته المشتعلة، والتفت إلينا، والصمت مازال يعقد ألسنتنا وقال: مارأيكم، وكيف تفسرون هذه الظاهرة، إلىّ بنظرياتكم، أو هل تعتقدون أن ما حدث كان طبيعيا؟