حذرونى كثيرا من ذلك اليوم، صوروه كئيبا حزينا قاتما، بدا فى عيونهم يوما فاصلا بين حياة نشطة ممتلئة صاخبة وأخرى خاملة كسول مملة فارغة.
حدثتنى جارتى التى سبقتنى للخروج على المعاش بأنها فقدت طعم ومعنى الحياة منذ ذلك اليوم، تبدل حالى تماما اهكذا تقول: شعرت بأننى كبرت أعواما كثيرة، فقدت الطاقة والقدرة على الحركة، باتت أيامى مملة، لم أعد تلك النشيطة التى تستيقظ مع أول ضوء للشمس، تتحرك بسرعة لتطهو طعام الغداء قبل أن تجهِّز طعام الإفطار وتوقظ الزوج والأولاد، يخرج الجميع بينما تكون هى آخر من يغادر البيت، تمتد أيديها لترتيب ما يتسنى لها عمله قبل أن يداهمها وقت الذهاب للعمل، ساعات طويلة تقضيها بدأب وهمة ونشاط، لا تدخر جهدا لإتقان عملها مثلما تفعل فى بيتها وطلبات أولادها، مثل آلة نشطة لا تتوانى ولا تتوقف، تعمل بكل ما أوتيت من جهد، تحقق قدرا من أحلامها حينا وتتعثر أحلام أخرى، لكنها لا تكف عن مواصلة الطريق، ربما لم تنجح بقدر ما كانت تحلم، لكن يكفيها أنها بذلت أقصى ما تستطيع.
هكذا تعزى نفسها، وإن لم تستطع إخماد كلمات التأنيب التى اعتادت أن توجهها دوما لذاتها سواء فيما يخص عملها أو رعايتها لبيتها وأولادها.
مرت سنوات الشقاء الصعبة مهنيا وإنسانيا، وتوهمتُ أن مجرد وصولى للمعاش سيحمل لى قدرا كبيرا من الراحة، لن يؤنبنى ضميرى ثانية لتقصير ما بالغت فى اتهامى به فى عملى، ولم يؤنبنى عن تقصيرى تجاه أولادى بعدما كبروا وتزوجوا وأصبح لكل منهم حياته الخاصة، هكذا توهمت قبل أن أفيق على حالة الملل التى انتابتنى بعد شهور قليلة من خروجى على المعاش، أصبحت كسولة لأقصى حد، أنام بعد الفجر وأستيقظ مع أذان الظهر، أطهو الطعام بكسل ومن غير إتقان، لم يعد يهمنى انتقادات زوجى بعدما غاب إحساسى بالتقصير الذى يجعلنى دوما أحاول أن أوفر لبيتى كل احتياجاته حتى أسلم من تأنيب الضمير، وشعورى أن عملى يستنزف قدرا من طاقتى وجهدى على حساب بيتى وأولادى.
لم أعد تلك السيدة متقدة العقل المتابعة لكل ما يجرى حولها بتركيز، أصبت بضعف التركيز ولم يعد لى طاقة على الحدديث، فقدت رغبتى فى التواصل بعدما كانت حياتى الاجتماعية صاخبة قبل خروجى للمعاش، لم تعد لدىّ رغبة فى الخروج، وزاد التهامى للطعام فزاد وزنى وثقلت قدماى وزادت حدة آلام ظهرى، أصبحت أكثر حساسية تجاه أولادى، أنتظر مكالماتهم وزياراتهم وأتعشم بالمزيد، وأشعر بالضيق إذا ما غابوا عنى قليلا، عكس ما كان يحدث قبل خروجى للمعاش، فكنت أكثر تسامحا معهم وتقديرا لظروفهم وتقبلا لأعذار غيابهم.
وصرت أيضا أكثر ميلا للاكتئاب، تنهمر دموعى بسرعة وبدون سبب يستحق، وباتت ضحكتى عزيزة بينما كانت الابتسامة لا تغادرنى قبل اليوم الحزين.
ليست وحدها لكنه شعور كثيرات ممن سبقوها ولحقوها فى الخروج للمعاش، ومع ذلك أشعر أن تجربتى ستكون مختلفة، لا أتخوف من خروجى للمعاش على العكس أسابق الزمن للوصول إليه، لا أدعى البطولة لكنه الإحساس بالرضا واليقين بأن لكل سن جماله، ومثلما كان لسنوات الشقاء والعمل متعة بعدما تحصد ثمار تعبك نجاحا فى عملك ونجاحا لأولادك وتنال أكبر نعمة من الله بضم أحفادك ليعوضك حبهم كل حلم لم تطله يدك، وتخفف طبطبة أيديهم الرقيقة كل ألم ظننت أنه عصىّ على المداواة.
حان وقت الهدوء والراحة والمتع بالحياة دون صخب مزعج وخطوات لاهثة متعجلة، آن أوان التمهل والتدبر والتأنى والحكمة فى التعامل مع كل تفاصيل الحياة.
لا أخشى ملل الحياة الروتينية البطيئة، لن يداهمنى ثقل النهار ويحيرنى كيف أمضى ساعاته، ولن يقبضنى اليل بسواده فأعد الساعات كى يبزغ نور الفجر.
لن أنام طيلة النهار وأصحو كل الليل، لن أدع ساعتى البيولوجية تتعطل أو تعطب، سأحافظ عليها متزنة منضبطة كما كانت، سيتحول يومى ليوم عمل وإن اختلفت تفاصيله، سأخصص وقتا للقراءة وآخر لأعمال المنزل وثالثا للأهل والأصدقاء، لن أتوقف عن التردد على النادى وسأنجح فى تكوين صداقات جديدة تصاحبنى فى الرحلات المختلفة التى يخصصها للأعضاء خاصة كبار السن منهم.
أصبحت رسميا من كبار السن وأفتخر، لم تزعجنى يوما سنوات عمرى كلما تقدمت للشيخوخة، فيقينى أن الروح هى من يصيبها العجز لا الجسد، لا أنكر أن الزمن نال من روحى الكثير، لكنى جُبلت على المعافرة، سأظل أعافر ما تبقى لى من عمر، أتمنى ألا يكون طويلا، ليس تشاؤما لكنه الإحساس بأننى أديت دورى ربما لا يكون على أكمل وجه أو على النحو الذى كنت أتمناه، لكنى حاولت قدر استطاعتى وليسامحنى الله على أى تقصير لم أقصده.
أخطو أولى خطواتى للمعاش بصدر رحب راضٍ موقن بأن القادم أكثر هدوءا واستقراراً وربما يكون أكثر جمالا بنعمة الأحفاد مكافأة نهاية العمر الربانية التى تعيد إلينا البهجة وتعيد لروحنا الأمل ولأجسادنا القوة، فنرتد معهم ليس للشباب وإنما للطفولة، فنصبح أطفالا مثلهم نشاركهم اللعب والضحك والجرى والغناء بحجة أننا نلاعبهم، وفى الحقيقة أننا نتخذهم ستارا يحجب رغبتنا فى اللعب ونخجل أن نصرح بأن حاجتنا لتلك الساعات التى نلهث فيها وراء أحفادنا تفوق كثيرا حاجتهم إليها.
لصاحبة هذه الكلمات أقول:
مرحبا بالخروج على المعاش، شعار أرفعه معك، وأحلم مثلك بتلك الحالة من الهدوء والسكينة والرضا، أوقن أن صخب الحياة لن ينتهى وأن وتيرتها ستظل تلاحقنا بأحداثها المتلاحقة لنظل أسرى لإزعاجها، لكن من المؤكد أننا سنكون أكثر حكمة فى التعامل معها وأكثر هدوءا فى تقبلها وتحملها.
أيام جديدة فى انتظارنا نتمنى أن تكون أجمل، ولن يزعجنا كثيرا إذا لم تكن كذلك لأننا خبرنا طبع الدنيا وأيقنا قدرة الله أن يبدل حالنا للأحسن وأن مع العسر دوما يأتى اليسر وراحة البال، الحمدلله.