«نوبة رجوع صحيان» قصة قصيرة للكاتب سيد جعيتم

ارشيفيه
ارشيفيه

 أنفض ترابَ الأرض العطنِ عن جسدي، فتفوح مني رائحة المسك، الكل عرايا ينظرون للسماء، في انتظار الحساب.

تعجبت من ذكرى مطبوعة بخاطري وأعيشها في هذا الموقف المهيب.

 أنين  متحشرج كالصفير بجواري.

 كابدت حتى انقلبت تجاهه، بلَّلتْ دماء رفيقي التي تغطي صدره يدي، يخرج الصفير من جرح عميق في صدره، لبد من تغطية الجرح ومنع الهواء من الخروج أو الدخول منه، تلاقت أعيننا، دمعت تتدحرج على خده، أشار بأصابع مرتعشة لجيبه، أخرجتُ من حافظتَه،  صورة لأمه و خطابٌ كتبه لها ، وعدته بإيصال رسالته.

 سبَّلتُ عيناه، جثث الرفاق متناثرة في المكان، والبعض  يحفرون قبورًا يوارون فيها الجثث، فالشهداء لا يحتاجون للوضوء،  فوق قبره خشبة مثبت به خوذته والقرص المعدني الدال على اسمه ورقمه العسكري.

 زحفت تجاه شجيرة يابسة، صنعت من عيدانها جبيرة لقدمي.

 أخذتني غفوة

 

بجوار مجرى النهر، جلسَت قُبالتي بزيها الفلاحي الأسود، أزاحت طرحتها عن وجهها،  في عينيها دفئًا، ابتسمت واحتضنتني، بشرتني:

ـ سنخطب لك من أرادها قلبك.

تهللت فرحًا، احتضنتها، وضعتُ قبلةً فوق جبين أمي.

يتصبب مني العرق وأنا في أرضي، أبي يحمل (قُلَّة) ماء ملفوفة في قطعة مبللة من الخيش:

- اشرب يا ولدي.

ما أعذب ماء النيل!

أعشق صوت كركرة الماء المندفع من القلَّة لحلقي، ارتويت، علقها والدي في الشجرة ليرطب الهواءُ ماءها.

 بشرنا الطبيبُ بحمل زوجتي في أنثى.

الأخبار تنشر، العدو يحشد قواته على حدودنا، طامعًا في منابعنا وثرواتنا.

عُدت لوحدتي التي سرحت منها من سنين، نفس وجوه زملائي كبرنا في السن قليلاً تحمل وجوهنا مصاعب الحياة.

أمسكت سلاحًا لم أتدرب عليه، فقط بعض الإرشادات السريعة لاستخدامه من رقيب السرية

وحدتنا تقع على الطريق المؤدي للحدود، على مدق صغير تتزاحم دبابات ومجنزرات، تبرق أضواء عدسات التصوير، المشهد ينقل  لوسائل الإعلام، تتلقفه أعين العدو مهدئة مجانية به تفاصيل  تحدد أنواع العتاد وعددها وطرق سيرها وأماكن تمركزها.

بللت ريقي بقطرات من ماء الزمزمية، يشاغلني وجه طفلةٍ تحمل سمات زوجتي، هي ابنتي التي تخيلتها وأنا أتناوش مع زوجتي على اسمها، ورائحة طهي أمي للطعام تداعب أنفي.

  طائراتٍ العدو تتجه لحدودنا.

في نوبتي ببرج المراقبة

 أشاهد أرتالٍ من قواتنا ترتد مبعثرة، طيران العدو يختارُ أهدافه بعناية، لا وجود لطائراتنا في السماء، طلقة مباشرة أصابت برج المراقبة سقط مدرج في دمائي، أفقت على أنين رفيقي .

أخرجت قلمًا وعلى ظهر خطابه لأمه كتبت رسالة لأمي.

 كَسَتْ الدماء جسدي، ينسحب النور من عيني.

نقلت لنقطة إسعاف ميدانية حفرة في الأرض مغطاة بمشمع بلون الرمال، أشرت للمسعف، أخرج حافظتي، مال على أذني:

اطمئن  سأسلم الأمانات لأصحابها.

هزمنا دون أن نحارب، لم ألاق جنود العدو.

دنت الشمس من الرؤوس، تلفح حرارة الرياح الساخنة وجوهَنا، ، طالت الوقفة، يطمئنني كتابي في يدي.

 ريح الفردوس تهدهد روحي،  المسك يفوح من أجساد من تقدموا الصف،  منتظرين أن يُفتح لنا الباب.