«الخوف من الثقة» قصة قصيرة للكاتب أحمد عبد الناصر

الكاتب أحمد عبد الناصر
الكاتب أحمد عبد الناصر

تعول ابنتها وحدها. لا أحد بجوارها، زوجها تعرض بعد فترة زواجهم بثلاث سنوات لحادثة أدت لوفاته، ترك لها ابنة وحيدة لم تكمل السنة الثالثة بعد.

عاشت وحيدة مع ابنتها في منطقة نائية.. فزوجها لم يجد مكانا بين الناس ليعيش فيه، فاضطر لأخذها بعيدا في مكان شبه مهجور، كان يرث فيه قطعة صغيرة من الأرض.. المكان الذي غرسها فيه زوجها عزلها عن العالم..

عملت مع زوجها في الزراعة ورعاية بعض الأغنام التي تأكل من الأرض، علها توفر لهم بعض نفقات الحياة.. استمرت الزوجة في العمل بالزراعة والرعي بعد وفاة زوجها.. تنفق على ابنتها الوحيدة..

 

سنوات مرت وبلغت ابنتها السادسة من عمرها.. حان وقت الذهاب للمدرسة.. لكن أين تذهب .. لا توجد مدارس في هذا المكان البعيد .. أقرب مدرسة لها لن تقل عن ساعة كاملة من المشي بين الحقول.. طرقات شتى توصل البيت بالمدرسة.. الأمان غير متوفر في هذه الطرق.. تتجول الأم في هذا الطرقات علها تجد من بينها ما يمكن أن يوفر الأمن لابنتها في ذهابها وإيابها .. تقدمت الأم بملف أوراق ابنتها للمدرسة لكنها غارقة في بحر من الحيرة والخوف في آن واحد.. ابنتها المدللة لم تتعلم شيئا عن العالم الخارجي.. لم يتوافر لها جيران لتلعب معهم فتتعلم منهم الطرق المختلفة للحياة .. فقط حبيسة بين البيت وحضن الأم .

 

ارتعدت فرائص الأم حين سمعت عن طفلة تم اختطافها حين عودتها قبيل أذان المغرب بقليل.. وجدوا بقايا جثة هامدة .. المختطف باع أعضاء تلك الفتاة وترك الجثة فارغة .. ماذا تفعل؟

 

الوقت يقترب لبدء الدراسة.. خوف الأم يزيد يوما بعد يوم .. لا تستطع أن تحسم أمرها بعد .. صورة الجثة التي تداولها الناس مازالت عالقة في وجدانها .. الأيام تمر .. أمواج الخوف تهدر في قلبها .. ابتسامة ابنتها ترسم لها غد مشرق..

 

تزداد معدلات الإجرام في تلك المنطقة النائية.. تكاد يكون فيها وقت الليل مثل وقت النهار، أصبحت جرائم اختطاف الأطفال وقتلهم وبيع أعضائهم في ازدياد.. تهديدات تصل إلى الأهالي من مجهول بأن كل طفل من هذه القرية يذهب إلى المدينة طالبا للعلم والدراسة سيكون مصيره القتل والمتاجرة فيه..

 

بدأ الخوف ينتشر بين الأهالي علي أطفالهم .. أصبحت كل الأمهات في القرية قلقات علي مصير أطفالهم إذا تركوهم يذهبوا للمدينة يطلبون العلم.. الدهشة والحيرة والقلق أصاب كل من في القرية النائية البعيدة عن المدينة.. ليس بها مركز شرطة يحمي أهلها ولا تليفونات محمولة يمكن أن تطمئن الأمهات على أطفالهم من خلاله..  كأنهم يعيشون في العصر الحجري رغم كل التقدم الذي يعيش فيه أهالي المدينة من أمن وأمان وتكنولوجيا..

بدأ كبار أهل القرية يتجمعون ليلا يتحدثون عن مصير أطفالهم، ماذا سيحدث لهم إذا تركوهم يذهبون للمدينة.. وماذا سيكون مستقبلهم إذا لم يتعلموا. فالجهل قاتل صاحبه..

كان في القرية رجل حكيم ورشيد متعلم كان يسكن في هذه القرية لما يقرب من أكثر من خمسين عاما فعمره قد تجاوز ال ٧٠خريفا..

يعلم هذا الرجل كل شيء عن هذه القرية وعن أحوالها وعن طبيعة السكان الذين يقنطون فيها..

ذهب إليه أهالي القرية علهم يجدوا عنده ما يريح قلبهم ويهدي تفكيرهم..

قصوا عليه ما يحدث في القرية وما يتعرض له الأطفال فيها وهم على وشك الدخول للمدرسة .. وأنهم يصلهم تهديدات بشكل مستمر من مجهول إذا تركوا أولادهم يذهبون إلى المدرسة.

تعجب الحكيم مما سمع فقد سمع من قبل عن قصة الجثة الهامدة التي وجدوها بين الحقول لكن لم يشغل تفكيره فيما حدث فقد اعتقد أنها حادثة عابرة..

فطن الحكيم إلى أن التهديد لأولياء أمور الأطفال الذين سيذهبون للمدرس، فمن يهدد لا يريد تعليم الأطفال، فعلم أن من يهدد شخص يسكن القرية ويعرف الآهالي بشكل تفصيلي، وأن هذا الرجل يعاني من أزمة نفسية تظهر في كراهيته للأطفال.. عاد الحكيم بذاكرته أربعين عاما للوراء.. تذكر الرجل الغريب عن القرية الغير متزن نفسيا الذي سكن القرية .. يعيش وحيدا في كوخ صغير على أطراف القرية، ولا يعلم أحد عنه شيئا، الصدامات المتلاحقة جعلت الغريب يعيش في عزلة عن الناس، نقل الحكيم شكه إلى أهل القرية فتعجبوا مما سمعوه، كيف يعيش بينهم كل هذه الفترة الطويلة ولا يعلمون عنه شيئا، واتفق معهم الحكيم على خطة محكمة.

انتشر بين الأهالي أن هناك طفلة ستذهب للمدرسة في الغد، بعد الاتفاق مع الأم.. ترفض الأم والأهالي يلحون عليها .. رضخت لهم .. ذهبت الطفلة صباحا في الطريق المؤدي للمدرسة.. استعد أهل القرية لمراقبة الطفلة .. ترتعد فرائص الأم خشية على ابنتها .. كانت في حيرة من أمرها تجاهها حيث أن أمها هي أحدث من سكنت القرية مع زوجها.. طلبت الطفلة من أمها أن تتركها تذهب لتمر بالتجربة ..

سمع الرجل عن ذهاب الطفلة إلى المدرسة، جن جنونه ..عزم على قتل الفتاة .. شحذ سكينه وذهب به صباحا مختفيا بين الحقول .. جلس في انتظار الطفلة.. الأهالي في الجانب الآخر يتابعونها أيضا .. الوقت يمر والجميع يحبسون أنفاسهم .. تتسارع نبضات قلب الأم ..

صوت أقدام يقترب.. تتعالى صوت أقدام أخرى بين الحقول .. يتابع الأهالي أصوات الأقدام ويقتربون حثيثا نحو صوت أقدام الطفلة.. أظهر الغريب وجهه للطفلة فسارعت بالصراخ .. حلقة دائرة رسمها الأهالي حول الغريب.. انتشر التعليم في القرية.