«مربعات» الأبنودي في مرآة محمد حسنين هيكل

عبد الرحمن الأبنودى ومحمد حسنين هيكل
عبد الرحمن الأبنودى ومحمد حسنين هيكل

8 سنوات مرت على غياب «الخال» عبد الرحمن الأبنودى، فارقنا بعد صراع مع المرض فى 21 أبريل 2015، وقتها استراح الفارس الذى روض بحور الشعر والغناء وترك اللجام وهو متيقن أنه ترك لنا كنوز إبداعاته التى مازالت تسعدنا، أتذكر وجهه الأسمر الضاحك عندما احتفت الزميلة «الأهرام» بعيد ميلاده الـ 76 الذى توافق مع توقيع ديوانه «المربعات» وكان على رأس الحضور الكاتب محمد حسنين هيكل ولفيف من صفوة الفكر والفن والقلم، يومها وجه «الخال» الشكر لحسنين هيكل قائلا: «إن هذا الرجل البنّاء هو كنز لمصر، يمنحنا رؤية العالم، وما يدور فيه، ونحن جالسون أمام شاشات التليفزيون، وحينما أبلغنى أنه يتابع ما أنشره من قصائد، وأنه يكتشف منها أشياء لم يكن يعرفها، طلبت منه على استحياء أن يكتب لى مقدمة ديوان «المربعات».

إبداعات الأبنودى

عندما نحيى الذكرى الثامنة لغياب «الخال» فلابد أن نستحضر المقدمة التى كتبها الأستاذ هيكل لديوان «المربعات»، ونادرة هى المرات التى كتب فيها هيكل مقدمات لأعمال إبداعية، وما ذكره فى تلك المقدمة يوضح قيمة إبداعات «الأبنودى» فى مرآة الكاتب السياسى الكبير، عندما يبدأ المقدمة بقوله: 
«لا يحتاج عبد الرحمن الأبنودى إلى من يقدمه للناس، لأنه حاضر أمامهم طلعةً وطلةً، وصوتًا هادرًا، وجاذبية مغناطيس يشد ما حوله، ولا يحتاج إلى من يحلل الإنسان فيه، فالخلاصة فى شأنه أنه شراع على النيل جاء من صعيد مصر مرتحلاً إلى الشمال، حاملًا معه خصب النهر العظيم ينثره حيث يصل، ويحول الطمى بالفن إلى زهر وورد، وإلى شوك أحيانًا، وحين سألنى عبد الرحمن الأبنودى إذا كنت أستطيع تقديم مربعاته عندما تُنشر على شكل كتاب، فإن طلبه أسعدنى ليس فقط لأننى كنت أتمنى لهذه المربعات أن تظهر كاملة على شكل كتاب، وإنما سعادتى أن طلبه جاء فرصة متجددة أقرأ فيها المجموعة موصولة ببعضها بعد أن تابعتها يوما بيوم تُنشر منقطعة على صفحات جريدة يومية، وتصورت فى كل الأحوال أن قراءة المخطوطة فى صورتها الأصلية وقبل أن تدور بها المطبعة فرصة حميمة بين المربعات وبينى، تتيح لى قراءتها مكثفة مركزة !

مربعات الأبنودى

تحمست لكتابة المقدمة دون أن يخطر ببالى لحظتها أن الأمر أصعب مما تصورت، وأعقد مما قدرت!! فعندما قرأت هذه المربعات من جديد مرة واحدة، وباهتمام غير منقطع، تجلت أمامى مربعات الأبنودى على صورة مختلفة، تذكرت المقولة الشهيرة التى سمعناها قبل أربعة قرون من فلاسفة جامعة «فرايبورج» - وهى من أوائل جامعات زمن النهضة - أن كل الأنهار تتسابق إلى البحر، إشارة إلى وحدة المعرفة مع كثرة المنابع!
وفى القراءة المتقطعة الأولى فإن المربعات كل يوم بدت لى نوافذ على فضاء لا يصل إليه النظر، وعند القراءة الثانية الموصولة سياقًا واحدًا بدت لى المربعات أفقًا غير محدود، ساحة بحر واسع، لكنه خضم حافل بكل فصول الطبيعة فى الوقت نفسه، فى اللحظة ذاتها، صامت هادئ فى موقع، غاضب هائج فى موقع آخر، نائم حالم قرب صخرة، ثائر جامح يضرب نفس الصخرة بقوة إعصار.

ساءلت نفسى طويلا: كيف يمكن وصف هذا المشهد غير الطبيعى على لوحة الطبيعة ذاتها: ساحة واحدة، ومناخ تتباين ظواهره من صيف إلى شتاء، ومن ربيع إلى خريف، وشراع مرفوع دخل إلى البحر قادمًا من النهر، سر مربعات الأبنودى يتجلى عند القراءة الموصولة، هو محاولة جديدة وتلقائية ما بين الأدب والسياسة، بين الفكر والتاريخ، بين الفن والثورة، هو شاعر عاش وسط الجماهير وهى تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلًا، وهو لا يغنى لهذا المستقبل من بعيد، وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها، وهى تتدافع بالزحف أحيانًا، وبالتراجع أحيانًا أخرى، خطوة بالأمل وخطوة بالألم. وهى أحيانا صيحة بالفرح تهلل، وفى أحيان أخرى جرح بالوجع مفتوح!!

والثائر الشاعر فى قلب المعمعان، هو الثائر يومًا، وهو الشاعر فى اليوم التالى، هو الفعل فى الصبح، وهو الضمير فى المساء، وما يدعو للتأمل أن عبد الرحمن الأبنودى واصل كتابة مربعاته سنة كاملة، يومًا بعد يوم، وصباحًا بعد صباح، لا يسكت ولا يهدأ ولا يكل ولا يمل، يصيح بالقلق على السياسة أن تتماسك لتصنع تاريخًا، ويصرخ بالنذير حتى يمنع النسيم أن يتحول إلى عاصفة، ويمسك بالجمع لا ينفك إلى شراذم، ولا يتفرق إلى هباء!

يريد للتاريخ أن يتحول إلى نبوءة، ولا يريد للسياسة أن تتحول إلى لعنة، وهو يواصل المحاولة لعام كامل، مربع إلى جانب مربع، نافذة بعد نافذة، ثم تتجمع النوافذ وتنفتح على بعضها، فإذا هى بحر متلاطم، وأفق بعيد، والقراءة الموصولة للمربعات هى وحدها التى تكشف وتبين!

لحظة هدوء

ساءلت نفسى بعد القراءة الثانية الموصولة للمربعات، بعد سنة كاملة واصل فيها الأبنودى كتابة مربعاته، ثم أغلق دفترها ونحى القلم، هل استراح واطمأن، ورأى أن يعطى نفسه لحظة هدوء وصفاء بعيداً عن صخب البحر وموجه العاتى وصخره؟! أم أن القلق استبد به خشية أن يضيع صوته فى اللا محدود يطغى عليه هدير البحر ويغطى نشيده؟! وهل أرهقه الإيقاع المنتظم كل صباح وحسبه قيدًا على الشاعر، لأن الشراع لا يطيق قيدًا أو رباطًا، ولا خطًّا ملاحيًّا يحدد مسار حركته مسبقًا من النهر إلى البحر؟!

لا أعرف جوابًا قاطعًا، لكنى أعرف أن الشراع القادم على النيل من صعيد مصر إلى شمالها ما زال يصارع فى أعإلى البحار، والريح ما زالت تملأ ذلك الشراع، وهو يواصل رحلته إلى أفق لم يظهر بعد شاطئه.

انتهت المقدمة البليغة التى كتبها الأستاذ هيكل لمربعات «الخال» الذى جعلنا نتحدى مع «العندليب» الهزيمة والانكسار فى موال النهار، وجعلنا نغنى مع كافة المطربين والمطربات أجمل وأعذب وأصدق كلمات العشق والوجد والوطنية.