يوميات الأخبار

حكايات الأمل

نوال مصطفى
نوال مصطفى

مشاعر إيمانية تجلى الروح، وتفتح نوافذها لترى ما لا يرى، وتسمع ما لا يسمع. تنفذ شحنة تلك الآية العظيمة إلى قلبى فتغسله، وتطهره من شوائب الدنيا وجروحها.

عبر محطات مختلفة فى مشوارى الصحفى، الأدبى، والإنسانى آمنت دائمًا بوجود موهوبين، بل وراهنت على وجود جينات العبقرية وكروموسومات الإبداع والتفرد بين أبناء شعبنا على أرض بلدنا مصر.

لذلك دفعنى الشغف فى كل موقع تقلدته إلى البحث عن هؤلاء، وتسليط الضوء عليهم، وشدهم من دائرة العمل والدأب فى صمت إلى منصة التتويج كشخصيات ناجحة، لها فكر مختلف، قادرة على تغيير الواقع بأفكارها وإصرارها لا بالبحث عن فرصة أو السعى وراء المال.

لذلك أسست لفكرة المسابقات التى تجعل هؤلاء يأتون إلينا لنراهم، ونكتشفهم، بدلا من أن نعتمد على الحظ أو الصدفة فى اكتشافهم.

قمت بإطلاق مسابقة «كتاب اليوم الأدبية» عام 2007 عندما توليت رئاسة تحرير «كتاب اليوم»، وكانت نتائجها مبهرة، وأخرجت لنا ثلاثين كاتبًا وشاعرًا مبدعًا من كل محافظات مصر.

وعندما زارتنا الجائحة اللعينة «فيروس كورونا» الذى تسبب فى إغلاق عدد من المشروعات الصغيرة التى أقمتها للسيدات المكافحات اللاتى نرعاهن بالتمكين الاقتصادى فى جمعية أطفال السجينات، فكرت وبحثت عن حل، وفقنى الله وهدانى إلى إطلاق مسابقة لرائدات الأعمال اللاتى بدأن بفكرة صغيرة لكنها مبتكرة ومطلوبة ونجحن فى مشروعاتهن، واستطعن أن يفتحن أبواب رزق موازية لأخريات يعملن معهن. ونجحت أيضا تلك المسابقة وجاءت نتائج الدورات الأربع السابقة تفوق التوقعات.

والآن أقوم بتنظيم مسابقة أخرى لاكتشاف المواهب الجديدة فى الكتابة والتأليف برعاية المؤسسة العربية الحديثة، نستعيد من خلالها مشروعها الثقافى الرائد «روايات مصرية للجيب». هذا الشغف يقودنى فى كل مرة إلى كنوز مصرية حقيقية، ثروة بشرية لا تقدر بمال. وهنا سأحكى لكم لقطات مما عشته خلال الأشهر الماضية، وعلى الأخص شهر رمضان مع المتسابقين فى نوعين مختلفين من المسابقات أحدهما موجه للمرأة المبدعة، رائدة الأعمال، والثانية للمبدعين الجدد فى مجال الأدب والكتابة.

حكاية «هبة»

فى كتابه «الحيوان الحكّاء: كيف تجعل منا الحكايات بشرًا؟ يقول  جوناثان جوتشل مؤلف الكتاب إن الحكاية لها دور فى تكوين شخصياتنا، وأن تراكم المعرفة والخبرات الإنسانية المختلفة يتم عبر الحكايات التى نسمعها أو نقرأها أو نشاهدها. تذكرت هذا الكتاب وأنا أستمع لحكاية «هبة».

ربما لأننى شغوفة بشكل شخصى بـ «حكايات الأمل» تلك التى تبدأ باللون الأسود فى سماء قاتمة، ثم يبدأ السواد فى الزوال شيئًا فشيئًا، وتظهر درجاته الرمادية الكالحة ثم ينقلب المشهد فجأة كأنه طاقة قد شقت فى السماء، تشرق أنوار الشمس المفرحة وألوانها الذهبية المبهجة، هكذا بدأت قصة «هبة»، وهكذا وصلت واستمرت. 

 هبة جلال أم لأربعة أطفال، شاء قدرها أن يصاب ابنها الكبير بفيروس خطير وتنتج عنه إصابته بالشلل. وتعيش هبة رحلة عذاب أم قلبها موجوع على ابنها. وبالصبر والعلاج الطويل يشفى الولد ويتعافى لكن يترك المرض مشكلة أخرى، تظهر عليه أعراض مرض فرط الحركة.

وتبدأ الأم فى التفكير، كيف توجه انتباهه ونشاطه فى شيء مفيد يشغله، ويرفع من مستوى تركيزه، هواية تخرج من خلالها طاقته؟

بعد تفكير طويل، تنزل هبة إلى السوق، تشترى خرزًا وخيوطًا وتبدأ فى صنع إكسسوارات جميلة مع ابنها. الشيء الغريب أنها اكتشفت أنها موهوبة فى هذا الأمر، اكتشفت شيئًا لم تكن تعرف عنه شيئًا داخلها!

بدأت «هبة» تطور من إنتاجها وتعلم نفسها، تشاهد فيديوهات على اليوتيوب، وتنتج منتجات تلفت نظر من يشاهدها. لم يقف الأمر عند ذلك بل طلب البعض شراء منتجاتها الجميلة، زادت ثقتها بنفسها وارتفعت معنوياتها إلى السماء، شعرت أنها أصبحت تملك شيئًا فى يدها، ومن الممكن أن يكون مصدر دخل لها. ولأسرتها.

فى هذا الوقت، سمعت عن منحة أعلنت عنها الفنانة العالمية عزة فهمى لتدريب السيدات والفتيات على فن الإكسسوار. قدمت وحصلت على المنحة وكانت من أوائل الدفع التى تخرجت منها.

هبة الآن تملك براند اسمه «تازجة» للحلى المصنوعة من الفضة. حلمها أن تازجة يصبح منتجًا مصريًا متميزًا. الجميل فى قصة هبة أنها لم تتوقف عند هذا النجاح الجميل، لم تفكر فى نفسها فحسب، بل قامت بتدريب سيدات أردن عملًا وحرفة تكون مصدر رزقهن على نفس الحرفة.

تأثرت جدًًا بقصة هبة لأنها استطاعت أن تحول الظلام إلى نور. والمستحيل إلى الممكن. هبة وصلت إلى القائمة القصيرة فى مسابقة «نوال مصطفى لرائدات الأعمال» ومعها تسع مبدعات لهن قصص ملهمة أيضا. تلك الحكايات حقيقية من دم ولحم الواقع، بطلاتها قادرات على صنع المستحيل وتغيير الواقع لأنفسهن وغيرهن من النساء اللاتى فى حاجة إلى مصدر رزق يفتحن به بيوتهن، ويربين أطفالهن.

هؤلاء النساء الرائعات سوف تتبناهن المسابقة، وجمعية أطفال السجينات، سيتم عمل شراكات بينهن وبين الجهات الداعمة لريادة الأعمال فى مصر وخارجها، وسوف يكن المدربات اللاتى يقمن بتدريب السيدات اللاتى ترعاهن وتمكنهن الجمعية.

هل هناك حكايات أجمل من هذه يا جوناثان جوتشل؟

نجوم الكتابة

شاء قدرى الرائع أن أولد فى أسرة عاشقة للحرف، شغوفة بالكتاب، صاحبة رسالة تنويرية، تؤمن بغرس قيمة الثقافة فى عقل وقلب الإنسان منذ طفولته المبكرة. أبى سيد مصطفى رحمه الله أسس دار سعد مصر للطباعة والنشر عام 1920 وأطلق عليها هذا الاسم تيمنًا بالزعيم سعد زغلول. كانت تلك الدار رائدة فى مجال النشر فى ذلك الوقت ونشرت لكبار الأدباء منهم توفيق الحكيم وطه حسين. حمل الابن حمدى مصطفى الراية، لينطلق بالدار إلى آفاق واسعة من التطوير والتوسع. فى عام 1984 أطلق فكرة مسابقة يتقدم إليها أصحاب المواهب فى الكتابة والرسم. تقدم لها عدد كبير واختار بنفسه الفائزين.

لم تكن الجائزة فى ذلك الوقت مادية، لكنها كانت أغلى وأهم. تبناهم حمدى مصطفى بالكامل، وسخر لهم كل الظروف المناسبة لكى يتفرغوا للإنتاج والكتابة. كان متأثرًا بكتب الجيب التى يراها فى سفراته إلى أوروبا، حيث يقرأ الشباب والكبار تلك الكتب فى المترو وعلى محطات الأتوبيس. فكر كيف ينتج كتبًا عربية مائة بالمائة بكتاب موهوبين مصريين، وكيف تصدر فى هيئة سلاسل يتابعها الشباب بشغف وترقب؟

نجحت الفكرة العبقرية، واكتشف حمدى مصطفى نجوم الكتابة ومنهم دكتور أحمد خالد توفيق ودكتور نبيل فاروق وخالد الصفتى ومحمد سليمان عبد الملك وتامر إبراهيم ومحمد هشام عبية وغيرهم كثيرون. كما اكتشف رسامين كبارًا ومنهم إسماعيل دياب.

بعد رحيل الناشر المتفرد حمدى مصطفى، حمل المسئولية الكبرى والإرث الثقافى والأدبى العظيم الابن مصطفى حمدى مصطفى، كان أمامه تحديان كبيران. الأول هو الحفاظ على هذا التاريخ المحترم لأسرة عريقة فى النشر والثقافة، والثانى هو مواكبة عصر التكنولوجيا الذى يتحرك بسرعة الضوء وينتج كل ثانية جديدًا فى كل المجالات، ومنها مجالا النشر والثقافة.

فى التحدى الأول جاءت فكرته أن نجدد الفكرة الأم بإطلاق مسابقة جديدة لاكتشاف نجوم جدد فى كتابة الرواية والقصة القصيرة وأدب الطفل والسيناريو والحوار والكوميكس. وبالفعل أعلن عن المسابقة فى نوفمبر 2022 وتقدم لها ما يقارب الألف متسابق فى الفروع المختلفة. الأعمال مبشرة كما أكد أعضاء لجان التحكيم، أعلنت نتائج القائمة الطويلة يوم الأحد الماضى 23 أبريل 2023 تزامنًا مع اليوم العالمى للكتاب. وسوف تعلن القائمة القصيرة نهاية شهر مايو القادم إن شاء الله. تجديد الأفكار البراقة عمل محترم، يستحق التقدير والدعم. وتوقعاتى أن المسابقة سوف تهدى مصر نجومًا جددًا فى التأليف والكتابة مثلما فعلت المؤسسة العربية الحديثة على مدار تاريخها المشرف.

نور الكلمات

«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»

تهزنى تلك الآية من أعماقى، تزلزلنى كلما قرأت سورة البقرة، واقتربت من نهايتها. حوار ربانى مكثف، قوى الكلمات، المعنى مذهل وعميق، يدور الحوار بين الخالق الأعظم وعبده، يطمئن الله عباده «لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها» ويتضرع العبد لربه «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا». مشاعر إيمانية تجلى الروح، وتفتح نوافذها لترى ما لا يرى، وتسمع ما لا يسمع. تنفذ شحنة تلك الآية العظيمة إلى قلبى فتغسله، وتطهره من شوائب الدنيا وجروحها. أحب قراءة القرآن الكريم، وسورة البقرة من أقرب السور إلى قلبى وروحى لأنها فى رأيى تلخص دستور الحياة التى يجب أن يحياها الإنسان فى سلام داخلى بعيدا عن التغول على حقوق الآخرين بغير حق، أو ارتكاب أفعال الشر بأنواعها وأولها الظلم واستباحة هدر طاقة الإنسان بشتى الصور.

«وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ» الآية 280 من سورة البقرة أتوقف عندها متأملة هذا التوجيه الإلهى الذى يحيى فى القلوب مشاعر الرحمة والإنسانية، ويوقظ الضمائر. فلماذا يدمر إنسان إنسانًا غيره لمجرد تعثره عن دفع دين مستحق، إذا كانت هناك نية للدفع وإعادة الحق لأصحابه لدى المدين؟ لماذا لا نصبر قليلًا حتى يدبر هذا الإنسان أموره، ويدفع ما عليه قبل أن نلجأ إلى المحاكم، ومنها إلى السجن وتشريد الأطفال وهدم أسر بكاملها؟