عبد الحليم قنديل يكتب: شيخوخة أمريكا

عبد الحليم قنديل
عبد الحليم قنديل

ما يحدث فى أمريكا عرض لمرض ، وليس اختناقا عابرا ، فنحن بصدد بلد امبراطورى ، تشيخ مؤسساته الظاهرة للعيان ، وتعجز بإطراد عن التصحيح وصنع البدائل ، وتجديد شباب السياسة الأمريكية ، فقد يقال لك ، وهو صحيح ، أن عزل "كيفين مكارثى" رئيس مجلس النواب يحدث لأول مرة فى التاريخ الأمريكى ، وقد صارت عبارة "لأول مرة" عنوانا على الحوادث الأمريكية الأحدث ، فقبل نحو ثلاثة أعوام ، جرى اقتحام مبنى الكونجرس (الكابيتول) لأول مرة فى 6 يناير 2021 ، وكان المقتحمون من أنصار الرئيس الأمريكى السابق "دونالد ترامب" ، الذى أصر ولا يزال ، أن انتخاب الرئيس الأمريكى الحالى "جوبايدن" كان مزورا.

 

وقيل وقتها، إن الديمقراطية الأمريكية قادرة على حماية نفسها، وجرت محاكمات وصدرت أحكام بالسجن المغلظ، لم تنجح فى وقف الأقوال بتزوير الانتخابات وسرقة الأصوات، بل صار "ترامب"، برغم عشرات الاتهامات والقضايا والمحاكم المورط فيها.

 

صار "ترامب" هو الشخصية الأشهر والأكثر شعبية اليوم فى الداخل الأمريكي، ويطمح لمواصلة حملته الانتخابية لكسب الرئاسة الأمريكية مجددا فى نوفمبر 2024 ، ولو وصل إلى أعتابها سالما ، فمن المرجح أنه سيفوز ، بينما العجوز "بايدن" يريد رئاسة ثانية ، قد ينهيها إن طال به العمر ، وهو فى سن يفوق الخامسة والثمانين ، ولكى تكتمل به صورة بلد شاخ دوره ، ورئيس موغل فى الشيخوخة (!) .

والملفت أن حزب بايدن "الديمقراطى" ، لم ينجح فى تقديم بديل رئاسى أكثر شبابا ، ربما مثله مثل "الحزب الجمهورى" المنافس ، الذى لا يزال "ترامب" يسيطر معنويا على جمهوره ويلهب مشاعره ، برغم تقدم "ترامب" هو الآخر فى السن ، وإن كان وضعه الصحى أفضل بكثير من غريمه "بايدن" ، ولا يكاد "ترامب" يلقى بالا إلى منافسيه السبعة على نيل ترشيح الحزب الجمهورى ، ويترفع على المشاركة فى مناظراتهم ، برغم أنهم جميعا أصغر منه سنا ، ولا تطاردهم المحاكمات الفيدرالية مثله ، فهو ـ أى "ترامب" ـ أكثر شعبية بمراحل فى استطلاعات الرأى ، ويتفوق على "بايدن" بوضوح ، وهو ما قد يعنى ببساطة ، أن قسما غالبا من الشعب الأمريكى ، يصدق سردية "ترامب" ، الزاعمة بفساد النظام الأمريكى كله ، وبأنه لا فرصة لعودة "أمريكا عظيمة مرة أخرى" إلا فى صحبة "ترامب" الملياردير المقاول ، الذى يستثمر إعلاميا حتى فى محاكماته ، ويكسب تعاطفا أكبر مع مظلوميته المدعاة ، وتعرضه ـ كما يقول ـ لاضطهاد سياسى ، يتخفى وراء أقنعة العدالة الأمريكية ، التى تطال ـ أيضا ـ أسرة "بايدن" ، ونجله "هانتر" بالذات ، المنسوب إليه تهم فساد وتربح بمليارات الدولارات ، استغل فيها نفوذ والده ، حين كان الأخير نائبا للرئيس الأسبق "باراك أوباما" ، الذى كان بلون بشرته الداكن ، آخر محطة وعلامة على حيوية باقية فى النظام السياسى الأمريكي.

ومع عزل "كيفين مكارثى" ، الذى أعلن امتناعه عن العودة للمنافسة على رئاسة مجلس النواب ، بدت أصابع "ترامب" ظاهرة ، فالحزب الجمهورى لا يحظى سوى بأغلبية محدودة فى مجلس النواب الحالى ، وليس له سوى 221 عضوا فى مجلس مكون من 435 عضوا ، لم ينجح "مكارثى" فى الحصول على 218 صوتا منها قبل تسعة شهور ، إلا بعد 15 جولة تصويت ، جاءته النجدة بعدها ، مع صفقة عقدها مع أكثر صقور النواب الجمهوريين تشددا ، وهم لا يزيدون على العشرة نواب ، يتماهون مع "ترامب" فى كل أقواله ، واشترطوا على "مكارثى" وقت انتخابه ، أن يكون بوسع الواحد منهم ، أن يطلب عزله فى أى وقت ، وقد فعلوها ونجحوا ، بعد اتهامه بممالأة الرئيس الديمقراطى "بايدن" ، والتساهل مع مطالبه فى رفع سقف الدين ، وفى صرف مخصصات مالية عاجلة لمنع الإغلاق الحكومى لمدة 45 يوم ، فيما اعتبره "الترامبيون" خطيئة عظمى ، برغم أن "مكارثى" تجاوب نسبيا مع مطالبهم ، وامتنع عن تقديم تشريع جديد ، يفتح الباب لدعم حرب أوكرانيا ، ولو بمبلغ 6 مليارات دولار ، بعد إعلان "البنتاجون" ، أن أموال دعم أوكرانيا كادت تنفد ، وأنه لم يتبق منها سوى 5.4 مليار دولار ، لاتكفى سوى شهرين ، بينما ذهبت الخطة الأصلية لبايدن فى دعم "كييف" إلى مصير مجهول ، فالرئيس الأمريكى يطلب من مجلس النواب موافقة على تخصيص 24 مليار دولار لأوكرانيا فى عام 2024 ، ولا يعلم أحد بالضبط ، من هو الرئيس التالى لمجلس النواب ؟ ، وهل يكون أكثر ليونة مع "بايدن" أم لا ؟ ، خصوصا مع تشقق رهان "بايدن" ، وانكشاف تعثر الجيش الأوكرانى فى تحقيق تقدم محسوس على الأرض ، مع اشتداد وطأة الدفاع الروسى "المرن" ، والذى ربما يتحول إلى هجوم معاكس على جبهة الشتاء الزاحف ، وبما يزيد من ورطة العجوز "بايدن" ، الذى يخسر رهانه فى أوكرانيا ، وتطارده أشباح الخسارة فى واشنطن نفسها ، مع اضطراب المؤسسات الذى يحاصره ، ومع ضيق متزايد فى أوساط الرأى العام الأمريكى ، وغضب من إنفاق مئات مليارات الدولارات على أوكرانيا ، ودونما أمل ظاهر فى هزيمة روسيا أو إضعافها ، بينما الداخل الأمريكى فى أشد الاحتياج للمليارات الضائعة ، التى كانت كفيلة بتحسين مستويات المعيشة ، أو حتى لصد موجات الهجرة غير الشرعية القادمة عبر المكسيك ، وكلها أجواء احتقان ، تعزز شعبية "ترامب" ، الذى تطالب جماعته بوقف دعم أوكرانيا ، وعقد اتفاق سلام مع روسيا ، وعلى أساس تسويات الأمر الحربى الواقع ، بينما الهلع يجتاح أوروبا ، الشريكة مع أمريكا فى حملة حلف "الناتو" لتحفيز أوكرانيا ، ودفعها إلى مواصلة الحرب حتى آخر أوكرانى ، ودونما أمل فى ضمها قريبا إلى "الاتحاد الأوروبى" ، فبرغم توافد أغلب وزراء خارجية دول "الاتحاد الأوروبى" مؤخرا إلى "كييف" ، وعقدهم لاجتماع تضامنى حاشد ، فإن أقرب أجل وضع لأوكرانيا هو نهاية العقد الجارى فى 2030 ، لا يفكر أحد قبلها فى ضم حكومة الرئيس الأوكرانى "فلوديمير زيلينسكى" الموصومة بالفساد إلى التجمع الأوروبى ، وكل ما وعد به الجمع الأوروبى  ، أن يواصل تقديم ما أمكن من السلاح والدعم المالى ، ربما تعويضا عن غياب موقوت للدعم الأمريكى السخى ، وهو ما راح "بايدن" يطالب به قادة أوروبا المنهكين ، الذين تطاردهم كوابيس "ترامب" ، الداهسة لأعصاب الحكومات الأوروبية ، مع احتمالات مطالبتهم ـ كما يقول ـ بدفع كل "سنت" قدمه "بايدن" لأوكرانيا ، وإلزام الأوروبيين بنفقات لا يطيقونها فى حلف "الناتو".

فترامب يرى أن معركة أمريكا الحقيقية مع الصين لا مع روسيا ، و"بايدن" يمزج المعركة مع روسيا بالحرب ضد الصين ، والأخيرة هى القوة الزاحفة بثبات إلى عرش العالم فى الاقتصاد والتكنولوجيا ، وتبنى عالمها الجديد من حولها وبعيدا عنها ، عبر توسع "البريكس" و"منظمة شنغهاى" وبنك التنمية الجديد وشبكات "الحزام والطريق" ، بينما أمريكا تؤدى رقصتها الأخيرة على مسرح الكون ، وتتصرف بهياج عصبى ، وبحلاوة روح تخشى السقوط من فوق العرش ، بعد أن بدأت فرص استعادة عزها العالمى تتوارى ، وتنهشها عوارض الشيخوخة فى الدور الكونى ، وفى إدارة النظام الداخلى ، الذى تتواضع إمكانيات تصحيحه وتجديده ، ويدخل فى دوامات تناحر المؤسسات، وقد كانت أمريكا تفتخر دائما بأنها بلد مؤسسات راسخة ، واليوم تضعف المؤسسات ، وتضطرب طرق عملها ، وتترك من ورائها فجوات ، لا يملؤها سوى قبض الريح ، وسوى شخصيات شاخت على كراسيها ، مع صيحات خبل وجنون واستهجان عنصرى ، ربما تعبر عنها شخصية "ترامب" الأكثر شعبية فى الخواء الأمريكى الراهن.

وما نقوله ، لا يعنى أن أمريكا تسقط داخليا، أو أنها مهددة بفناء وشيك ، بل ربما تحتاج أمريكا اليوم ، إلى إعادة خلق وتكوين عسيرة ، لا تبدو الطرق سالكة إليها ، مع معاناة الوضع الأمريكى من ظواهر شيخوخة ، تركد فيها حيوية الاقتصاد الإنتاجى ومقدرته التنافسية ، ويتراجع قيها التفكير العقلى وحسن التدبير ، وتحتاج إلى كرسى اعتراف ومصارحة ، تبدأ أولا بالتسليم بما جرى ويجرى لنفوذها الكونى ، فحشد السلاح ونشر القواعد العسكرية ، لا يكفى وحده لافتراض دوام الهيمنة العالمية ، ولا بد من إعادة تكييف الدور فى وضع عالمى مختلف زاحف ، لا تعود فيه سيرة أمريكا كقطب واحد مسيطر على شئون العالم ، وأقصى ما قد يصح أن تتطلع إليه واشنطن ، أن تكون قوة عظمى بين متعددين ، لن تكون أعظمهم سلاحا ولا اقتصادا بالتأكيد ، ولن يقدر لها أن تفوز فى حروبها ضد روسيا ، ولا ضد الصين من باب أولى ، فقد شاخت القوة الأمريكية ، وتجاوزتها حوادث العالم الجديد.

 

[email protected]