المعلم خط الدفاع الأول عن الأمة

د. يحيى عبدالعظيم
د. يحيى عبدالعظيم

زكى الله العلم وأهله، فكانت الآية الأولى التي نزلت على قلب رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ هي: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ"، وجاءت كلمة القراءة فعلا، وليس اسما؛ لأن الفعل يحتاج إلى عناصر متعددة تتداخل فيه، وتتكاتف، وتتآزر بعضها مع بعض حتى يكون العلم شركة بين أهله.

"اقرأ" ما أنا بقارئ؛ كان ذلك هو رد المصطفى ـ صلوات ربي وتسليماته عليه ـ على سيدنا جبريل عليه السلام في أول نزول له بالوحي في غار حراء بمكة المكرمة قدسها الله، فالمشاركة هنا ليست قائمة؛ إذ إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤهلا كي يقوم بدوره المنوط به، والذي اختاره رب العزة جل وعلا واصطفاه من أجله.

وعندما هيأ أمين الوحي عليه السلام نبيَّ الأمة لحمل الرسالة، وتأدية الأمانة؛ كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو معلم الأمة الأول، بل معلم الإنسانية الأول الذي أرسله ربه كافة للعالمين بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا؛ ليخرج الناس من جاهلية العقول والقلوب إلى نور الوحدانية، وتمهيد الدروب، فانتشر الإسلام، وباتت تعاليمه جلية نراها رأي العين في كل زمان ومكان؛ تشع نورا وحضارة وألقا لكل أتباع ديننا الحنيف في مشارق الأرض ومغاربها.

فعَنْ عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: أول مَا بدئ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءً، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَة، فتزوده لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ: "مَا أَنا بقارئ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ اقْرَأْ، فَقلت: مَا أَنا بقارئ، فأخذني، فَغطّني الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنا بقارئ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حَتَّى بلغ {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} . قَالَ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ 5، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ [عَنْهُ] الرَّوْعُ، فَقَالَ يَا خَدِيجَةُ: مَا لِي؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ. وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، فَقَالَتْ لَهُ: كَلا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ [أَبَدًا] إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ [وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ] ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.

صفات المعلم وأخلاقه

ولو وقفنا على صفات وأخلاق المعلم من خلال هذا الحديث الشريف؛ لوجدناه تفيض رقة وإنسانية وأخلاقا كريمة قويمة؛ جسدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وصفته به السيدة خديجة رضوان الله تعالى وبركاته عليها عندما قال لها صلى الله عليه وسلم: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، فَقَالَتْ لَهُ: كَلا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ [أَبَدًا] إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ [وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ]، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.

فهذه هي صفات المعلم الحق الذي لا يقتصر دوره على التعليم فقط، وإلا لاستغنينا عنه في عصرنا الحديث بالإنسان الآلي؛ ليقوم بدوره، فالمعلم أب وأخ وابن عندما يكون عنصرا فعالا في مجال عمله، وفي محيط مجتمعه، وفي أمته؛ منتج لكل قيم، مساهم في كل بناء.

تقدير المعلم

أما تقديره، فلم ينل أحد في كل مناحي الحياة على المستويين الإنساني والاجتماعي مثلما كرم الإسلام أبناءه وأتباعه، وأظهرهم في أبهى صورة، وأكرم حلة، وكان المعلم في طليعة أولئك الذين كانت لهم الريادة والتكريم والتوقير والاحترام، فكانت الأمة الإسلامية في مجدها الأزهر تنشر العلم شرقا وغربا بما ينير للإنسانية دروبها، ويخرجها من جهالات الجهال وحماقات التافهين.

لقد حث الإسلام على العلم والتعلم وذلك من أول سورة أُنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) وقال الله تعالى (ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)، وقال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

وروى الإمام الترمذي في سننه بسنده المتصل عن أبى الدرداء قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ وإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إوِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ َأخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظِّهِ أَوْ بِحَظٍّ وَافِرٍ.
حقوق المعلم

وبعد كل ذلك، فإن للعلم وأهله على أولي الأمر حقوقا يعرفون قدرها، ويقدرون قيمتهم، وكلما روعيت هذه الحقوق، وتوافرت؛ كان المعلم في الصف الأول من المدافعين عن الدولة، بل عن الأمة كلها؛ إذ لا ينقذ الأمة من الفكر الضال والمنحرف إلا المعلم الذي يأخذ بيد طلابه إلى الطريق القويم والفكر المعتدل والإسلام الوسطي الذي حثنا عليه ديننا قرآنا وسنة مطهرة، فالمعلم هو الحصن الحصين وحائط الصد المكين قبل الجيوش في تدجيج العقول بسلاح العلم، وبصحة التفكير وبالانتماء للأوطان والإيمان بالله الواحد الديان بعيدا عن انحراف المنحرفين، وجهالات المتطرفين.

فالمعلم يبني العقل، ويغذي الروح بكل ما يفيض دينا وعلما وإنسانية ورحمة، فالمعلم هو مالك زمام العقول الذي يصوغها صياغة الألماس والذهب حتى تكون نواة لمجتمع آمن من التطرف الفكري والجسدي، والتشدد الذي لا نهاية له سوى ما نراه من حماقات أولئك الذين يرتكبون الجرائم باسم الدين، والدين منهم براء.

إن وسطية الإسلام لا ينقلها ولا يرويها، ولا يغذي بها العقول إلا المعلم، فكيف لا نقدمه؛ ليكون في الصف الأول من الأمة قيمة وقامة وعلما، وصيانة لوجهه من الفقر والعوز؛ حتى يقوم بالدور المنوط به خدمة لهذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها، ففضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فضْل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم. وإن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير، وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن النبي أنه قال: من علّم علما فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء".

وعلى ذلك فإن الإسلام كان الأسبق في الاحتفاء والاحتفال بالمعلم وقيمته ومكانته من الأمم المتحدة التي تجعل يوم الخامس من أكتوبر من كل عام مخصصا احتفاءً بالمعلم، فديننا يحتفي بنا في كل يوم وليلة بقيمة ديننا الحنيف وحضارة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.

 

د. يحيى عبد العظيم 

الصحفي بمؤسسة أخبار اليوم 

الأستاذ المساعد بجامعة بيشة ـ المملكة العربية السعودية