نوال مصطفى تكتب: «المخزنجى» صياد اللحظات الخاصة

نوال مصطفى
نوال مصطفى

بدأت فى قراءة قصص الدكتور محمد المخزنجى «صياد النسيم». القصة الأولى عنوانها «كيف صرت طاهيا ماهرا فى ليلة واحدة». اكتشفت بعد الانتهاء من أولى قصص الكتاب أن محمد المخزنجى الذى عرفته، وقرأت له منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما مايزال قادرا على إثارة دهشتى، وشحن فضولى وتأملى لتكوينه الإنسانى وصوته الأدبى الفريد.

إنه من فرط الصدق الأدبى والإنسانى الذى يعد سمته الأولى يبرع فى التقاط خيوط تبدو مختلفة، متباعدة عن بعضها، لكنه بقدرة عجيبة يصنع منها نسيجا أدبيا فاتنا، يضعك أثناء قراءة قصة من قصصه فى حالة تأمل لا تستطيع الإفلات منها. كالمعزوفة الجميلة تود أن تعيد الاستماع إليها، تتوقف عند جملة، تنتشى بالجمال الصادح منها. عند المخزنجى لا تستوقفنى الجملة المنسوجة بخيوط الإحساس العالى، أو عذوبة اللغة الرائقة كحبات اللؤلؤ فحسب، بل يشغلنى الحكاية والصنعة فى الكتابة التى من فرط التمكن تخرج منه كالولادة الطبيعية لا القيصرية.

لا تشعر أنه جهد نفسه حتى تأتى المولودة بعد عسر، فالقصة تتمتع بانسياب، وصدق إنسانى مذهل، يسحبك دون إرادة لتصبح جزءا منها. فى قصة «كيف صرت طاهيا ماهرا فى ليلة واحدة؟!» يبدأ المخزنجى نصه الجميل مع الطبخ، وكيف دخلت تلك الملكة حياته فجأة دون سابق تأهيل. يأخذنا إلى هذا العالم اللذيذ بكل بهاراته، ونكهاته، ويسوق أسماء لأطباق مصرية مثل الفول وطرق إعداده بعشرين لونا من «التحبيشة»، وملفوف ورق العنب، ثم ينتقل إلى الحديث عن أكلات من بلاد العالم، حلو الجولاب جامون الهندى، البلوف الكازاخستانى، حراق أصابيعه السورى، الطاجين المغربى، البلمينى الروسى، الفاهيتا المكسيكى، المسخن الفلسطينى، الكبسة الخليجى، فيليه عثمانلى التركى، المقليات الصينية..

تخدعك البداية حتى تظن أن المخزنجى مثل أدباء عالميين كبار يلعب على تيمة الطعام والطبخ، لينشئ علاقة بين الحواس الإنسانية المختلفة، المتقاطعة فى حياة البشر، والتى تؤثر على اختياراتنا وإحساسنا بالتفاصيل التى تصنع الحياة.. لكنه يعرج سريعا إلى نقطة البداية، لحظة ولادة تلك الموهبة الممتعة، فيستدعى ليلة من ليالى الشتاء من ذلك الزمن البعيد، الذى شهد انهمارا غزيرا للأمطار لم يكن معتادا أن يحدث فى مصر واستمر لعدة ليالٍ متتالية، بلا توقف!.. فى ذلك الوقت من الشتاء يتزامن إحساس بطل القصة بالوحشة، مع رهبة صوت البرق والرعد، تكتمل غربة الروح عندما يعلو صوت الراديو معلنا خبر رحيل شاعر كبير القامة له فى نفس البطل مكانة عالية، يدق الباب شاعر سكندرى، التقاه مرة واحدة بأحد مؤتمرات الأدباء بالإسكندرية، جمعتهما محبة الشاعر الذى رحل الآن، وسهرا ليلة كاملة يرددان «الوتريات» أرق أعماله وأعمقها، مضى الوقت طويلا يحاول كل منهما أن يؤنس الآخر مخففا من ثقل الحزن وقسوة الفقد، غيمة من الأحزان وسحابة من الخواء خلفها الشاعر الكبير.

ظلا الليل كله يرددان أبياته بالتناوب و بينهما أكواب الشاي التى يذهبان معا لصنعها فى المطبخ. حتى انتصف الليل، وبدأ الجوع يصرخ فى معدتيهما. هنا تبدأ تيمة القصة ويتجلى عمقها، عندما يلتقيان رجلا كهلا، بسيطا، يرسم المخزنجى هيئته وشكل دكانته الفقيرة جدا، فترى لوحة تشكيلية دقيقة التفاصيل، مقدرة هائلة على تطويع الكلمة والجملة لتتحول فى مخيلة القارئ إلى خطوط وألوان، متحركة، نابضة، ناطقة بالصوت والصورة. مع هذا الرجل صانع الفلافل الساخنة ينكشف الستار عن تراجيديا إنسانية موجعة، طبعا لن أحرق متعة القراءة وأكمل الحكاية، بل سأدع ذلك كله للقارئ العزيز.. وكأن الكاتب يريد أن يقول إن تلك الخيوط: الألم، الحزن، المطر، البرق، الرعد، الغمام تنصهر أحيانا لتصنع ولادة لحياة جديدة من الأمل، البهجة، المتعة، الإبداع، الخلق، وهذا هو سر الحياة وسحرها فى آن معا.