أحمد شافعى يكتب: مجنون الباء

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

راعنى قبل أيام أن رأيت وسائل إعلامية عدة تبدى اهتماما باللغة، وعهدى بوسائل الإعلام أنها لا تهتم باللغة العربية، سواء أكانت موضوعا للخبر أم أداة لنقله. وفيما أخذت أقرأ خبرا منسوبا إلى موقع قناة العربية الإخبارية فى ما أذكر يفيد أن مجمع اللغة العربية المصرى أجاز مفردة «الاستعباط»، حدثتنى نفسى  بأن هذه هى اليوتيوب، لقد بدأ العالم أخيرا يعرف أن مثل هذا الخبر هو الخبر بحق، وأن أخبار اللغة هى الجديرة بأن تتصدر النشرات.

اقرأ أيضا| وجدى الكومي يكتب: شلال النُبل

ويبدو أن المجمع انتبه إلى هذه الضجة، وخافها، فسارع يعلن أن خبر الإجازة قديم، مضت عليه سنوات، كأنما يقول انصرفوا عنى بضجتكم التى لا أريدها ولا أصلح لها. وفهمت ما حاولت من قبل ألا أفهمه. لم يكن اهتمام وسائل الإعلام تلك بإجازة الاستعباط اهتماما باللغة، وإنما بالاستعباط نفسه، استعباط الناس ولفت انتباههم بأى ذريعة.

مع ذلك، أفادتنى الجلبة العابرة فصرت من متابعى صفحة المجمع على فيسبوك. وأنا من قديم يفتننى عمل مجمع اللغة العربية، يفتننى هذا العمل الدئوب مع اليقين بأن أحدا تقريبا لا يريد نتائجه، ولا ينتظرها. يفتننى إلى حد أننى تقريبا أحاكيه، فأنا بطريقة أو بأخرى، مجمع لغتى العربية.

أجد اليوم ـ السبت 12 نوفمبر ـ فى ذكريات فيسبوك أننى كتبت قبل بضعة أعوام أقول: تخيلوا مأساة أن تقرأوا كتابا مهمًّا ترجمه شخص لا يعرف الفارق بين «يتوقف على» و«يتوقف عن». فى مثل هذه الحالة، تثير الجملة السليمة قلقك أكثر من الجملة المعيبة. فالجملة المعيبة أنت تصححها بنفسك، وإن أجهدتك، أما السليمة فتجد نفسك مرتابا فيها: لماذا أنت سليمة؟ أين عيبك؟ ولماذا لا أراه؟ انطقى يا سافلة، افتحى الدولاب واكشفى ما فيه يا كلبة؟
ما سبق، طبعا، مترجم من العامية إلى الفصحى. وما سبق طبعا لا يخلو من مبالغة. فلم أصل، بعد، إلى هذه الدرجة من الجنون، ولم يستول عليَّ بعد هذا الوسواس اللغوى القهري. لكننى قطعت شوطا لا بأس به على هذا الطريق، وأوشك أن أتذكر خطوتى الأولى فيه.

فى أوائل هذا القرن، أخذت شائعات تتردد بقوة عن انبعاث الحياة فى جثة قاعدة لغوية منسية تخص استعمالا لحرف الباء. قيل فى ذلك الحين، ومنذ ذلك الحين، إنها قاعدة (دخول الباء على المتروك).

وقد كان عكس تلك القاعدة قد شاع فينا طويلا فلم يكد يسلم منه أحد. وبتطبيق القاعدة الناهضة من رفاتها، يتحتم عليك كى تقول إن رجلا تخلى عن الكتابة بالقلم وبدأ يستعمل لوحة المفاتيح أن تقول إنه استبدل بالقلم (المتروك) لوحة المفاتيح. 

قد يبدو لكم الأمر بسيطا، وكذلك بدا لى أيضا للوهلة الأولى. فلم يكن عليَّ إلا أن ألصق الباء فى المتروك كلما رأيت أن أكتب أنى استبدلت بشيء شيئا غيره. ولكن تبين أن الأمر أكثر تعقيدا عند القراءة. فمع الشيوع الجديد للقاعدة القديمة، كثر استعمالها، أو ربما كثر انتباهى أنا إلى استعمالها. فصرت كلما صادفتها أتساءل: ولكن، هل وصل خبر القاعدة إلى هذا الكاتب، أم أنه لم يزل فى الضلال القديم؟ أم بلغه الخبر وقرر ألا يأخذ بالقاعدة مؤثرا قاعدة جواز اتباع الخطأ الشائع؟ وبناء عليه: ما الذى ينبغى حقا أن أفهمه الآن حين أقرأ أن شخصا استبدل لوحة المفاتيح بالقلم؟ بأى أداة لعينة حقا يكتب هذا الشخص؟ ولم أدر حقا ماذا أفعل فى ذلك الشك الذى تسرب إلى نفسى وصار من منغصات القراءة.

وعلى سيرة الشك. كان الشك أيضا من خطواتى الأولى على طريق الهوس بالتصحيح. فقد حدث فى أوائل هذا القرن أن بدأت اجتنب استعمال فعل «الشك» هذا. ولكن قبل أن أمضى إلى حكايتى مع الشك: ما الذى تفهمه حقا حين يقول لك قائل «إننى أشك فى أن اللغة العربية سهلة»؟ هل تفهم أنه «يحسب» أنها سهلة؟ أم تفهم أنه «يستبعد» أن تكون سهلة؟ ولعل ذلك الخلل فى الفهم وقع بتأثير من طول دراستى للإنجليزية.

كنت فى تلك الفترة أعمل مترجما لأخبار وكالات الأنباء، وهذه الأخبار على سهولة لغتها، تقتضى درجة غبية من أمانة الترجمة، ضمانا لأن تكون الكلمات جميعا واضحة لا تحتمل لبسا أو تأويلا. ثم إن ترجماتى لتلك الأخبار كانت تجد طريقها إلى جهات ذات شأن فى الدولة قيل لى مبكرا إنها لا تتسامح مع الخطأ. حينذاك بدأت تساورنى شكوك تجاه استعمال فعل (يشك) استعمال أفعال الرجحان.

ووجدت أننى لا أستطيع أن أضع يدى على معنى له اطمئن إليه فصرت لا أكاد استعمله، مؤثرا عليه أفعالا أخرى. ولكن هذا عندما أترجم، أو أكتب، أما حينما أقرأه عند غيرى فهذا أمر آخر.

وعلى سيرة «لا أكاد»، هل أتاكم نبأ أن (بالكاد) خطأ؟ ذلك أيضا من الأخطاء الشائعة التى انتشرت تصويباتها فى مثل وقت باء المتروك، ولعلى لو مضيت فى هذا الاسترسال لما توقفت، فقد كثر فاضحو الأخطاء الشائعة، واستشرت فينا تصحيحاتهم لأخطاء نجدها الآن ونحن نعيد قراءة كبار كتابنا الذين تركوا لنا كتبا عظيمة ورحلوا قبل هذه النهضة التصحيحية. 

لكن حسبى أن أقول إن باء المتروك كانت خطوتى الأولى على طريق الجنون الذى لحسن الحظ لم أكمله حتى النهاية. ولا أعنى بالجنون هنا الهوس بالتصحيح، أو الهوس برصد أخطاء الآخرين، إنما الجنون المقصود هو ما يمكن أن يحدث لمن يفقد الثقة فى أنه ومن يعيش بينهم يتكلمون لغة واحدة، ولا أعنى بهذا مطلقا أننى أحب أن نقول جميعا كلاما واحدا، أو نعبر عن آراء واحدة. 

قصرت جنونى على نفسي. مضيت فى أثناء القراءة انتبه للأخطاء، أعنى الأخطاء العادية كرفع المنصوب أو نصب المجرور، وأصححها فى الهوامش. وكان ذلك يعطل القراءة بالطبع، لكنه لم يمنعها. وجعلت لى غاية من هذا، وأحسبها غاية نبيلة.

وقررت أننى أحمى المستقبل، أو بالأحرى اثنين فقط من قراء المستقبل، فلمَّا تبيَّن لى بكل أسف أنهما لن يكونا ابنيَّ، لم يعد يعنينى تصحيح أخطاء النحو والإملاء وإعادة صياغة الجمل المرتبكة بما يقلل من غموضها.

وبدا أننى تخففت من تلك المهمة المصاحبة للقراءة، والمعطلة لها، وآن لى أن أرجع أنانيا كما ينبغى لكل قارئ حقيقي، فأقرا وحسب، مستهدفا نفسى وحسب، مكتفيا بين الحين والآخر بسباب أوجهه أو لعنة أستنزلها.

دون أن أدون من ذلك شيئا. لكن هيهات. كان الجنون الحق ينتظرني، ربما عقابا لى على المهمة التى كلفت بها نفسى وأعفيت منها نفسي، هكذا من تلقاء نفسي.
لا بد أننى قرأت تلك القصة القصيرة فى كتاب من تلك الكتب الرخيصة التى كانت تصدرها هيئة الكتاب وكنت فى طفولتى أرجع بالعشرات منها كلما زرت معرض الهيئة الدائم.

أو معرض القاهرة السنوي. ليس بوسعى للأسف أن أتذكر اسم مؤلف القصة أو عنوانها أو عنوان الكتاب. تحكى القصة عن شخص لا يكمل قراءة كتاب، لأنه كلما صادف هامشا يشير إلى كتاب آخر، سارع إلى الكتاب الآخر.

وبدأ يقرأ فيه ليتحقق ربما من دقة الهامش أو ليستزيد من المعرفة، لكنه قبل أن يصل إلى موضع الاستشهاد يصادف هامشا يشير بدوره إلى كتاب آخر، فيسارع إلى الكتاب الآخر، وهكذا بلا نهاية. 

مجنون طبعا، مجنون واضح الجنون، وساحر الجنون أيضا. ولم أكن أعرف وأنا أقرأ تلك القصة طفلا فى الثمانينيات أننى بصورة ما أطلع على الغيب، غيبي، على النفس التى ستكون لي، أو سأنتهى أنا إليها.

لا أقول إننى أسلم نفسى للهوامش، طلبا للتثبت من دقة النقل مثلا، أو نشدانا لـ(لأصل) العميق، لا أقول شيئا من ذلك لأننى لا أفعل هذا. إنما الشبه بينى وبين ذلك الرجل هو أن كل كتاب أفتحه بات محض مسوغ للرجوع إلى المعجم. فالظاهر أن فقدان الثقة فى ما يعنيه الآخرون بما يكتبون، فقدان الثقة الذى أطلقت الباء شرارته قبل سنين طويلة، قد استفحل أمره الآن، أو خطره.

من المؤكد أننى أعرف معنى لفظ «القصة»، بل إن بوسعى دون الرجوع إلى أى مرجع عدا ذاكرتى وما درسته أن أكتب مقالة لا بأس بها فى تعريف القصة وأنواعها وأشكالها الجديدة، وبوسعى أيضا أن أربط بين فعل القص بمعنى الحكى.

وفعل القص بمعنى تتبع الأثر، فهذا الربط أيضا شائع. لكن هذا ما حدث فى أحدث كتاب فتحته، وأضرب به مثالا لكل كتاب تقريبا شرعت فى قراءته خلال الفترة الماضية التى لا أحب أن أحددها بدقة.

فى الصفحة التاسعة من رواية حديثة الصدور صادفت كلمة «يقص»، بمعنى يحكي. فما كان منى إلا أن انتبهت -أو إن شئتم فقدت انتباهي- إلى فكرة جديدة عليّ. خاطر خطر لى بأن «يقص» يعنى «القطع» أيضا.

وعلى الفور نحيت الرواية جانبا -مؤقتا فى ما أرجو وإلى الأبد فى ما أعلم- وهرعت إلى لسان العرب راغبا فى أن أعلم ما الذى يعنيه «يقص» فلم يعد يعنينى ماذا يعنى به الناس. أصبح اللفظ نفسه هو الذى يكلمني، وهذا جنون.

لعلى قرأت الفعل ومشتقاته من قبل عشرات آلاف المرات، وكتبته، وسمعته، وذلك حالى مع كلمات كثيرة، لكنني، بعد تأمل فى لسان العرب، انتهى إلى أن ربط القص أى الحكى بالقص أى تتبع الأثر ليس بالربط الأمثل لي، ليس بالربط الذى يكشف لى معنى «يقص» كما بت أريده. هناك ربط آخر، ربطه بالقص أى القطع. 

يقص الشيء يقطعه، ويقص ما بينه وبين أخيه أى يعتزله. وهذا هو القص الجديد. وما يوضع بين أيدينا بوصفه قصة أو رواية ليس إلا مزقة من نسيج كبير، اقتطع منه كاتب ما أراد أن يبرزه دون غيره، حاجبا بقية الصورة، وبقية الحكاية. فهل يكشف لى هذا الربط زيف القص واصطناعه وضررة التعامل معه بحذر، أو ربما اجتنابه تماما؟ لا، ليس هذا هو الأمر. 

الأمر أنى أتبين كلما نظرت فى المعجم أن اللغة عرفت الكثير مبكرا للغاية، واكتنزته لمن يبحث عنه، وأن فى المعجم حقائق كثيرة مدفونة، ولكنها فى الغالب حقائق لن تعنى غير مكتشفها، بعدما اصطلحت الأغلبية على غير تلك المعاني.

وإذن، هذا تقريبا ما أفعله. أصنع لغة شخصية. لغة لفرد واحد. أقص ما بينى وبين الناس. استبدل اللغة العربية باللغة العربية. ما دمنا فى ما يبدو لن نتكلم أبدا نفس اللغة، آسف جدا، بل اللغة نفسها.